يبدو برنامجا فكاهيا لطيفا ومقلبا رمضانيا يبعث على الضحك ونحن نرى كمشاهدين الضحية –أحد الفنانين- يوهمونه بأنه ذاهب لتصوير برنامج تليفزيوني في الغردقة، وبينما هو في الباص يتحدث (أو تتحدث) مع فتاة أجنبية جميلة، إذ تفتح فجأة أبواب جهنم في صورة هجوم إرهابي على الباص يحاول إيقافه ويقوم أفراد الفريق الملثمين وحاملي الرشاشات باقتحام الباص وترويع من فيه، وكلهم تقريبا يتبعون فريق العمل إلا الفنان الضحية المستهدف بالمقلب. وطبعا يتم ذلك في جو من الرعب ويتم نسف سيارة أمام الباص بنيران حقيقية ليزيد إدخال الرعب على الضحية، ثم يتم تقييده (أو تقييدها) تحت تهديد السلاح، ويمر الضحية بلحظات عصيبة جدا حتى يكتشف في النهاية أن ما حدث كان مقلبا. فهل يا ترى تسير الأمور بسلام بعد هذا الحدث، أم أن ثمة آثار ضارة تلحق بالضحية بعضها قد يظهر مباشرة بعد الحدث وبعضها قد يتأخر ظهوره. على المستوى القريب والمباشر يعاني الضحية مما يسمى التفاعل الحاد للصدمة Acute Stress Reaction ويظهر في صورة توتر شديد في الجهاز العصبي مع اضطراب في النوم وضعف الشهية للطعام ورعدة في الأطراف واستجابة مبالغ فيها للمثيرات العصبية مع سرعة استثارة وانفعالات زائدة. أما على المدى الأطول فيحدث ما يسمى "كرب ما بعد الصدمة" Post Traumatic Stress Disorder) PTSD) وهو اضطراب نفسي معروف يظهر كرد فعل متأخر أو ممتد زمنيا عقب حدث يحمل طابع التهديد الخطير أو الكارثة الاستثنائية التي تهدد حياة أو سلامة الشخص أو تهدد آخرين أمام عينيه. وتبدأ الحالة بعد فترة كمون تتراوح بين بضعة أسابيع إلى عدة شهور لتظهر أعراض في صورة نوبات اجترار وإعادة تذكر ومعايشة الحدث الصدمي أثناء اليقظة أو في الأحلام مع حالة من الخوف والهلع أو الإحساس بالخدر والتبلد الانفعالي والانفصال عن الآخرين وتجنب كل ما يتصل بالحادث من رموز أو علامات أو ذكريات. وتشيع حالات القلق والاكتئاب كمراضة مصاحبة لكرب مابعد الصدمة، كما تزيد نسبة التفكير في الانتحار، وقد يلجأ الشخص لاستخدام بعض العقاقير أو الكحوليات لتقليل حدة الإضراب الذي يشعر به. وقد تتحسن الحالة بعد عدة شهور، وأحيانا تأخذ مسارا مزمنا قد يمتد لعدة سنوات خاصة إذا لم تتخذ إجراءات علاجية مناسبة.
وقد تحدث تغيرات في الشخصية نتيجة انهيار ما يسمى بالإفتراضات الأساسية في الحياة لدى الضحية حيث أننا في الأحوال العادية نشعر بأن الأمان هو الأصل وأن السلامة هي القاعدة وأن حياتنا وكرامتنا وسلامتنا مصونة من الغير ، ولكن حين نواجه بحدث استثنائي كهجوم إرهابي أو حادث مروع أو زلزال أو بركان فإن افتراضاتنا الأساسية تهتز ونشعر بأن الخطر قائم وأن حياتنا مهددة وأن سلامتنا غير مؤكدة، وهذا يعطي انطباعا سلبيا عن الحياة يستقر في أعماق النفس وينتج عنه مشاعر وأفكار سلبية. ويصاحب الحالة اضطراب في الجهاز العصبي المستقل في صورة سرعة في ضربات القلب وتعرق ورعشة بالأطراف وشعور بالاختناق وتقلصات بالبطن خاصة عن التعرض لأي شيء يعيد تذكر الحادث المؤلم أو الصادم.
والذين قاموا بعمل البرنامج لا ندري أهم يعرفون ذلك أم لا، وربما يقولون أننا نعلن للشخص المقصود أن هذا مقلب وأننا نمزح معه، ولكن للأسف الشديد فِإن معرفة الضحية لاحقا بأن هذا كان مقلبا لا يغير في الأمر شيئا، إذ أن المخ والجهاز العصبي قد استقبل الحدث وتفاعل معه على أنه حقيقة وحدثت الذاكرة الصدمية وتأكدت ولا يفيد كثيرا بعد ذلك معرفة أن هذا كان مزاحا.
وللأسف الشديد بدأ هذا التوجه في العام الماضي على نفس القناة وبنفس الأشخاص تقريبا في صورة تعريض الضيف لرؤية أسد يقف على باب الأسانسير بينما يتعرض الأسانسير لعطل ويظل الشخص (الضحية) قريبا من الأسد يشعر بالتهديد في لحظات عصيبة حتى يكتشف أن ما حدث كان مقلبا. وتزداد خطورة مثل تلك الممارسات في الأشخاص الأكبر سنا والذين يمكن أن يصابوا باضطرابات خطيرة في القلب أو في الجهاز العصبي قد تودي بحياة أحدهم أو تترك آثارا مرضية خطيرة ... ومن هنا وجب التنبيه والتحذير، وأرجو أن تتبنى الجمعية المصرية للطب النفسي دعوى مناهضة مثل تلك البرامج التي تؤدي إلى أضرار نفسية على المدى القريب أو البعيد لأن هذه مسئولية أهل العلم والتخصص.
وحتى من الناحية الفنية فإن إحداث كل هذا القدر من الرعب حتى يضحك المشاهد لهو من قبيل ضعف القدرات الفنية، إذ الفن الحقيقي يتميز باللطف والرقة والجمال وليس بالعنف والتهديد الذي يشكل خطرا على حياة الناس. وليس من المقبول أو المنطقي أو الأخلاقي أو الإنساني أن نعرض حياة أو سلامة إنسان للخطر مقابل انتزاع ضحكات الجمهور أو الحصول على أموال طائلة من الإعلانات التجارية.
ويضاف إلى ذلك ما قد يحدث من تشجيع للناس على عمل مقالب لأصدقائهم على هذه المستويات الخطرة كنوع من التقليد والمحاكاة، ولا يمنع من ذلك التحذير المكتوب في بداية البرنامج.... ولو كنا في مجتمع يحافظ على حقوق الناس لطالب الضحايا بتعويضات عما أصابهم أو ينتظرهم من ضرر بسبب ما تعرضوا له من زلزال نفسي هز استقرارهم النفسي وأحدث لديهم شروخا نفسية قد يعانون من آثارها سنوات طويلة .
اقرأ أيضا:
اضطراب الكرب التالي للرضح / طائرات الدخلاء، هل تسبب صدمة الرضح الكربي؟ / كرب ما بعد الصدمة لدى أطفال فلسطين / محاولة لفهم آية انقلبت