كنت كثيرا ما أشعر حين بدأت عملي كطبيب نفسي بأن هناك ما يفصل بيني وبين الناس الذين هم مادة عملي، وكم ما شعرت أن معظمَ ما درسته وأتقنت حفظه غير صالح للتطبيق في مجتمعنا، وأن الفجوة كبيرة في كثير من الأحيان بين ما أحاول إيصاله لمرضاي وبين ما هم مستعدون لتقبله!، ولا أظن نفسي الوحيد الذي استشعر ذلك فكل طبيب نفسي واعٍ يعمل مخلصا في بلادنا يعرف ويفهم جيدا ما أقوله، ولا يمكنُني أنْ أنسى تعبيرات وجوه بعض مرضايَ ووجوه ذويهم إذ يَنْظُرُ لي بعضُهُم نظْرَةً تنمُ عن الاستغرابِ أو عدم الاستيعابِ لما أقولهُ لهم من نصائحَ يسمونها ذهبيةً في المراجع التي درستُها وينظرُ لي البعضُ منَ المُثَقَّفينَ نوعًا نَظْرَةً تَنُمُّ عن لوعَةٍ فقدْ أدرَكُوا أنني مسكينٌ يحسبُ ما تعَلمَهُ كافيا لمساعَدَة الناس وهو في الحقيقةِ دون ذلك، وَبعضهُمْ يقول لي: ومالنا نحنُ بذلكَ يا دكتور!، وبعضهم يقول لي: "النبي عربي يا دوك"!!
ولم يكن مريحا لي في يوم من الأيام كما هو مريح لكثيرين أن أتخلص من هذا الشعور بأن أتهم المجتمع بالجهل والتخلف فأنا أعرف جيدا أوجه القصور في النظرة المادية الخالصة للإنسان والأشياء، وأعرف أيضًا أن فكْرَة أن العلم واحدٌ؛ ليست إلا فكرةً خادعة إنما نتجت عن غرورِ الغرب وتكبُّرِهِ سواءً كان ذلك واعيًا أو غيرَ واعٍ؛ ثُمَّ أنَّهُ حتى إذا سَلَّمْنا بأنَّ العلمَ علمٌ عالَمِيٌّ واحد هو العلم الغربي فإنَّ الطب النفْسيَّ هو استثناءٌ حتميٌّ تفرضهُ خصوصيَّةُ الإنسان العربي، ثمَّ أنَّ المرضَ النفسِيَّ لم يكنْ غيرَ موجودٍ أيامَ الأطباء العرب القدامى ولا كان علمُ النفس ولا طبُّ النفسِ من مُبْتَدَعاتِ الحضارةِ الغربية كما يحسبُ كثيرٌ من عامةِ الناس والمثقفينَ على حدٍّ سواء!، وعلينا نحن -على الأقل حتى- كأطباء نفسيين، أن ندرك ذلك لأننا نعالِجُ نفوسَ أناسٍ غير الذين نشأ الطبُّ الغربيُّ لعلاجهم؛ فلا يمكن بالتالي أن أتعاملَ مع النفس العربية بكل ما تحتويه من خصائصَ وَثراء ثقافي عربي بنفس الكلمات التي يتكلم بها الطبيب الإنجليزي أو الفرنسي أو الأمريكي عن نفوس مرضاه.
وحقيقة ما حدثَ هو أننا عبرَ فترةٍ زمنيةٍ طويلةٍ استوردنا العديد من المفاهيم والقيم التي جعلت الذاتَ الأصيلةَ غائبةً ففقدْنا محَكَّاتِ التقييم الجيد، وفقدنا الذاتَ المرجعيةَ التي تمكننا من تحديد تميُّـزِنا عنِ الآخرِ، وأصبحنا ندركُ واقعَنا من خلال نماذجَ معرفيةٍ مستوردةٍ، ونحنُ بسبب سرعة التقدم العلمي المعاصرِ معَ إحساسنا بالدونية الحضارية يتزايدُ ميلنا إلى استيراد العلم لأنهُ يظلُّ كهدفٍ بعيدٍ متحركٍ يجذبنا لهُ ونظلُّ نلهثُ وراءَهُ دونَ أن نجدَ اللحظةَ الكافيةَ للتوقفِ وتقييم واقعنا، ولقدْ رأينا الفارابي ومدرستهُ في ميدان العلم والمعرفة ينقلونَ فلسفةَ أرسطو المادية إلى الفكر العلمي الإسلامي وبعد أن طبعوها بطابعٍ إسلامي، كما رأيْنا من بعدهم توما الإكويني يأخذها من الفارابي وينزعُ عنها "عن فلسفة أرسطو" طابعها الإسلاميَّ كيما يطبقها على المجتمع المسيحي الذي كانَ يتهيَّأُ بدوره للنشوء والارتقاء، ولكنَّ العقل العربيَّ متوقفٌ عن الإبداع منذ قرونٍ طويلةٍ لأنهُ لم يفق بعدُ من صدمة انبهاره بالحضارة الغربية ومنجزاتها مما جعلهُ مع الأسف عقلاً قابلاً للاستعمار! كما ذهبَ مالكُ بنُ نبي منذُ أكثرَ من50 عاما ولا أرى الوضعَ تغيرَ إلا قليلاً.
ويقودنا هذا إلى الحديث عن نقطتين هما بمثابة استكمال الحوار الذي أداره وائل لطفي ونشر في روزاليوسف عدد 3972 تحت عنوان: حتى الطب النفسي أسلموه!
فأما النقطة الأولى فتتعلق بهل من الممكن أن نبني علما ونحن ننطلق من منطلقات دينية؟ هل يكونُ ذلك علميا؟ وما هي عوائق ذلك وكيف نتغلبُ عليها؟
والرد هنا هو نعم وبكل تأكيد ولا يكونُ فعلنا ذلك بدعة لأن حقيقة الأمور هي أنه لا يوجد علم ولا إفرازٌ حضاري غير متحيز لأصوله، بمعنى أن الباحث في علم النفس أو الطب النفسي أو أي من العلوم لا يحمل عقلا هو صفحة بيضاء كما افترضت المدرسة الوضعية في علم النفس، وإنما الحقيقة خاصة في مجال علم النفس والاجتماع والطب النفسي هي أن الباحث ينحاز واعيا أو غير واع لمعطيات ثقافته ومجتمعه كما يذهب أصحاب المدارس الجديدة في فلسفة العلوم ويتفقون على خطأ مقولة أن العلم وسيلة عينية باردة للوصول إلى الحقيقة وهذا عكس ما يشيع بين الناس، والمشتغلون بالبحث العلمي كلهم يعرفون ذلك إذا هم صدقوا مع أنفسهم، وليس بدعة أيضًا أن ننطلق من غيبيات نؤمن بها لنؤسس علما لأن تاريخ تطور العلوم كلها بما في ذلك علم الكيمياء وحتى علوم الفضاء يحمل أمثلةً كثيرةً على ذلك، ويحضرني هنا مثال عالم الكيمياء الكبير الذي رأى في منامه رؤيا مفادها أن ثعبانا يمسك ذيله بأسنانه، وحينما استيقظ ألهمه ذلك الحلم تخيل كيف يكونُ جزيء البنزين في شكله الحلقي، فإذا كان ممكنا أن ننطلق من رؤيا في المنام كيف يكون بدعة أن ننطلق في بحثنا العلمي من آية قرآنية أو من حديث نبوي صحيح؟
ولعل الوقت الذي قدر لي فيه أن أبدأ دراستي لعلم النفس الطبي وللطب النفسي، وهو وقت الانتقال من موقف الطب النفسي الذي يرى الإنسان عقلا (بمعناه غير المادي) ولا يهتم بالمخ، إلى موقف الطب النفسي الذي يرى الإنسان مخا بلا عقل أو في أحسن الأحوال يرى العقل نتاج إفرازات المخ، لعل ذلك هوَ أحد الأسباب التي جعلتني غير قادرٍ لا على اعتبار الغيب الموجود في النظريات النفسية (موقف اللا مخ) كافيًا لأن أصدقه لأنني كنتُ أرى من الاكتشافات المادية المتتالية ما يدحضهُ ويشككُ فيه، ولا على اعتبار اللا غيب الذي يقدمهُ الطب النفسي المخي (موقف اللا عقل) مقنعًا لي كتفسيرٍ لكل شيء، خاصةً وأنني كنتُ أرى تخبطهُ على مر السنين القليلة وتغير المفاهيم فيه بسرعة كبيرة بحيثُ يتضحُ كل عامين أو ثلاثةً أن ما كنا نظنهُ الإجابةَ الأخيرةَ على سؤالٍ ما قد بدا فيه القصور أو ألغيَ تمامًا؛
حتى كان التشبيهُ الذي اقترحه عليَّ زميلي الدكتور أحمد عبد الله دالاً ومعبرًا إلى حد كبير عن حالة التوجه المادي البيولوجي الصرف في الطب النفسي فقد رأى حال أصحاب هذا التوجه مشابها لحالة سيدنا إبراهيم عليه السلام، كما أخبرنا بها رب العزة، من ناحية الحيرة والافتتان المؤقت بما يجدون في متناول أبحاثهم، وشتان طبعا بينَ ما كان يبحثُ عنهُ أبو الأنبياء عليه السلام وما يبحثُون عنه، وما أريدُ هنا بيانهُ هوَ أن الطب النفسي على مستوى العالم مازال يحاول البحثَ عن إجابةٍ للسؤال الكلي الذي يستطيعُ إذا أجبنا عليه أن نفهم كل شيء، ولكنَّ الإجابةَ النهائيةَ ما تزال بعيدةً بالرغم من بزوغِ إجابةٍ تلو إجابة، وفي مثل هذا الموقف العلمي أرى ويرى غيري الباب مفتوحا لإسهام علمي ننبع فيه من ثقافتنا نحن.
0 ولكن تبقى مشكلة قدسية وثبات النص الديني مقابل نسبية وتغير الإنتاج العلمي، فالذي نراه هو أن خوفنا كأصحاب ديانة من أن تقع أخطاء في تصوراتنا عن النص أو في طريقة بحثنا أو تفسيرنا لنتائجه، وهو ما يجعل إضفاءنا لصفة إسلامي على البحث أو النتائج موضع خطر، ونفس الكلام يقال للباحثين في مجالات كمجال الإعجاز العلمي في القرآن أو الحديث الشريف، هذا هو ما يجعلنا نقف موقف العاجز في كثير من الأحيان، إلا أننا يجب أن نقبل بمبدأ الخطأ البشري في الاستنباط والبحث، محاولين اكتشاف موضع ذلك الخطأ، ومكررين البحث حتى ننتجَ مجتمعا علميا منتجا وخلاقا، وإلا ستبقى مجتمعاتنا مستهلكةً بنظريات الآخر ومستعمرةً بفكر وثقافة ذلك الآخر.
وأما أن من المضحك أن يكونَ هناك علم نفسي إسلامي وآخر مسيحي وآخر بوذي، فإن هناك بالفعل علم نفس مسيحي وإن لم يتسمَّى بذلك الاسم لمشاكل تتعلق بنشأة ذلك العلم أدت إلى هروب العلم من قبضة الكنيسة وهي قصة مشتهرة في التاريخ الغربي، وليس في تاريخ الإسلام ما يشبهها بل نجد العكس، وهناك فعلا علم نفس وطب نفسي صيني ولم أسمع بمشكلة له مع الدين، وهناك مبادئ علم نفس إسلامي وإرهاصات طب نفس إسلامي، ولكننا نتكلم هنا عن علوم وليس عن أديان كما سأبين في ما يلي من المقال، وأضيف هنا أنه إذا صح أن كل طبيب سيتأثر بدينه في تعامله مع المريض، ومع استثناء المتطرفين من أي دين، فإن الطبيب المسلم رغم كل هذا سيبقى هو الأقدر على استيعاب أي مريض من أي دين وبالتالي على التعامل السليم معه لأن الإسلام يقبل ما سبقه من أديان سماوية.
وأصل بعد ذلك إلى النقطة الثانية والتي أناقش فيها أ.د أحمد شوقي العقباوي، فبينما أتفق معك تماما في أنه لا يوجد حتى الآن تعريف واحدٌ أو جامد لماهية النفس البشرية، وكل التعريفات هي مجرد اجتهادات من واضعيها وليس هناك ما يؤكدُ صحة أحدها بنسبة مائة في المائة، إلا أنني أضيف هنا لمن لا يعرف أن هذا لا ينطبق فقط على تعريف ماهية النفس، وإنما ينطبق حتى على تحديد إطار معينٍ أو منهجٍ واضح أو موضوع واحد لعلم النفس الغربي منذ أن طرح بوصفه علما سنة 1879، وحتى يومنا هذا، وهذا ما أراه أنا حافزا للبحث أمامنا فالباب مفتوح ما يزال، وأوجه القصور أكثر بكثير من أوجه الكمال سواء في علم النفس أو في الطب النفسي، كما أن إسهاماتنا ومحاولاتنا لا تدعي لنفسها أي قدسية حتى لو انطلقت من نص مقدس نؤمن به لأنها أيضًا ليست أكثر من اجتهاداتنا نحن في الفهم للنص أو في طريقة البحث أو تفسير النتائج، ولأنها علم فإنها تقبل الخطأ وتقبل الصواب.
0 وأما ما أختلف فيه معك يا سيدي فهو وصفك للفكر الديني بأنه ثابت، فبعض النصوص الدينية فقط هي الثابتة (القرآن الكريم والسنة المؤكدة) وليس الفكر البشري لأنه مجرد فهم لها لا يصح أن تنسحب عليه القداسة ولا الثبات، وأختلف أيضًا معك في وصفك للفهم الديني للعلوم بأنه يفترضُ أن القاعدة الأساسية هي الحلال والحرام وليس الصواب والخطأ، فهذه رؤية تختلف عن ما نفهمه عن الإسلام فواقع الأمر هو أن الحلال هو قرين الصواب وأن الحرام هو قرين الخطأ، وموقف الإسلام من الطب هو الرؤية الإنسانية للطب في أرقى صورها، ويكفينا حديث ليس على المريض حرج، وأما أرقى تعريف للصحة النفسية فهو هو توافق الفرد مع ربه (حسب دينه) وذاته وأهله وجماعته وهذا تعريف المسلمين، وكل هذه نقاطٌ لدنا في تراثنا المسكوب ما يثبتها ومفتوحة للحوار في نفس الوقت.
وأما أن لذلك علاقةٌ بالدعوة أو بإصدار أحكام أو فتاوى فإن الأمر في حقيقته مختلفٌ تماما لأن واجب الطبيب المسلم هو أن يعالج المريض بغض النظر عن دينه وتاريخنا مليء بالشواهد على ذلك، فليس من شأن الطبيب ولا من أدب مهنة الطب أن يحاول الطبيب النفسي أو غيره التأثير بقيمه على قيم مريضه وإنما عليه أن يجتهد في مساعدة مريضه على الشفاء، وعندما يتعلق الأمرُ بالسلوك المنحرف (الحلال والحرام) فإن القضية التي يجبُ أن تناقش هي هل يعرفُ المرضُ علميا أم اجتماعيا؟، ولا يحتاج الطبيب النفسي لأكثر من الاتفاق مع مريضه حول الصواب والخطأ وبتعريفهما الاجتماعي، ليس الأمر إذن إصدار فتاوى دينية، لأن للإفتاء شروطا أكبر من أن يتحملها الطبيب النفسي، لكنه أثناء العلاج المعرفي مثلا -لمريض الوسواس القهري- قد ينقل الفتوى للمريض عن الشيخ فلان في مسألة مثلا تتعلق بالوسوسة في العبادات.
إذن فما هدفنا إليه من إنشاء موقع إنترنت مجانين دوت كوم لم يكن إلا نشر مفاهيم الصحة النفسية لكي تكون في متناول الجميع، ولا تكونَ حكرًا على أطباء يركنون بلغة لا يفهمها الناس، وكذلك محاولة التواصل بين المهتمين من الأطباء النفسيين العرب بإنتاج علم طبي نفسي تمتد جذوره في ثقافتنا وتقوم من أصولها، لأن قناعتنا هي أن انتهاجنا كأطباء نفسيين مسلمين لمنهج الغرب لم يحقق نجاحا نمس به المجتمع لأن المجتمع المسلم بطبيعته لا يستطيع إغفال العلاقة بين توافق الفرد مع دينه وربه وبين ما يحسهُ من أمن نفسي وأرى أن الأجدر بنا أن نتواصل مع جذورنا نحن لكي نستطيع التأثير في مجتمعاتنا بشكل يفيدُ ويثمر.
واقرأ أيضا:
قالوا عن مجانين في روزاليوسف/ من الميدان إلى مجانين: إبراهيم عيسى يقرأ للمهدي/ عام على مجانين جعله الله خيرا للعالمين!