من الميدان إلى مجانين تخيلوا حتى العقل يخرج على المعاش !!!! ظهرت هذه المقالة للأستاذ العظيم إبراهيم عيسى: في صفحة 11"ميدان الحرية" من جريدة الميدان عدد 9/7/2004 تحت عنوان: العقل المصري حصل على معاش مبكر!!!
ماذا حدث لوطني؟ ماذا جرى للعقل المصري؟
هل لهذه الدرجة نجحت مراحل التطرف الديني الشرس والتمسح الإرهابي بالإسلام في تحويل العقل المصري إلى وحل من التخلف والتهافت والضعف والاستسلام للخرافات والخزعبلات والتمسك الشاذ بأفكار غير علمية وغير منطقية وغير عقلية، هل أحيل العقل في مصر للتقاعد وحصل على معاش مبكر وهو الآن بلا عمل إلى حد أنني صرت أؤمن أن مصر أصيبت بحالة من الجنون الجماعي والهوس الجمعي فيما يشبه حالات إغماء البنات الجماعي الذي ظهر في فترة سابقة من حياتنا.
وأصبحنا مجتمعا قابلا لتصديق الخرافة والتجارة المنحطة بالدين وتلويث العقل والخزعبلات والخرافات والشعوذات، وأنا أعرف أن كل كلامي سوف يرميه الكثيرون في سلة الزبالة ولن يقتنعوا بحرف مما كتبته على اعتبار أن المجنون إذا صدق أنه مجنون فهو عاقل بالتأكيد!!!
ومجتمعنا المصري مجنون بالثلاثة ومتخلف بالمرابعة ويصر على أنه فاهم كل حاجة وبرم ويفهمها وهي طايرة وكل هذه علامات بارانويا "تتراوح بين جنون الإحساس بالعظمة وجنون الإحساس بالاضطهاد من المجتمع، من أول أمريكا وإسرائيل وحتى مديره في الشغل وصاحب البيت" ولهذه الأسباب كلها سوف أرجع إلى دراسة مخلصة لطبيب نفسي مصري ينتمي إلى فريق مشرق من التيار الإسلامي العام في بلادنا وهو الدكتور محمد المهدي، وأعتقد أنه واحد من علامات الطب النفسي الشاب مع زملائه د.وائل أبو هندي ود.أحمد عبدالله، أفاض الله عليهم جميعا من علمه وحكمته، دكتور محمد المهدي في دراسته "العلاج بالقرآن....من الراحة السلبية إلى الطمأنينة الوجودية" يقول :
0 شاع في السنوات الأخيرة موضوع العلاج بالقرآن واختلط فيه الحابل بالنابل ومارسه أناس بسطاء ذوو نوايا طيبة "غالبا"، وعلم بسيط ومارسه أيضا أناس مستغلون تستروا وراء قدسية القرآن ومارسوا خلفها كل الموبقات، وحدثت التباسات كثيرة كما هو واضح في كثير من أمور حياتنا "منها أن القرآن شفاء للنفوس وبالتالي لا نحتاج لأي علاجات للأمراض النفسية غيره، ومنها أن المؤمنون لا يمرضون نفسيا وبالتالي فإن المرضى النفسيون من هذا المنظور أشخاص ضعاف الإيمان وضعاف الإرادة،..! ومنها أن كل الاضطرابات النفسية" وربما العضوية أيضا" تحدث نتيجة المس الشيطاني وتأثيرات السحر والحسد.
والغريب أن هذه الأفكار والالتباسات لم تتسلل إلى عقول العامة والبسطاء فقط وإنما امتدت إلى عقول طلقات المتعلمين والمثقفين وربما العلماء، وأخطر ما في الأمر هو تستر كل هذا وراء الستار الديني المقدس وتلنه بالصفة الدينية ذات المكانة العالية لدى جموع الناس خاصة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وذلك يجعل من يواجه هذا الركام أشبه بمن يمشي في أرض مليئة بالشوك والألغام.
ويصاحب ذلك محاولة استدعاء كل الوسائل العلاجية القديمة التي استخدمت في عهد النبي صلي الله عليه وسلم أو في عهد الصحابة وتطبيقها في موضعها أو في غير موضعها بشكل تعميمي وإعطاء هذه الممارسات العلاجية ضد القداسة خاصة حين تنسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم "حتى ولو كان النسب ضعيفا" أو إلى أحد صحابته الكرام، وينظر إلى هذه الوسائل العلاجية على أنها جامعة مانعة وبالتالي فهي تغني عن أي تدخلات طبية حديثة فالحجامة تغني عن كل الممارسات التشخيصية والعلاجية، وحبة البركة تجب كل الأدوية المرصوصة على أرفف الصيدليات، وقراءة القرآن على المرضى النفسيين تمحو كل الاجتهادات البشرية في العلوم النفسية والطب النفسي.
مازلت مع دراسة الدكتور محمد المهدي وهو يمضي بنفاذ رؤيته وعمق بصيرته وسعة علمه قائلا: والمتأمل للتاريخ الإسلامي لن يجد هذا الإلحاح وهذا الانتشار "وربما الهوس" حول هذه الأشياء في عهد النبوة أو في عهد الازدهار الحضاري الإسلامي، فلم نسمع أن العرب توافدوا جماعات إلي المدينة للتداوي من أمراضهم على أيدي الرسول صلى الله عليه وسلم أو على أيدي الصحابة الكرام، ولم نسمع أن سيدنا عمر رضي الله عنه كان الناس يقفون على بابه بالآلاف ليقرأ عليهم كي يشفوا من أمراضهم، ولم نقرأ أن سيدنا أبا بكر رضي الله عنه جلس في ربيته يستقبل آلاف الناس ليرقيهم ويوزع عليهم كوبا من الماء "قد تفل فيه من ريقه" ليشربوه وكوبا من الزيت "قد تفل فيه أيضا" ليدهنوا به وكل ما حدث من ممارسات علاجية كانت اجتهادات في هذا العصر ولم تأخذ الشكل الجامع المانع؛
لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه كان يستخدم وسائل متنوعة في التداوي مثل عسل النحل، وحبة البركة، والحجامة وعصابة الرأس والرقية، ولم يدع أن هذه الوسائل تلغي ما عداها أو ترقى كل ما عداها وإنما كان يرسل المرضي إلى رفيدة الأنصارية تمرضهم أو إلى الحارث ابن كندة الأنصاري ليطببهم، ولو كانت الحجامة أو حبة البركة لها تأثير جامع مانع في كل الأمراض لما لجأ الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذه الوسائل المتعددة "بلا حدود" ولو كانت قراءة القرآن "وحدها" على المرضى تشفي الأمراض كلها لما لجأ الرسول إلى باقي الوسائل?
إذن فما يحدث الآن هو نوع من التفكير الاختزالي الاعتمادي السحري للمستسهل والذي يكتفي بما قيل بديلا لإعمال الفكر والبحث والتنقيب والتجربة والاجتهاد فنحن في مجتمعاتنا العربية والإسلامية نريد أن نعيش متطفلين على تراثنا الديني وعلى تراثنا الثقافي حتى لا نتعب أنفسنا في دراسة المشكلات الحياتية ومحاولة إيجاد حلول لها وهذا ينطبق على الأمراض وغيرها.
أكتفي بهذه السطور الآن من دراسة دكتور محمد المهدي وهي سيف مسلول على العقل المصري المذلول بغياب العقل والوعي والعلم والمنطق .. للحديث بقية.
وفي صفحة 11"ميدان الحرية" من جريدة الميدان عدد 5/8/2004 أضاف الأستاذ إبراهيم عيسى وتحت عنوان:
الشعب الذي فقد عقله !!!
في لحظات الانحطاط نجد الشعوب غارقة في الفساد والنفاق، ومشكلة الفساد أنه أصبح لدينا واقعا حتى لم يعد أحد يغضب منه أو يتمرد عليه وصار شيئا يوميا لا يحرك أحدا سوى بالمصمصة والهمهمة وخلاص فساد يجري في عروق المجتمع مسرى الدم كذلك ينتشر النفاق من جراء الفساد وهو نفاق من نوعين نفاق مرعب: وهو نفاق ديني أي يقدم الناس تدينا وروعا كذوبا بينما يخفون معاملات يومية غارقة حتى ذقنها في الضياع الأخلاقي ونفاق مدمر: وهو نفاق الساسة وتحويلهم قديسين وأنبياء، ومن هذا الكلام الهائل من الفساد والنفاق تخرج ظواهر مثل الركض وراء العلاج بالشعوذة والعلاج بالقرآن والتستر بالدين لتجميل التخلف والخرافة والشعوذة.
وأعود وأؤكد رغم قتامة الصورة أن هناك وجوها مصرية تتعامل مع دينها باعتباره دين العقل والمنطق والعلم وتؤكد هذه الحقيقة نظرة واحدة إلى موقع مجانين دوت كوم الذي يشرف عليه عالم طب نفسي مصري وهو دكتور وائل أبو هندي ويشاركه أطباء عباقرة مثل المفكر الدكتور أحمد عبد الله والمبهر المدهش الدكتور محمد المهدي مؤمنون كلهم بدينهم وفخورون بعلم الدنيا مع تدين الآخرة وعلى ضفاف دراسة الدكتور محمد المهدي ما زلت أحكي عن ظاهرة العلاج بالقرآن واللجوء الغريب المؤلم لتجار الدين وزيف التدين والتي يفند الدكتور محمد المهدي أصولها وجذورها حين يقول:
0 والعجيب إن الأطباء العظام مثل ابن سينا وابن النفيس والرازي لم يسلكوا هذا المسلك الاتكالي السحري الاستسهالي فلم نجدهم يبالغون في استدعاء النصوص الدينية لحل المشكلات الصحية التي واجهوها في مرضاهم وإنما قاموا بالتشريح والتجريب والتحليل والتركيب، وكانوا من الملاحظين والوصافين العظام في التاريخ للعديد من المظاهر المرضية ولم نجدهم يبالغون في مسائل الإعجاز الطبي للقرآن وهي حقيقة أو يبالغون في تعميم وسائل علاجية بعينها ويعطونها قداسة دينية وإنما كانت عيونهم فاحصة ونظراتهم ممتدة بلا نهاية وعقولهم تعمل كما أرادها الله أن تعمل، ولم يستتروا خلف لافتات دينية، ولم يكرسوا قيم السلبية والاعتمادية كما يفعل المعالجون بالقرآن الآن حين يطلبون من كل المرضى أن يستلقوا على ظهورهم ولا يفعلوا أي شيء فالمعالج سوف يفعل كل شيء بالنيابة عنهم لأن المعالج هنا يأخذ دور الأب المقدس والمريض هنا يأخذ دور الطفل الغرير الجاهل.
ويضيف دكتور المهدي في نقاط هامة علينا أن ننتبه لها ونتيقظ أمامها كي نعرف رأسنا من قدمنا حيث يشرح علاقة القرآن بالعلاج عل نحو دقيق ومدقق فيقول:
ونحن حين نتعامل مع القرآن على أنه "مجرد مسكن موضعي" أو"وسيلة راحة" فإننا نختزل قيمته العظيمة ونتغاضى عن رسالته العظيمة في تنظيم حياتنا الفردية وحياتنا الجماعية كما يحقق التوازن والتناغم مع الكون الأوسع ليس في الدنيا فقط وإنما في الدنيا والآخرة.
والقرآن يعطينا طمأنينة وراحة على مستويات متعددة نذكر منها:
الطمأنينة عند سماعه حتى دون فهم وتدبر، والإحساس بوجود الله "أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" ذلك الإحساس الذي يجعلنا نشعر أننا لسنا وحدنا في هذه الحياة وأن هناك قوة عظيمة وهائلة تساندنا وتحمينا وترعانا والتنظيم النفسي الفردي الذي يحقق التوازن بين كل الاحتياجات والرغبات والدوافع فلا تطغى حاجة على أخرى ولا تلغي رغبة قيمة ولا ينفرد دافع متضخم بتحريك الشخصية لحسابه والسعي نحو الله وهو قمة الطمأنينة "يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فادخلي في عبادي وادخلي جنتي".
ولكن دكتور محمد المهدي يعود ويضبط كل هذه المفاهيم في سياق منطقي ضروري فيقول:
إن هذه المستويات من الطمأنينة ليست عامة لكل الناس فالقرآن يؤثر في النفوس وفي الجماعات حسب استقبالها له، "وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً" (الإسراء : 82 ).
وفي صورة فصلت بيان لتفسير تأثير القرآن باختلاف المتلقي وطريقة تلقيه "وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ " (فصلت 44).
إذن فالقرآن يصبح شفاء لمن يؤمن به ولمن يفقه ولمن يعمل به ومن هنا فمن لا يون به لا يستفيد منه بل هو يزداد خسارة عند سماعه لأنه ينفر منه ويصبح ذلك حجة عليه، ومن لا يفقه القرآن ولا يعمل به ستتوقف استفادته عند الحدود الدنيا ثم يمضي مباشرة إلى علاقة المريض النفسي بالقرآن فيؤكد أن: المريض النفسي الذي يعاني الفصام أو الاكتئاب أو أي مرض نفسي آخر يكون لديه اضطراب في كيمياء المخ، ربما يؤدي إلى خلل في استقباله للقرآن فكأنه لا يسمعه أو يفهمه ولا يفهمه، أو يفهمه بشكل مرضي متأثرا بوساوسه القهرية أو ضلالاته أو هلاوسه المرضية.
ولذلك نجد بعض المرضى النفسيين يتألمون أو ينفرون أو يعرضون حين يسمعون القرآن وهم ليسوا مؤاخذين على ذلك لأنهم في أوضاع غير سوية تؤثر على إدراكهم واستقبالهم فالمريض الاكتئابي مثلا قد ينفر من أعز أبنائه ويضيق بالأشياء التي كان يعشقها لذلك حين نرى ضيقه بسماع القرآن أو قراءته لا نحكم عليه بكراهية القرآن أو النفور منه لأنه يعيش ظروفا استثنائية ترفع عنه الحرج في الكثير من الأشياء والمريض الذهاني لا يفهم ما يسمع أو يفهم بطريقة مشوهة نتيجة اضطراب إدراكه وتفكيره، والمعالجون بالقرآن لا يراعون هذه الخصوصيات وهذه الفروق في العملية الإدراكية وفي عملية الاستقبال للقرآن فهم يفرضونه قهرا على كل المرضى الذين يقصدونهم دون مراعاة لظروفهم النفسية وحالاتهم الوجدانية واستعداداتهم للتلقي فضلا عن الفهم والعمل.
ثم يشير في نهاية دراسته إلى ما هو منزلق خطر. هناك احتمالات تقديس المعالج بالقرآن والارتكان إلى بركاته وكراماته وقدراته الهائلة في دفع المرض ودفع القوى الخفية كالجن والسحر والحسد وفي هذا خطر شديد على الاعتقاد الديني للشخص حيث يتوجه إلى بشر ضعيف مثله طالبا الخلاص على يديه، وخطر شديد أيضا على اتجاهاته النفسية حيث يميل إلى الاعتمادية الطفلية السلبية ويسلم نفسه لمعالج يدعي القدرة على امتلاك السر الأعظم من القرآن وتطويعه بشكل خفي لعلاج كل الأمراض ضاربا عرض الحائط بقانون الأسباب والمسببات الذي وضعه الله لحركة هذا الكون والحياة . شكرا وفتح الله عليك يا دكتور مهدي .