لم يكن الحب يومًا بعضًا من تخيلنا.. ولا شيئًا من عوز حاجتنا قد اخترعناه.. ولكنه موجود فينا منذ الوجود.. منذ البدء وحتى الأبد.. إنه من مكنون فطرتنا السليمة ومن طبائع خلقتنا السوية التي بثها الله فينا بفعل الكينونة.. ولكنه مشوب بأفعالنا منعوت بتصرفنا وسلوكنا الإنساني بما فيه.. نحن الذين نصبغه بالصدق تارة وبالحق تارة وبالكذب تارة وبالخيانة تارة أخرى.. نحن العابثون فيه.. الكاذبون به.. المخادعون باسمه.. ونحن أيضًا الباذلون لأجله كنه الروح ونبض الفؤاد...
إنه الحب.. نعمة الله علينا وهبته فينا وأساس خلقه لنا وهدف وجودنا.. أظن الله قد خلقنا لأجل الحب ولنشر الحب على أرضه!!! أو لم يخلقنا للعبادة؟ وما العبادة إلا حب وخضوع، وهذا هو الفارق الجوهري بين عبادة العبد وعبادة الرب.. إنه الحب.. الحب الذي يجعلنا نكره ذلنا وعبوديتنا للمخلوق ونحب خضوعنا ونتفانى فيه حين يكون للخالق.. أو لم يخلقنا الله لإعمار الكون؟ وهل يكون الإعمار إلا بالحب؟!! وهل تكون للعمارة جدوى إلا أن يكون الحب أساسها المتين وعمادها القوي!!
فأبدًا لم يكن الحب خيالاً ولا اختراعًا ولن يكون مهما استبدت به الأهواء وعصفت بنكهته الظنون، ولكن... وكم أخشى النقاط السود بعد ولكن.. هل نحن حقا نحب؟ وهل نعرف معناه؟ وقيمته؟ وهل ننزله بقلوبنا منزلته التي يستحق؟ ولماذا نصر على أن نأخذ بعضه ولا نحتمله كحالة وجدانية متكاملة يجب أن نحياها ونحييها في خضم نفسياتنا المتقلبة التعبة بأفعالنا؟ لماذا نصر على أن نفتته؟ ونفصله كل على مقاسه وحجمه؟ لماذا نقحمه في عنصرياتنا المتفاوتة وقد خلقه الله خارج نطاق التميز الحيواني من عرق وجنس ولون؟ لماذا؟؟؟؟
قديمًا.. وحين الطفولة كان الحب يتمثل في أهلينا الأقارب وفى أضيق نطاق حولنا وهو الأم والأب والإخوة والأخوات ومع الكبر شيئًا فشيئًا اتسعت دائرة الحب فينا لتشمل الأصدقاء في المدارس والجيران وبعض من الأهل الأباعد، ومع كل تقدم نحو مزيد من العمر تتسع الدائرة وينقسم الحب بداخلنا ويتوزع كل يوم ويزيد مثلما نزيد بداخلنا من عدد المتمتعين به وكلما كبرنا كبر ونما وتشعبت أشياؤه فينا وعرفنا له ظلاً آخرًا وتناقضًا نلقاه في جفاء أخ أو غلطة صديق.. في قسوة أب أو شقوة قريب.. والحب ينمو ويتشعب ويعرف ويتقرب ويبعد ويتهرب من هذا أو نحو ذاك...
ونفر بمراهقتنا من كل هذا لنستقر بحبنا نحو الجنس الآخر.. وتصدق له مشاعرنا ..ونفضل حبه على شتات الحب فينا. ونظنه آخر المطاف في رحلة الحب منذ المبتدى.. ونلقي فيه بجذوة الحب وجنونه وصبوته وظنونه ونحيا على ألا حياة لنا سواه.. ولهذا يقولون أن حب المراهقة الأول هو أصدق الحب لأنه يحمل أصدق المشاعر ويتخذ خطًا آخرًا من خطوط الحب فينا.. خطًا يتلذذ بعذابه ويلتاع بشوقه ويئن نشوة بسهر لياليه.. ولكنه حين ينهار ربما لسذاجته وقلة خبرته أو لتخطيه كل حواجز الواقع أو لبراءة لم تعد سمة لهذا الزمان.. ينهار فينا شيء ثمين نظل نبحث عنه فيما بعد حتى نموت.. شيء يجعلنا نفكر بمنطق أكثر وبعقلانية أشد وبواقعية أصعب مما كنا عليه حال حبنا الأول.. شيء يضع نصب أعيننا فكرة الارتباط بكل تبعاتها ومشقتها، فلم يعد الحب مجرد رعدة كهربائية تلبسنا حين نرى الحبيب وتسرى في أوصالنا وتبرق في عتمتنا وترعد كل لقاء.. لقد صار الحب فينا نهجًا نحو الأمان و لبنة أساسية للسكون ولحظة تمرد نعلن فيها راية الاستقلال والاستئثار ببيت وأسرة وحياة بعيدًا عن مسميات الأهل وقواعد بيت العائلة وحدود الأب وسطوة الأم بطيبتها وحنيتها..
وهكذا ينضج الحب فينا شيئًا فشيئًا ويعرف كيف يشق طريقه في قلوبنا وينبت من كيانه كينونة أخرى يسميها "الزواج" ويبثها من عطفه ويسقيها من معينه الذي لا ينضب فينا حتى الموت ولا أظن زواجًا يقوم ويقوى ويشتد ويواجه ويستمر على غير الحب أساس.. ولا أظن زواجًا يثمر ويعطى ويربي وينجز دون أساس من الحب الذي هو مودة ورحمة وتآلف وانصهار.. وحين نتزوج عن حب نرفع جميعا أسمى شعارات التضحية ونرسي في ذواتنا أهم مبادئ الاحتواء فلم نعد نعبأ بأنفسنا وفقط بل هناك من يحتاج منا أن نعبأ به ونسكنه فينا ونمده من أطياف مشاعرنا مالا يهدأ ونطالبه بذلك أيضًا.. إنه العطاء.. العطاء الذي يطَّرد مع الحب ارتفاعًا وانخفاضًا.. العطاء الذي قد ينهي الحب أو يزيده تواصلاً وتأصلاً فينا.
وقد ينتهي كل هذا.. نعم.. قد ينتهي كل هذا الحب أو لنقل قد يفتر ويذبل لأني أعتقد أن الحب الصحيح لا ينتهي ولسوف يظل ولو ذكرى أيام كم تمنينا ألا تنقضي.. وحال الانتهاء كحال الابتداء.. مثلما بدأنا بثورة داخلية عن سر معاناتنا في الحب المراهق الأول وتلافيناها بتفكير عقلاني أكثر مع بدايات النضج والزواج.. تعود أنفسنا الثائرة تطل برأسها من جديد وترمي بتساؤلاتها في جحيم الإحساس بالفشل.. لماذا انتهينا؟ ألم يكن يومًا حبًا؟ هل كان الحب زيفا أو وهما؟ أم أنه حقًا شيء من عوز حاجتنا قد اخترعناه؟.. وتموت أيامنا على أعتاب السؤال، ولا جواب غير إلقاء كل اللوم على الآخر أو تعذيب أنفسنا ببعض من هذا اللوم في أحسن الأحوال.. ولا جواب.. لأنه لا سؤال.. ولم يكن أبدًا هذا هو حال السؤال!!! لم تكن القضية أنى أحببتك أو أنك يومًا أحببتني ولم يكن الاستفهام عمن قتل هذا الحب المتبادل أو عمن حرمه لذة البقاء؟ وأبدًا لم يكن العيب فينا ولا في تيار الحب الساري بين ضلوعنا منذ عهدناه وليدًا في أيامنا.. إذن.. فأين السؤال.. وأين القضية؟!!!
لما كان الكمال لله وحده.. ولما كنا منقوصين مقصورين غير معصومين!!! كان الحب المطلق الكامل لله وحده .. هذه قضيتنا وهذا هو مكنون سؤالنا ..ولا أدرى تحديدًا من المخطئ فينا؟ نحن أم أهلونا!! وكيف لا يعلموننا الحب مثلما يعلمونا الأكل والشرب والنطق بالكلام في أول حبونا.. ولماذا لم يغيروا مسار تيار الحب فينا في لحظة ما ليكون حبًا ربانيًا لله وفي الله!! ربما لأنها فطرتنا التي لابد أن نتعهدها ونستمدها ونستقيها من ديننا فكأن هذا الشيء البديهي لا يحتاج لكثرة إلحاح ولا تسليط أضواء ربما!.. وربما يكونوا فعلوها ولم يلحوا عليها وربما كنا في حاجة أن ندور في مفرغ حلقات أيامنا حتى ننتهي إلى هذه الحقيقة وربما.. وربما.. ولكنه الجواب النهائي على تساؤلنا الذي كان يبدو عقيمًا.. فمن أراد الحب المطلق فليوجهه لله وليشكل خيوطه في هذا الاتجاه وليتعلم كيف ينسج على منوال هذا الحب أحدث صيحات الموضة العاطفية وأرق تفصيلات الرومانسية العطرة.. ولتطغى ملامح هذا الحب على كل المحبين ولتسيطر قسماته على حل حنوٍّ وثنية في قلوبنا.. فأبدا لم يمنعنا الله من أن نتمرس الحب وقد خلقه فينا.. وأبدًا لم يكن إيماننا والتزامنا به عثرة في وجه الحب.. وليس هناك ما يمنع أن نصبغ كل ألوان حياتنا بصبغة الحب المطلق.. ولنعلمه أحباءنا من بعدنا.. كل في موقعه.. فلا يحتاج هذا العلم إلا الحب.. ولا يدرس غير الحب.. بل لن تكون نتيجته إلا حبًا..
إذن فلنبدأ من جديد.. ولنعد صياغة كل مناهجنا الرومانسية.. ولنربي أنفسنا على الحفاظ على فطرتها السليمة.. ولننمي ذواتنا في هذا الاتجاه الرومانسي الخالد.. أنك حين تحب.. تحب في الله.. وتحب ما يرضي الله.. وتحب ما يقرب إلى الله.. فهذا هو الخلود في الحب.. هذا هو جواب السؤال الحائر فينا زمنًا.. لماذا قد ينتهي الحب برغم الصدق وبرغم العطاء والاحتواء وبرغم السنين؟!! لأننا لم نصبه في قالبه السليم.. في بوتقة الخلود.. فحين أحببنا وتزوجنا كنا ننظر تحت أقدام هوانا.. كنا نستشرف اللحظة التي كنا فيها وفقط.. كانت تشغلنا آمال الآخذ ولذة العطاء.. أنتظر منك وتنتظرين مني.. لم يكن بمقدورنا لحظتها أن نتخيل حال البعد وخشونة الفراق.. كنا نظن أن ثوب الحب سيظل جديدًا وأنفاسه لن تشعر يومًا بالاختناق.. إنها حال كل المحبين.. الذين أضاعوا طعم الحب اللذيذ من أجل قليل من ملح الحياة..
على أية حال الأمر مازال بأيدينا والحب مازال قيد قلوبنا وعقولنا فلنفعله فينا ولنجعله طبيعة حياة فحين تهامس زوجتك تليفونيًا بكلمة حب في وسط النهار فلتفعلها لأن الله يحب ذلك منك قبلها.. وحين تعصم نفسك من ذنب في حق من تحب فلأجل الله وحبه ورضاه قبل أن يكون من أجل من تحب.. وحين تعامل وحين تجامل.. فليكن لله قبل أن تجعله لمحبوب.. وحين تحب الأب والأم فليكن لله لأن الله أمر بذلك قبل أن يكون لأجل ما فعلاه لأجلك.. وأنت أيتها المرأة العظيمة بتكريم الله لك والعزيزة بالله وبالإسلام الذي جعل لك وقارًا ومكانة في كل قلب عليك أن تطيعي وتخضعي لمحبة الله ثم لزوجك.. عليك أن تتطيبي شكلاً ومضمونًا لأن الله يرضيه هذا منك قبل أن يسر بذلك زوجك.. عليك أن تحبي مهام بيتك إرضاء لله قبل أن يكون إرضاؤك للزوج.. تفعيل الحب لله وفي الله.. أرضيها وترضيني.. وأعطيها من فيض حبي وتعطيني لأن الله أمرنا بذلك.. على ألا ننتظر جزاءًا من بعضنا البعض.. لأنه سيبقى عند الله.. لأنه سبيل الله.. ونهج حبه.. ومنوال رضاه.. بهذا يخلد الحب.. وتخلدون.. ويثمر الحب.. ويعطي الكثير مما تشتهون.. فلنحب على هذا الأساس.. ولنقيم عواطفنا طبقًا له.. ولنجعله ميزان مشاعرنا.. وما أجمل أن نجعل الله قاسمًا مشتركًا فيما نحب ومن نحب..
وأخيرًا وبعد أن تعلمنا كيف نحب.. وكيف نفعل هذا الحب ونجعله خالدًا إلى أبد الآبدين.. تعالوا نحب.. ونعلم قلوبنا معنى خالدًا للحب..
وللحب كلام آخر عندي..
فإلى لقاء
اقرأ أيضا:
مدونة: بكتب اسمك يا حبيبي/ رفات حب/ ما هو المستحيل في الحب المستحيل/ الحب المستحيل، والفقه../ على باب الله: لندن دفء الحب/ الحب..ومنهجية الجنون !/ اعترافاتي: جراح الحب لا يمكن تجنبها