يا ترى: لماذا مثل هذه الكتابة، وما جدواها؟ وإذا كنت قد سئمت منها كما أدعي، كما سئمت من الكلام سواء بالمشاركة فيما يسمى حوارا أو "توك شو" أو محاضرة أو أي كلام، فلماذا أواصل؟ أشعر هذه الأيام – مثل بعض مرضاي – أن هناك مؤامرة لا تمت إلى التفكير التآمري بصلة، ولا إلى مجموعة أمراض البارانويا، مؤامرة أغلب الظن أننا مشاركون في تدبيرها لأنفسنا،
بصراحة: كنت أزهو طول عمري سرا، أنني أنتمي لهؤلاء الناس "المصريين"، ويتجسد لي هذا الشعور أكثر حين أكون وسط عينة من هؤلاء الذين يسمون "مرضى نفسيين"، في خبرة العلاج الجمعي مع شباب وشابات يتدربون معي ونحن نكتشف سويا بعض ما هو نحن مع مرضانا. هؤلاء هم الذين علموني أكثر فأكثر من هم المصريون:
خلال أربعين عاما: أذهب كل أربعاء، كل أربعاء، صيفا وشتاء، إلى قصر العيني، قسم الطب النفسي الذي تجدد بملايين الجنيهات مؤخرا ليخدم الفقراء مجانا (غير"على حساب الدولة")، ألتقي بالمجموعة الحالية: حوالي عشرة مرضى، وثلاثة طبيبات، عينة عشوائية غير ممثلة بالضروره للثقافة المصرية، لكنهم ناسي وأهلي، نظل معا: مثل كل عام، إثني عشر شهرا، حوالي خمسين أسبوعا، يتخلّق منا وبنا خلال هذا العام الكامل ما أسميته: "الوعي الجمعي"، ينتقل اهتمامنا من العلاقات الثنائية إلى العلاقة بالزمن عاملا حيا ماثلا حين تصبح الساعة التي تجمعنا "السابعة والنصف صباحا" هي مركز الأسبوع الذي نتمحور حوله: ندور حوله وقبله وبعده، فيستمر لقاءنا حتى بعد افتراقنا، كما تصبح الحجرة التي تضمنا هي منطقة أمان الرعاية والمسؤولية والمعية، ورويدا رويدا، نكتشف أننا أصبحنا ننتمي إلى هذا الوعي المشترك، نتعمد ألا نتكلم عنه، ولا يملكه واحد منا دون الآخر؛
يستمر اللقاء 85 دقيقة، كل أسبوع، كل أسبوع، نعيش "الهنا والآن" طول الوقت، نعيش في اللحظة الحاضرة جدا، فلا يتحدث أي منا – كما شاع عن العلاج النفسي – عن الماضي أو الأسباب أو العقد أو هذا الكلام الذي يشيعه الأطباء النفسيون، يتعمق "الآن" بنا ونحن نتخلق منه، فيمتد خيالي إلى من هو خارج الحجرة "الرحم"، فيصلني وقع خطى العاملين بالقسم، من أول عمال النظافة والحراسة إلى رئيس القسم، فأشعر أنهم مصريون كذلك، وجدًّا، لكنهم أبعد عني من الذين أنتمي إليهم داخل الرحم الجمعي هذا، تنتهي الجلسة تلو الجلسة، فلا تنتهي، لأن الوعي الجمعي الذي تكوّن فيما بيننا يملأ وسط الدائرة أكثر فأكثر، وهو لا ينتهي، بل هو ينمو إذا اقتربنا، وينمو إذا ابتعدنا، إذ كلما ابتعدنا بانتهاء الجلسة، وتواعدنا على لقاء الأسبوع التالي، نجد أن كل واحد منا قد احتوى جزءا من هذا الوعي الجمعي المتشكل أكبر فأكبر، وأرحم فأرحم.
نكتشف أن المسألة ليست هي في أننا نتذكر بعضنا بعضا أثناء الأسبوع، إذ أن ما ينمو بيننا هو شيء آخر بعْد الذاكرة وقبلها، المسألة تصبح أن "كل واحد منا أصبح يحتوي كل واحد منا" أكثر فأكثر، كلما اقتربنا من بعضنا البعض نخاف أن ننفصل عن مجتمعنا الأوسع مع أننا نتبين اغترابه باضطراد متزايد، نشتغل في ذلك، فنتعلم كيف أن قربنا يقربنا من هذا المجتمع (المغترب) الأوسع وليس العكس.
ينتهي العام، ولا تنتهي العلاقة، بل لعلها تبدأ بشكل آخر دون أن ندري، ينصرف كل منا إلى عالمه الخاص السابق بعد أن يتوقف هذا اللقاء الأسبوعي، ينصرف لكنه لا ينصرف فنحن معه، معنا، يتطور هذا الوعي الجمعي الذي تكون فنكتشف أننا: نستطيع أن نحب من لا نعرف، وأن نعرف ما لا نقصد معرفته، وأن نفعل ما كنا نتصور أننا كنا أعجز عن أن نفعله،
ما علاقة كل ذلك بما يجري في مصر الآن؟
منذ بدء الأحداث في 25 يناير، مشروع الثورة، (ربنا يتمم بخير!!)، ناقشنا- معا في هذه المجموعة: هنا والآن – ما يجري حولنا وفينا، لعدة أسابيع، لم تكن مناقشة لطرح آراء ووجهات نظر، فهذا ضد قاعدتنا الجوهرية "هنا والآن"، عشنا مشاعرنا معا، كانت معايشة مليئة بفرح مشروع، وحذر أكبر، وألم متصاعد، وأمل ممتد، واستمرار ممكن، لا يعرف أحد من أفراد المجموعة معنى كلمة "الاقتصاد"، ولا حتى ما هو "الدستور"، ولا "نص المادة الثانية"، ولا المراحل التارخية لما هو "ثورة"، ولا ما هي البورصة، لكنه يعرف ثمن كيلو الطماطم، ويسمع عن كلمة "لحمة" بين الحين والحين.
بعد مرور اثني عشر شهرا يخرج أغلبنا مختلفا، يكتشف انه تغيّر، لا يعلن ذلك بالضرورة، ولا يعرف كيف هو تغيّر في ماذا، لكن ذلك يصله، يصلنا دون ألفاظ عادة، نكتشف أننا أصبحنا "معا" فنتعرف على قيمة هذا الحرف الجديد "مع"، كما نكتشف – دون توصيف– نبض حروف أخرى وصلتنا بشكل جديد فغيّرتنا مثل حرف "في"، وخاصة إذا برق في الوعي وهو يسبق اسم الجلالة، "في الله"، وإذا بهذا الجار والمجرور لا يميز بين متعلم وجاهل، بين طبيب ومريض، بين غني وفقير، ونكتشف أيضا القدرة السحرية لحرف "على" الذي كنا نتصور أنه حرف يعني شيئا "فوق" شيء، وإذا بنا نمارس ما نتعلم منه أننا استعملناه معظم الوقت بمعنى الالتزام، والعهد، نحن نجتمع "على" هذا الوعي، ونفترق "على" هذا الوعي، وإذا بهذا الوعي يصّاعد بنا "إليه"، مفتوحا على مصراعيه ليسعنا طول الوقت، ويسع معنا مثلنا، كلا من موقعه،
الثورة إبداعٌ جماعي مغيّر؟
أفترض أن دوائر الوعي الجمعي الضام من مجموعات مختلفة، يمكن أن تنبض معا في وعي أكبر فأكبر فأكبر، فيحدث مثل ما يحدث معنا في العلاج الجمعي، على نطاق أوسع، فأوسع فتكون ثورة. هل هناك وجه شبه بين هذه الخبرة التي عشتها، وأعيشها وسط مصر المصريين منذ سنة 1971 وبين ما بدأ يوم 25 يناير2011؟ ولا أعرف كيف سوف يكتمل، هل يا ترى يتصدع وكأن هذا الوعي الجمعي تخثر بدلا من أن يصّاعد؟
ليست عندي إجابة، ولا أريد إجابة، إذ أخشى أن تكون سلبية
لم أيأس من مصر ولا من المصريين، لكنني أحذر من أمريكا واسرائيل وحتى الصين، ويستمر الوعي، ويمتد الـ "مع"، وتحتد المسؤولية، وأصالح ناسي مهما عملوا، وندعو الله أن نجتمع "فيه"، و"عليه"، "إليه"، ليتشكل الجاري في ثورة ممتدة، حتى تصبح حضارة واعدة..... ولِمَ لا؟
25-7-2011
واقرأ أيضاً:
الرؤية المستقبلية لمصر/ لا.... للإحباط/ سلوك الحشد/ المرشحون للرئاسة بين الكاريزما والضمير2/ قنا: البحث عن.. جملة مفيدة/ أهم من الاستفتاء، وأخطر من ثورة مضادة/ هنا والآن.. الثورة تكون إزاي؟؟