مصطلحات تحتاج إلى تحديث جذري ... المخ البشري بين التفكيك والغسيل وإعادة التشكيل
أصبح الحديث عما يُسمى (أو كان يسمى) «غسيل المخ» Brain Wash في حاجة إلى تحديث جذري. إن المخ ليس وعاء يمكن أن يتسخ فيُغسل مما فيه، ولا هو مجرد مخزن للذكريات والمعلومات والمعارف، يحتاج إلى أمين مخزن يحافظ على ما فيه من السرقة أو التلف أو الاستبدال ببدائل مزيفة. إن المخ البشري؛ جنباً إلى جنب مع الجسد والحس وما بعدهما؛ هو كيان حيوي نابض، دائم التفكك والتشكّل بشكل منتظم، في سياق يفترض فيه أنه هادف وإيجابي.
من جانب آخر، لا يخفى على أحد كيف قفزت تكنولوجيا الأدوات والمعلومات والتعلّم والتعليم والإعلام أخيراً قفزات عملاقة واعدة وخطرة في آن، ما ينبه إلى خطورة تأثيرها (سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة)، في تركيب المخ البشري ومحتواه، وربما كذلك في مجمل كيان البشر. فإذا أضفنا إلى هذا أن إدارة أدوات هذه القفزة العملاقة المتعددة التجليات، تتحكم فيها قوى ليست فوق مستوى الشبهات، وإذا أضفنا أيضاً أن الذي يتحكم في هذه الأدوات هي سلطات مشبوهة وغير ظاهرة للعيان في الغالب، لأدركنا مدى أهمية فهم ما يجرى في المجال العلمي، ومحاولة الحيلولة دون خطره.
لم يعد غسيل المخ قاصراً على تغيير معتقد فرد متهم أو جماعة متحمسة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار أو العكس. صارت تلك العملية لعبة الحكام الحقيقيين للعالم، وسبيلهم الأضمن للتأثير على توجهات وأيديولوجيا وعواطف وربما معتقدات بلايين البشر؛ لمصلحة أغراضهم المعلنة والخفية التي تتمثل في أشياء مثل الاستهلاك والثروة والسلطة وغيرها. مع أن قوانين التطور تنذر هؤلاء المتحكمين (وقبل غيرهم) بخطورة هذا التدخل الذي يشوه الكائن البشري؛ باعتبار أنه قد يعرض النوع البشري للانقراض.
طبيعة المخ البشري بين التشكيل والإبداع
يعرف الاختصاصيون أن المخ البشري كيان حيوي مَرِن، في حال نابضة، تستمر بحسب دورة الإيقاع الحيوي بين النوم والحلم واليقظة، وبصورة يومية وعلى مدار العمر. ولعل أهم طور من أطوار هذا الإيقاع الحيوي هو طور الحلم، بغض النظر عما إذا حكى الحلم أم لا. إن طور الحلم هو دور «التفكيك» وهو اللفظ الذي يستعمل حديثاً لتسمية غسيل المخ. ويلي ذلك طور من إعادة التنظيم بشكل تلقائي، ما يبين كيف أن الحلم هو التفكيك الطبيعي، وإعادة التشكيل هو الضمان الطبيعي لاستمرار النبض الدماغي في اتجاهه الصحيح.
إن عملية غسيل المخ تستغل هذه القابلية في الدماغ البشري، أي الحاجة الحتمية إلى التفكيك، ثم ينحرف بها قصداً إلى أغراضه، بل إنه يلجأ إلى إحداث اصطناع مقصود لتفكيك متمادٍ ومحسوب بشكل مرتب ومبرمج. وبدلاً من أن يساعد التفكيك في عملية إعادة التشكيل، كما يحدث في الحلم والإبداع، فإن التفكيك المُقحَم (أثناء عملية غسيل الدماغ) يُسخَّر لخدمة أغراض خبيثة في العادة. ومعروف أيضاً أن الإبداع، وهو طبيعة حيوية بشرية، هو مثل الحلم: عملية تفكيك فإعادة تشكيل. والفارق أن الإبداع عملية تجرى في ظل وعي فائق مقابل الحال الخاص للوعي في الحلم أثناء النوم. وبذا، يأتي الإبداع نتيجة إعادة التشكيل الواعي العالية؛ والمعنى المقصود هو إنجاز تشكيلات أشمل وأرقى، سواء كان ذلك في شكل ناتج إبداعي أم في اضطراد نمو الفرد.
إن عملية غسيل المخ هي نوع من سوء استعمال الخطوات الأولية في الإبداع لتجهض إيجابياتها وتنحرف بها إلى ما هو خطير وسلبي. ففي حال غسيل المخ، تبتدئ العملية بنوع من افتعال التفكيك. وتأتي الخطوة الثانية على هيئة إعادة التشكيل، ولكنها تكون «مفتعلة» بمعنى أنها إبداع من الفاعل وليس من الشخص نفسه (الذي يتحوّل إلى موضع للفعل ومتلق له). وفي الغالب، تسير تلك العملية لتخدم أغراض الفاعل. وتتمثل المصيبة، في الأزمان الراهنة في أن دس السم في الدسم أصبح مهمة الحكام الحقيقيين في العالم، والذين يبقى جزء كبير منهم في نوع من الخفاء، فكأنهم يعملون «تحت الأرض» كحال عصابات المافيا الدولية ومؤسسات الجريمة العابرة للقارات.
وعلى سبيل المثال، فإن كثيراً مما يجرى تحت مسميات حقوق الإنسان والعولمة والنظم الاقتصادية الشاملة المُلزمة؛ وحتى الأبحاث العلمية في المراكز المتخصصة؛ إنما تسير لخدمة أصحاب المصلحة الخبيثة مثل بعض شركات الدواء أو بعض شركات المعلوماتية والبترول. فعلى نطاق واسع، يجرى استغلال الإيقاع الحيوي لأدمغة البشر ليصبح ناتجه (سواء كله أو معظمه) لخدمة أغراضها التي هي أبعد ما تكون عن مصلحة تطور الإنسان.
وللأسف، فقد امتدت أيديهم لتطال حتى العلماء في مراكز البحث الملحقة بتلك المؤسسات العملاقة، أو المُمولة من جانبها. ويميل البعض لتسمية هؤلاء العلماء «بروليتاريا العصر الحديث»؛ والارجح أنهم كذلك، سواء شعروا بتلك العملية أم لم يشعروا بها.
ثمة ملاحظة مهمة: إن الإنسان المعاصر في حضوره الراهن في العالم لا يتصرف تبعاً لما وصلت إليه أبحاث المعامل الحقيقية، أو إنجازات التكنولوجيا المتطورة، ولا تبعاً لما يسمع من خطب الرسميين أو برامج الحكومات أو مواثيق الحقوق، وإنما يتشكل وعيه، المصنوع عادة، بناء على ما تُبرمَح به خلايا مخه لخدمة مصالح هؤلاء الحكام الحقيقيين. هذا ما ينبغي الانتباه إليه أكثر من عملية غسيل مخ متهم ليعترف بما لم يقترف، أو غسيل مخ أصولي ليمارس القتل...
آليات غسيل المخ في الإعلام المُعاصر |
الأرجح أن فيضان الإعلام راهناً يسير (بشكل مباشر أو غير مباشر) ليخدم عملية غسيل مخ جماعي طوال الوقت. وتقسم الأدوار بشكل مرتب (أو أنها تبدأ عشوائية ثم تسير نحو نوع من التكامل) على وسائل الإعلام كلها، بل ربما يمتد تـقـسيم الأدوار هذا ليـشمل التعليم والسياسة الداخلية والخارجية، وذلك من خلال آليات وتقنيات متضافرة تتكافل في ما بينها لتحقيق الأغراض السلبية الخطرة المؤدية في النهاية إلى انقراض الإنسان، في عملية تتسم بارتفاع منسوب «الغباء التطوري». ومن هذه الآليات نعرض بعض الأمثلة:
أولاً - الإغراق: يقع المخ البشري المعاصر تحت فيضان من الضوضاء الإعلامية والسياسية، بحيث يسير ليس فقط إلى حال تفكيك خامل، بل إلى شلل كامل، ومن ثَمّ َيصبح جاهزاً لتقبل الأفكار المُغرضة.
ثانياً- التشتيت: إذا كان الإغراق يعني كميات عملاقة من البث الإعلامي ومن الغمر بالمعلومات (بغض النظر عن صدقيتها)، فإن التشتيت هو عملية استغلال هذا الفيض في إفشال أي متابعة للإدراك المنظم ليمنع أي إنسان من أن يتكون لديه سياق منسجم، أو بتعبير أبسط «جملة مفيدة» يمكن أن يتخذ على أساسها موقفاً ناقداً، سواء بالموافقة أو الرفض. وعلى سبيل المثال، فإن عدد المسلسلات التي تبثها الفضائيات، حتى لو اقتصر الأمر على الفضائيات العربية، والتي يفترض أنها تعرض مجموعة من الحلقات التي تتكامل لتصنع مسلسلاً ليُصبح في متناول الفرد العادي، هي من الكثرة بحيث أصبح الانتقال من جزء من واحدة منها قبل أن تكتمل إلى جزء من مسلسل آخر أقرب إلى القاعدة. وينطبق الوصف عينه على الأغاني بل والأخبار والبرامج الحوارية. ويمكن القياس على ذلك، بمعنى تلمس مسار لعمليات متشابهة من الانقطاع والتنقل المُشتت، في الخطوات السياسة والحربية والاقتصادية وغيرها.
ثالثاً - الإلهاء: تقوم عمليات غسيل المخ على إزاحة ما لا تريده بواسطة شدّ الانتباه وجذبه إلى موضوع مُغاير. ليس بالضرورة أن يكون ذلك الموضوع عكس ما يراد إزاحته، وليس ضرورياً أن ينسجم مع مصالح الجهات المسيطرة، بل يكفي مجرد إزاحة الانتباه والإلهاء وجذب الانتباه إلى ما هو بعيد عن المواضيع الأجدر بالاهتمام.
ويعتبر ذلك الإلهاء خطوة تمهيدية نحو التفكيك الذي هو مقدمة لحشو المخ بما هو أخبث. وتستعمل في الإلهاء الأساليب المباشرة وغير المباشرة، كما تُستخدم فيه الوسائل الإعلامية والتعليمية والتثقيفية وحتى الإبداعية.
رابعاً - التهميش والاستبدال: تجرى عملية التهميش، بعد التفكيك عادة، بإزاحة تدريجية لكل محتوى يغلب عليه التماسك، إلى الظل لتحل محله قضايا شكلية أو إجرائية، تستولي على الوقت والجهد والحوار. وكذلك تتضمن هذه المرحلة، إحلال الجزء محل الكل مثل التركيز على قضية أسْرِ فرد محل احتلال بلد، أو إحلال الاهتمام بمقتل طفل والإشفاق عليه محل مقتل المئات والألوف في منازلهم. وفي مثال آخر، يجرى إعلاء شأن المواثيق المكتوبة (عن حقوق الإنسان مثلاً) عبر التركيز على قانونية العقاب، ثم قياس مدى انطباق المسائل المطروحة على تلك المواثيق بطريقة إعلامية. والهدف من تلك السياقات هو أن تحل محل الواقع الحقيقي الذي تكمن مهمته الأساسية في تنمية القوانين الطبيعية التي تخدم استمرار مسيرة الإنسان الإبداعية. كما يشمل ذلك أيضاً أن يحل المكتوب محل الممارسة الفعلية، فيُكتَفى بالنقاش حول ألفاظ خاوية أو مخادعة، بدل تنمية ممارسات أصيلة تحافظ على تكامل أفراد النوع الإنساني وجهودهم الجماعية وما إلى ذلك. وهكذا يمكن أن يحل اتهام شائع مُعلن محل البحث الجاد عن فاعل أصلي حقيقي، أو أن يحلّ التركيز على متهم ثانوي لتعتيم البحث عن الحقيقة التي قد تهدي إلى السؤال الفعلي وغيرها.
عن سبل المواجهة
على رغم كل ذلك، ثمة بوادر تتجمع عالمياً لتصنع نوعاً من الإرهاصات لبزوغ فجر جديد. نقول ذلك على رغم أنه لم يتبين بشكل واضح الخيط الأبيض من الخيط الأسود. ويمكن أن نسمي هذا القادم الواعد «الوعي البشري العالمي الجديد»، في مقابل «النظام العالمي السلطوي الجديد».
إن هذا الوعي مهما بدا ضعيفاً في البداية، يمكن أن يكون الوجه الإيجابي لاستعمال التفكيك الذي تقوم بها المغاسل السلطوية للمخ. كما يمكن لتلك الإرهاصات أن تحول دون نجاح هذا الانحراف السلبي، حتى أنه بوسعنا الحديث عن رؤية للحظة يتمكن فيها هذا الوعي الجيد من اقتناص فرصة مؤاتية لكي يبدأ من حال التفكك التي أعدها خصمه (أي النظام العالمي) فيحوّل مسارها لمصلحة البشر من خلال تضافر جدلي جماعي يتجمع من هنا وهناك ليصبح قادراً وفاعلاً ومؤثراً. وإن حدث ذلك، فالأرجح أن يستمر أثره طويلاً، لأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض، بحسب قول شهير في الكتاب المقدس.
إن لا مركزية الإعلام المتمادية، وموسوعية مجالات المعرفة والتعرّف التي أصبحت متاحة لكل الناس، وامتداد شبكات التواصل الفردي والجماعاتي (من الجماعات الصغرى وصولاً إلى التجمعات الكبرى)، ترسل إشارات متواضعة، لكنها متمادية في النماء والوعد. إذاً، ثمة مجال للقول إنه في الإمكان تحويل المواجهة لتصب في مصلحة تطور البشر، وكذلك فإنها ستحول دون الانقراض الذي ظهرت علامات ساعته جلية في الأفق.
إن هذا التواصل الواعد الجديد سوف يعيد للشخص العادي بعض معالم فطرته التي شوّهتها (وتشوهها على مدار الساعة) عمليات غسيل المخ الجماعي المُهدِدة للنوع الإنساني. إن استعادة حلاوة المعرفة، وفرحة التساؤل، ودهشة الحكمة الفطرية، وفخر التاريخ الحيوي، وتواصل البشر الحقيقي، وإمكانات الشخص العادي في المشاركة في النقد والإبداع، كل ذلك يسير من حسن إلى أحسن، على رغم بطء الخُطى ووعورة الطريق.
الحياة - 07/09/2007
واقرأ أيضاً:
العولمة ونوعية الحياة / هم يحتاجوننا بقدر ما نحتاجهم