يبدو أننا في العالم العربي لم نفهم السلطة التي نتعامل معها فنظن أنها سلطة أبوية حانية نلجأ إليها لتحل لنا مشاكلنا وتسهل لنا أمور حياتنا ونشعر في كنفها بالأمان، وفي مقابل ذلك نمنح السلطة الكثير من الطاعة والتعظيم والتبجيل أو الخضوع والإذعان والتسليم، ونعتقد أنها تعرف المصالح العليا للوطن أكثر منا، ونصدق الشعارات الوطنية الرائعة التي ترددها السلطة ليل نهار لتدغدغ بها مشاعرنا، ونستمتع بالأغاني الوطنية في الأعياد القومية ونعيش معها حلما وطنيا رومانسيا جميلا. ولكننا بعد فترة نكتشف أن هذا لم يكن حقيقة السلطة بل كان قناعها، وأن السلطة استغلت سذاجة الجماهير لكي تكرس لمصالحها وأهدافها (أي السلطة) والتي تتعارض تماما مع مصالح الجماهير. وحين تثور الجماهير على السلطة نرى أن السلطة لا تفهم طبيعة الثائر وأهدافه وتوجهاته فتراه بالشكل الذي تريده أو تشوهه لتبرر لنفسها سحقه وتدميره. إذن فهناك سوء فهم دائم بين السلطة والجماهير يتبعه علاقة مضطربة بينهما.
وقد انشغل عالمان كبيران بدراسة هذا الأمر فحاول نيقولا مكيافيلى تصور سيكولوجية السلطة من خلال كتابه "الأمير"، وحاول جوستاف لوبون تصور سيكولوجية الجماهير (الخاضعة للسلطة) من خلال كتاب "سيكولوجية الجماهير"، وقد صدم العالمان الوعي الإنساني العام بما كتباه، حيث صور مكيافيلى سلطة الأمير منقطعة الصلة عن أي قواعد أخلاقية وأطلق مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" ورأى أن السلطة دائما قاسية وغاشمة وظالمة ومستغلة وأن هذا من حقها ولو لم تفعل ذلك لاستضعفتها الجماهير وسحقتها، وصور جوستاف لوبون الجماهير على أنها كائن غير منطقي يميل للاستهواء والاستلاب وتتحكم فيه عواطفه واحتياجاته البدائية وأن هذا الكائن الجماهيري حين يثور يصبح أكثر عدوانا وطغيانا من الفرد. ولكي نفهم هذه الإشكالية المعقدة نحاول تشريح السلطة بشيء من الإيجاز.
الخصائص النفسية للسلطة
هناك خصائص نفسية مشتركة لا تكاد تخلو منها أي سلطة نذكر منها:
1- الرغبة في الاستقرار والاستمرار
2- الرغبة في خضوع الآخرين وكسب ولائهم
3- الهاجس الأمني الذي يجعل السلطة في حالة خوف وحذر واستنفار
4- الضيق بالمعارضين ومحاولة دفعهم بعيدا عن دائرة النفوذ والتأثير
5- العناد والكبر
6- الميل للانتقام ممن يهدد أو يظن أنه يهدد استقرار أو استمرار أو هيبة السلطة
7- الازدواجية (الانفصام): بمعنى أن السلطة تعلن مبادئ معينة تبدو براقة ومثالية وعادلة وفى ذات الوقت تخفى أنانيتها وحرصها الشديد على مصالحها الذاتية، وهو ما يعرف بالفجوة بين الأيديولوجية والسيكولوجية، فالسلطة تصدر للجماهير شيئا وتحتفظ لنفسها بشيء آخر، وبمعنى آخر فإن السلطة رسميا مع الأيديولوجية المثالية المعلنة ونفسيا مع مصالحها الذاتية.
كيفيات ممارسة السلطة
ذكر جون كينيث في كتابه "تشريح السلطة" أن هناك ثلاث كيفيات لممارسة السلطة هي باختصار:
1- الكيفية القسرية: وهى تقوم على العنف والقهر والترويع للرعية حتى تحكم السلطة قبضتها عليها دون أي احترام أو تقدير لإرادة هذه الرعية، بل على العكس تنظر السلطة إلى الرعية باحتقار واستخفاف وتجاهل. وهذه السلطة تميل إلى استخدام قوانين الطوارئ وإلى تقوية أجهزة الشرطة والجيش وإلى استعراض القوة في كل مناسبة وحتى بغير مناسبة، ويصبح الجهاز الأمني هو صمام الأمان ومبرر الوجود لهذه السلطة، وبالتالي لا تهتم بالحوار مع الجماهير أو محاولات إقناعهم أو استمالتهم أو إرضائهم بالوسائل السياسية أو غيرها، وإنما هي دائما تستخدم الحل الأمني بشكل مفرط. وهذا هو أكثر أشكال السلطة بدائية ووحشية وغباءً، وهذا النمط منتشر بكثرة في دول العالم الثالث المتخلفة.
2- الكيفية التعويضية: هذه السلطة تنال رضا شعبها عن طريق المكافآت المادية وفرص الرفاهية والاستهلاك وبعض الحرية الفردية، فكأنها تشترى ولاء الشعب برشوته ببعض التعويضات المادية، وتنتشر هذه الكيفية في الأنظمة الرأسمالية الليبرالية، وهذه السلطة تشترى إرادة شعبها ولكن بصورة أكثر قبولا حيث تخلو من العنف والازدراء.
3- الكيفية التلاؤمية: وهى تعنى تبادل الرأي واحترام كل طرف للآخر واللجوء للتثقيف والإقناع والحوار الحقيقي، ووجود حالة من الشفافية والتعددية الحقيقية، والتوازن بين السلطة والشعب.
أنواع الأنظمة السياسية
يمكن تقسيم الأنظمة السياسية إلى نوعين رئيسين:
1- أنظمة الطفرة: وهى أنظمة تتشكل في ظروف غير طبيعية (كانقلابات عسكرية أو تعيين أو توريث) وكأنها تأتى بالمصادفة، وهذه الأنظمة تكون غير منطقية وتصرفاتها غامضة وفجائية وغير مفهومة، فهي تخضع لمزاج فرد على رأس السلطة، ولا يمكن التنبؤ باتجاهاتها أو قراراتها، وهى دائما في حالة تخبط واضطراب وتنتقل من فشل إلى فشل حتى تصل إلى الانهيار. والسلطة في هذه الأنظمة هي سلطة الفرد أو سلطة السلطة أو سلطة الطغيان والاستبداد.
2- أنظمة الاستقرار: وهى أنظمة قامت على قواعد ديموقراطية سليمة حيث تم انتخابها بشكل طبيعي من الشعب، وهى تعمل طبقا لدستور حقيقي تحترمه (ولا تغيره حسب رغبتها واحتياجاتها)، كما أنها تستند إلى مؤسسات حقيقية تضمن ثباتها برغم تغير الأشخاص، وهذه الأنظمة تقوم عل الإرادة الجماعية للشعب ومؤسساته وتضمن تداول السلطة بشكل سلمى لذلك تتجدد دماؤها من وقت لآخر بشكل صحي بعيدا عن المغامرات والمهاترات. ويستطيع المراقب لهذه الأنظمة أن يفهم كيف تسير ويتوقع خطواتها واتجاهاتها لأنها سلطة منطقية شفافة وشريفة ومتناسقة مع أهدافها وغاياتها ومع مصالح شعوبها. والسلطة في هذه الأنظمة هي سلطة الإدارة القائمة على الدستور والقانون.
أنماط السلطة
ويمكن تصور أنماط السلطة بطريقة أخرى كالتالي:
1- السلطة المنطقية: وهى قائمة –كما ذكرنا– على أسس واضحة ومفهومة.
2- السلطة غير المنطقية: وهى تتسم بالغموض والعشوائية وعدم الاتساق.
3- السلطة الأبوية: وفيها يعتبر صاحب السلطة نفسه أبا للرعية وفى نفس الوقت ينظر لرعيته على أنهم أطفال قاصرين لا يعرفون مصلحتهم، ولذلك لا يتورع عن إلغاء إرادتهم (من خلال حكم مستبد) أو تزييف إرادتهم (من خلال انتخابات وهمية تحقق لصاحب السلطة أهدافه باسم الشعب ومن خلال إجراءات شبه ديموقراطية مزيفة).
4- السلطة الفرعونية: وفيها يشعر الحاكم بملكية الوطن وملكية الشعب والأحقية المطلقة في التوجيه والتصرف، وهذه السلطة يصورها فرعون بقوله: "أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتي"، وقوله "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد" وقوله "ما علمت لكم من إله غيري".
5- سلطة السلطة: وهى تقوم على شرعية القوة الشرطية والعسكرية.
6- سلطة الفرد: وفيها يتحكم فرد في كل شيء ويمسك بكل الخيوط، ويلعب بقية الناس أدوار الكومبارس أو السكرتارية أو العبيد.
7- سلطة الإدارة: وهى تقوم على مؤسسات حقيقية معبرة عن إرادة الجماهير، وتوجد آليات حقيقية لمراقبتها ومحاسبتها وتعديل مسارها وتجديدها من وقت لآخر بطرق سلمية.
وربما تستطيع الآن عزيزي القارئ من خلال هذه الخريطة التشريحية للسلطة أن تعرف نوع السلطة التي تتعامل معها وتتعامل معك، وأن تعرف مصيرك ومصير أبنائك بناءا على تركيبة السلطة التي تحكمك (أو تشكمك) وتتحكم فيك، والأهم من ذلك أن تعرف ما يتوجب عليك فعله كصاحب حق وصاحب مصلحة.
واقرأ أيضاً:
احتمالات تحالف الإسلاميين داخل البرلمان وخارجه/ مللت السذاجة..سئمت الغباء/ كيف خسر السلفيون في معاقلهم انتخابيا؟/ "العسكري" يتعجل الصدام مع الإسلاميين