كنت في غرفة الاستقبال.. عندما تعالت مختلطة أصوات سيدة بالبكاء مع سيارة الإسعاف.. ونزل المسعف بحامل المرضى وعليه جسد رجل.. في أوائل الخمسينات..
دخل غرفة العناية المركزة.. فحالته خطرة.. فقد أخذ تاريخا مرضيا من زوجته يفيد بتعرضة لذبحة صدرية عنيفة.. فقد على إثرها وعيه.. كما أنه يعاني فشلا في القلب ووظائف الكبد وقصور في وظائف الكلى والسكر وربما الملح!!
تم عمل الإسعافات اللازمة لمثل تلك الحالات.. ووضع على جهاز التنفس بعد هبوط تركيز الأكسجين في دمه ثم مر ما يقارب نصف الساعة وبعدها.. توقف قلبه..
فسارع الطبيب المعالج بصعق القلب بالكهرباء ربما يعود... لم يعد.. وأعادها ثانية وحقن القلب ببعض منشطات.. لم يعد.. وبعد استيفاء ما يجب فعله إزاء تلك الحالات كما تنص بروتوكولات منظمة الصحة العالمية.. تأكد لهم وفاته..
تركوه.. ومضوا.. وفي مثل تلك الحالات.. يتوجس الطبيب أن يجابه أهل المريض بكون مريضهم قد فارق الحياة.. فطلبوا زوجته لوحدها حيث كانت قاعة الانتظار تعج بأقربائه ومعارفه.. ولا العمدة!!!
ثم قالوا لزوجته وتدعى عزيزة.. أن زوجك عم علي قد توفاه الله.. ونصحوها بالهدوء مراعاة لأحاسيس مجاوريه من مرضى العناية المركزة.. فكان العجيب أن الست عزيزة اتسعت عيناها وقضمت على شفتيها وكتمت أنفاسها.. وقالت وكأنها مزحة: لا.. علي ما ماتش؟؟ أنا متأكدة.. والله.. طب شوفوه تاني.. ونحن نهدئ من روعها ونسحبها للخارج.. قالت: يا جماعة صدقوني والله ما ماتش.. طب هتخسروا إيه لما تشفوه من تاني.. طب أشوفه أنا.. فاض الكيل عند الأطباء.. وقالو لها.. ما توجعيش دماغنا بقى.. أدخلي لو عايزة تشوفيه..
ولموا بعضكم واسحبوا من هنا وتبقوا تستلموه من المشرحة..!! وقبعت أقول لها: استغفري الله.. باين عليك ست مؤمنة.. قولي إنا لله وإنا إليه راجعون.. ربنا يخليلك أولادك ويبارك لك فيهم ويقويك عليهم.. فالتفتت إلي التفاتة سريعة وهي تسرع لسرير عم علي..
مضت دقائق..
ومضى كل منا لعمله... ثم..
يا دكتور يا دكتور الحقوا الحقوا.. يا أهل الله.. وسارع البعض واثَّاقل البعض.. فكانت المفاجئة.. وأقسم على هذا
عم علي يحرك عينيه.. تسارع طبيبان لوضع السماعة على قلبه.. لم يكتفيا بالعيون المتحركة.. فعلا القلب ينبض بضعف..
ساد صمت عجيب المكان من قبل الفريق الطبي.. ماعدا الست عزيزة.. قالت: قلت لهم والله يا علي.. الحمد لله يا علي.. ربنا بيحبني يا علي.. ربنا يخليك ليا يا علي.. وهي تمسح على رأسه وتربت على كتفه..
خضع عم علي للعلاج اللازم.. ومن الله عليه بالتماثل للشفاء وخرج من العناية المركزة للغرفة العادية.. وكل يوم أعدي عليه.. وأنظر له ولزوجته.. لا أعرف ما أقول.. تعوقني حالته الصحية غير مكتملة الاستقرار..
ثم.. جاء يوم وقد احتاجت الست عزيزة شيئا.. فدخلت عليّ الغرفة طالبة ما تحتاجه.. فلبيتها ثم أجلستها أسألها عن الأحداث التي مرت معها في غرفة العناية المركزة.. وكيف كانت تجزم بعدم وفاة عم علي..؟؟
تعرفي يا دكتورة إحنا بقالنا متجوزين كام سنة؟؟ 25 سنة تزوجته وعمري 20 سنة.. ولم يشأ الله بأن نرزق الذرية.. روحنا وجينا شمال ويمين دون فائدة.. وكل مرة يقول.. ولا يهمك يا عزيزة أنت عندي بالدنيا.. ومضت الأيام علينا يمسح دمعتي ويخفف عني.. أنت عارفة.. أنا ولدت وأبي قد مات.. ونجح علي في أن يشعرني بأن أبي قد عاد للحياة من جديد... 25 سنة ونحن نتخبط في هذه الحياة.. يا ما خسرنا ويا ما مالت علينا الدنيا.. واتكت كمان!! ولكن وجودنا جنب بعض كان ليه طعم قوي يزيل طعم الأسى من الحلوق..
عم علي نجار موبيليا.. زي الفل.. وعنده ذوق وفن.. ولكن منذ مرضه لم يعد يقوى على العمل وأسند العمل في ورشته لمن سرقها بعد ذلك.. مش مهم.. ساعات لا نجد إلا عيش حاف.. ولكن وجودنا مع بعضنا هو الغموس!!!!..
عم علي قارئ للقرآن الكريم.. لو رحت عندنا الحتة – مدينة السلام – لوجدت كم يحبه الجميع.. وعارفين أنه متصل بالله.. والتلامذة اللي عايزة تنجح والشاب اللي عايز يشتغل والبنت اللي عايزة تتجوز كلهم يأتوننا يطلبون منه أن يدعوا لهم في الليل ويقرأ لهم (يس)..
علي.. لم يرتفع صوته علي مرة... كله رجولة وشهامة.. رفض أن يتزوج علي بغية الإنجاب على قدرته الجسدية والمادية حيث عمل بالسعودية فترة.. وقال: يا عزيزة ربنا جمع بيننا ومنذ تزوجنا بدأ يكتب أقدرانا سويا!!!!
علشان كدة وغيره يا دكتورة.. قد أحسست أنه لم يمت.. المرة السابقة.. لما تعب.. قال: ما تخافيش يا عزيزة مش هاموت الآن!!...
فأنا أفهم نظرة عينيه..حركاته.. وإيماءاته..
قمنا.. وذهبت لعم علي.. وقال لي: عزيزة بتقول لي أنك الوحيدة اللي هديتيها لما مت!!! ورطبت خاطرها..
شكرا ..
أنت متزوجة يا دكتورة؟؟... لا
طيب غرفة النوم بتاعتك عليّ!! بس إدعيلي..أقوم بالسلامة..
ربنا يعافيك.. سأعتبره وعد..
وعد طبعا
هذه الحالة الوحيدة التي غلب عليّ صمتي..
عينايَ ترقبان.. ترصدان.. وفيهي لا يعرف الكلام..
كنت أمر عليه وأسلم وأصبح وأمسي.. لم يفارق المصحف يده
كان يقعد عند سريره كل ليلة بعد خروج الزيارة باقي المرضى يستمعون له ولحديثه الشيق بل كان يهون عليهم ما يشعرونه من آلام.. ويقول: يا جماعة.. ما حدش شاف اللي أنا شفته
خلوها على الله..
سيبوها للمولا..
يقولون: على الله يا عم علي على الله..
على فكرة..
بعد ذلك أصابت عم علي مرتين جلطة بالمخ
ومرة جلطة بالقلب
وهو الآن في أحسن أحواله..
وكل مرة اتصال بيننا.. يذكرني بوعده... غرفة نومي عليه!!
مودتي
اقرأ أيضاً:
يوميات رحاب: النظارة حرام..!! / يوميات رحاب: القناعة كنز / يوميات رحاب: ذهبت سعاد.