جلسنا كعادتنا أنا وإحدى صديقاتي الفلسطينيات نتحدث، ولاحظت أنها -كعادتها أيضاً- كثيرة التأفف والتأنف، تتصور أموراً مقززة وتشعر بالقرف، وتبالغ في تحري النظافة في كل ما تطاله يداها.. ولما كنت من مجانين موقع مجانين الدائمين، فقد أدركت أنها تعاني من وسواس النظافة، وقررت مساعدتها.
على الفور بدأت أحكي لها عن موقع مجانين، وأرشدها إليه لتقرأ الاستشارات المتعلقة بالوسواس القهري وتحديداً وسواس النظافة، وسوف يساعدها ذلك كثيراً في التخفيف من حدة قرفها المبالغ فيه.. أو على الأقل فهم حالتها والسيطرة عليها.
صديقتي تثق فيّ كثيراً أو هكذا كانت، فأنا في عينيها والحمد لله متدينة ومؤدبة ومثقفة وووو.. لم تتردد لحظة في الأخذ بالنصيحة، بل اتجهت فوراً إلى جهاز الحاسب الآلي ودخلت على الإنترنت وبالتحديد على موقع مجانين. وأرشدتها إلى البحث في الاستشارات من خلال كلمتين: "وسواس النظافة"، وما هي إلا ثوانٍ معدودات حتى كان بين أيدينا عشرات الاستشارات الوسواسية.
بسم الله نبدأ أول استشارة، وتقرأ جارتي عن وصف تفصيلي لحادثة تحرش افتعلتها إحدى الموسوسات في الحمام.. لا لا ليس هذا ما نبغي، لقد ضللنا الطريق.. واتسعت عينا صديقتي المحدقتين في شاشة الكمبيوتر كفنجاني قهوة تركي، وارتفعت يدها اليسرى لتتجه إلى خدها الأيسر وتلتصق به، ثم تنطلق أخيراً من حنجرتها شهقة طويلة واحدة "هييييييييييييييييييييي"!! ثم أعقبتها بأخرى من نوع آخر "يييييييييييييييييييييييييييييييي"!!
وتحركت عيناها المفجوعتين باتجاهي وهي توسعني وتزيد قائلة: "أنت متدينة!!!!!"
قلت لها: "يا حبيبتي.. ده موقع استشارات نفسية، وطبيعي يكون فيه استشارات من هذا النوع و...." ولم تتح لي الفرصة لأكمل، وإنما قاطعتني بقولها: "كنت بفتكرك متدينة!!!! أنت بتدخلي على هادي السايتات!!!!! ما بيصييييييييييييييير!!!!!!!".
آآآآآآآآآآآآآه، هنا أصبحت قضية ومشكلة، وينبغي عليّ تصحيح الصورة وإيضاح الموقف إلا انتشر الخبر المغلوط في "الحارة الفلسطينية" كلها -هكذا أطلق على منطقة سكني- حيث أقيم في منطقة معظم سكانها من الفلسطينيين الأشقاء والأعزاء والذين يعرف بعضهم بعضا ًويعرفونني جيداً بفعل نشاطي الدعوي فيها. حاولت مرة ومرة ولكن يدها تأبى أن تتزحزح من مكانها فوق خدها الأيسر، وعيناها تتسع كلما تحدثت أكثر وأكثر.. الأمر لله ولا حول ولا قوة إلا بالله وإنا لله وإنا إليه راجعون وليقضيّ الله أمراً كان مفعولا.
بعد مرور حوالي ثلاثة أسابيع، كانت لي جلسة رائعة في بيت إحدى الجارات مع صديقات وجارات من دول عربية مختلفة، وانضمت إلينا أم صديقتي تلك في صباح مشرق تتخلل هبات نسيمه أحاديثنا الحميمية وضحكاتنا المنطلقة في ساعة صفاء. ودار الحوار حول موضوعات من هنا وهناك، ثم عرجنا إلى شباب هذه الأيام وما يستهويهم، والإنترنت كسلاح ذو حدين.. وبدأت أم صديقتي تتحسس شيئاً فشيئاً وتلف وتدور حول هذه الفكرة، وأن الكثير من المواقع تروج لأشياء "ما بيصير" وأن ا لإنسان المتدين ينبغي أن يحفظ نفسه من الشيطان والهوى، ويتجنب مثل هذه المواقع.
وأكدت على قولها بأن الله تعالى رقيب وعلى كل شيء شهيد، مرددة قوله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ منَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} النساء108 وراحت أم صديقتي تؤكد: "وخاصة إذا كان الشخص متدين.. ما بيصير".
ووافقتها مؤكدة وجود عدد كبير من المواقع الهادفة والمحترمة والتي يمكن الاستفادة منها مثل موقع "مجانين.كوم" وموقع..... آآآآآآآآآآآآآه، ومن هنا بدأ الصراخ ينطلق من حنجرة أم صديقتي: "ما بيصير.. ما بيصير"، وعلمت أنني المقصودة بهذا الحوار كله وأن موقع مجانين العزيز "ما بيصير"!! وهي تحدجني بعينين نصف مفتوحتين تنطقان بكلمة واحدة: "ما بيصير"، وحاولت كالمعتاد توضيح الصورة وبيان كل الخدمات التي يقدمها الموقع وأهدافه العلاجية ودوره في نشر ثقافة الصحة النفسية في المجتمع العربي و............. وكلما توقفت لحظة لألتقط أنفاسي عاجلتني أم صديقتي بقولها: "ما بيصير"!!.
وانفجرت وقد أحمر وجهي خجلاً وأسفاً وحنقاً.. فإلى متى سنظل عاكفين على كل هذا الجمود الفكري من ثقافة الـ "ما بيصير" غير عابئين بأن الحياة حولنا كشباب لم تعد كما كانت في أيام ذلك الجيل الرائع الذي لم يكن لديه إنترنت ولا فضائيات، وإلى متى ستظل بعض العادات والتقاليد الخاطئة تحكم تفكيرنا حول الذي يصير والذي لا يصير!!
أوضحت لأم صديقتي ولجاراتي الحاضرات أن الموقع محترم وأن ما يعرضه استشارات نفسية يحتاج أصحابها إلى من يأخذ بيدهم ويشرح لهم طبيعة أمراضهم التي يعانون منها ويوجهونهم إلى طلب العلاج النفسي، ولكني لم أتلقى مردوداً من بعض الحاضرات سوى الصمت، بينما هتفت أم ص ديقتي: "شو موقع نفساني، هم الشباب ناكصين شروحات وتفاصيل!!".
كان الحوار عقيماً في نتيجته ثرياً فيما يطرحه من جهل بأبجديات الحد الأدنى من الثقافة النفسية المطلوبة والضرورية لتسيير حياتنا دون أن نصطدم بعضنا برؤوس بعض.. والله ما بيصير!
واقرأ أيضاً:
لماذا سميناه مجانين؟ دمنا مجانين مشاركة / اسم مجانين اسم الله عليه / مجانين في تحقيقات المصور / مجانين دوت كوم.. يحل عقدك النفسية