على الرغم من أن التفاصيل الكاملة للحادث الإجرامي الذي وقع في منطقة رفح المصرية لم يُكشف عنها بعد إلا أن الرسالة التي أرادها الجُناة والرسائل التي أرادتها أطراف أخرى قد وصلت وسريعاً، غير أن الرسالة الأهم والأخطر التي لم تحرص الأطراف المعنية في مصر على فتح ملفاتها أو حتى البوح بها، ونعني بها الحالة الأمنية البائسة لمصر في مناطق الحدود مع الكيان الصهيونى والتي تعود بشكل أساسي إلى استمرار مصر في التزاماتها بالبنود الأمنية الواردة في معاهدة السلام المصرية "الإسرائيلية" وملحقاتها العسكرية، وإلى التفريط في مرتكزات أمن مصر الوطني في العلاقة مع الكيان الصهيونى.
رد الفعل الأول الذي اتخذته مصر فور وقوع الحادث هو إغلاق معبر رفح لأجلٍ غير مسمى. هذا الإجراء ربما يكون إحترازياً لمنع عودة أي من العناصر الإرهابية إلى قطاع غزة، على الرغم من ترجيح دخول بعض الإرهابيين من غزة إلى سيناء عبر الأنفاق وليس عبر معبر رفح، لكن أياً كان الأمر فإن إغلاق المعبر لأجلٍ غير مسـمى يُعد ضربـة موجعـة للجهود المضنيـة التي بذلها إسـماعيل هنيـة رئيـس الحكومـة المقالـة في غزة مع السـلطات المصريـة ومع الرئيـس المصري محمد مرسـى شـخصياً من أجل تحسـين أوضاع هذا المعبر بالنسـبـة لأبناء الشـعب الفلسـطيني والتخفيف من معاناتهم اليوميـة بسـبب قيود الحصار التي فُرضت على القطاع وأهلـه. يُذكر بهذا الخصوص أن بعض القنوات الفضائية التابعة لرجال أعمال متهمين بأنهم شركاء "بيزنيس" مع الصهاينة تلقفوا الحدث سريعاً، وبدأوا في شن هجوم ضار على حركة "حماس" وعلى الشعب الفلسطيني في مجمله، ضمن مسعى لتحميل الرئيس المصرى جانباً من المسؤولية عن الحدث، باعتباره من شجع على فتح بوابة معبر رفح على مدى ساعات اليوم.
ومن هنا نستطيع أن نتفهم الرسالة الأولى بأنها محاولة للوقيعة بين الحكم الجديد فى مصر وحركة "حماس" في تحرك هدفه ضبط الأداء المصرى في ذات الاتجاه الذي التزم به الرئيس المخلوع ونظامه الذي ارتكز على قاعدتين: الأولى هي الانغماس في إجراءات تنسيق أمنى مع الكيان الصهيونى هدفه الأساس أن تتحول مصر إلى قاعدة لحماية الأمن "الإسرائيلي" من الجنوب، والثانية هي التضييق على قطاع غزة لوضع حركة "حماس" في موقف العاجز عن إدارة القطاع ومن ثم إجبارها على الخضوع للشروط "الإسرائيلية": وأولها نبذ "الإرهاب"، أي التخلى عن خيار المقاومة نهائياً، وثانيها، الاعتراف بالكيان الصهيونى، وبعدهما أن تنضم إلى السلطة الفلسطينية جنباً إلى جنب في مسار التفاوض الهزلي الذي يحمل كذباً مسمى "السلام"!
أما الرسالة الثانية فهي استكمال للرسالة الأولى، وتتعلق بالحرص "الإسرائيلي" على تأمين التزام الحكم الجديد بمعاهدة السلام كخطوة أولى تقود إلى التنسيق الأمنى مع مصر؛ فعلى مدى الأشهر الماضية كان "الإسرائيليون" حريصين على تحويل سيناء من منطقة "فراغ أمني" بالنسبة لمصر إلى منطقة "خطر أمني" على مصر وعلى الكيان معاً، وتوظيف عمليات التفجير المتتالية لخط الغاز الذي يربط مصر بالكيان وغيره من الأحداث الأمنية في سيناء لخدمة هذا الغرض، وجاء الحادث الأخير وما ارتبط به من أداء "إسرائيلي" ليحمل الرسالة ذاتها وهي أن "التنسيق الأمني المشترك" بين البلدين "هو الحل".
قبل ذلك كان "الإسرائيليون" مهمومين بموقف الرئيس المصرى الجديد وجماعته بمعاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية، حاولوا التواصل المباشر، وفشلوا، وحاولوا التواصل غير المباشر عبر الأصدقاء الأمريكيين وعلى الأخص وزيرة الخارجية (هيلاري كلينتون) ووزير الدفاع (ليون بانيتا) اللذان زارا مصر والتقيا بالرئيس المصري محمد مرسى والمشير محمد حسين طنطاوي القائد الأعلى للقوات المسلحة، وفي كل من زيارتي (كلينتون) و(بانيتا) كان محور المحادثات هو البحث في التزام مصري بمعاهدة السـلام مع (إسـرائيل)... يجيء الحادث الإجرامى الأخير في رفح ليخدم ما كانت تعيـش (إسـرائيل) هواجسـه وبالذات الضغط على القيادة المصريـة لإعلان رسـمي بالتزامها بتلك المعاهدة كخطوة أولى ضمن مسـعى الوصول مجدداً إلى حالة التنسـيق الأمني والعودة مجدداً إلى تلك الحالـة أو تلك الخدمـة من الالتزامات المصريـة للكيان الصهيوني التي كبّل بها مبارك مصر وجعلت منـه "كنزاً اسـتراتيجياً" لهذا الكيان..!!
التعامل "الإسرائيلي" مع الحدث كان من الواضح أنه يسعى إلى تسويق دعوة "الشراكة الأمنية" مجدداً مع مصر على نحو ما جاء على لسان (شيلي بجيموفيتش) رئيسة حزب العمل "الإسرائيلي" في تأكيدها على أهمية العلاقات الأمنية بين مصر و(إسرائيل)، وأن "التعاون بين البلدين يُعد أمراً ضرورياً ومحورياً لردع الإرهاب". أما السفير "الإسرائيلي" لدى واشنطن فقد أفرط في استغلال الجريمة عندما اتهم إيران بدعم الإرهابيين المسؤولين عن تنفيذ هجوم رفح الإرهابي، الذي استهدف على حد قوله ما أسماه بـ "الحدود الجنوبية لـ (إسرائيل) فضلاً عن محاولتهم قتل مدنيين "إسرائيليين".
الشراكة الأمنية تأكدت عملياً في تصدي "الإسرائيليين" للهجوم الذي شنته الخلية الإرهابية من بوابة "كرم أبو سالم" على الحدود بين مصر والكيان الصهيوني، وبإسراع الجنرال (بيني جانتس) رئيس الأركان إلى موقع الحادث والتقائه بالضباط والجنود "الإسرائيليين" الذين تصدوا لمحاولة الاختراق التي قام بها هؤلاء الإرهابيون بعد استيلائهم على إحدى المدرعات المصرية من القوة المصرية من حرس الحدود عند بوابة رفح. تأتي الرسالة الثالثة، والتي لا تقل سوءً، التي أرادها هؤلاء الإرهابيون الذين يحملون خطأً مسمى "الجهاد"؛ فهؤلاء التابعون لتنظيم "القاعدة" يسعون منذ فترة إلى تحويل سيناء إلى مركز انطلاق للسيطرة على السلطة في مصر، من خلال تثبيت منطقة نفوذ لهم داخل سيناء مستغلين الفراغ الأمني الذي فرضته معاهدة السلام المصرية ـ "الإسرائيلية" التي جعلت سيناء شبه خالية في معظمها من الوجود العسكري المصري القوي، وهم يُخططون لإسقاط الحكم الجديد الذي يرونه فرَّط في فرض شرع الله كأساسٍ للحكم في مصر بعد الثورة، ولكنهم في سبيل ذلك يحرصون على القيام ببعض العمليات ضد الكيان الصهيوني، بدأت بتفجيرات خط الغاز، والآن تدخل مرحلة جديدة من العمل المباشر ضد الكيان، من دون اعتبار للوسيلة حتى ولو كانت من خلال قتل ضباط وجنود مصريين والاستيلاء على أسلحتهم للقيام بهذه العمليات.
تحليل قتل الجنود والضباط المصريين للاستيلاء على أسلحتهم بهدف إما شن عمليات ضد الكيان الصهيوني أو لاستخدامها مستقبلاً ضد الأمن المصري يُشبه تحليل فقهاء الإرهابيين لسرقة محال الذهب في المدن المصرية لشراء ما يلزمهم من أسلحة ونفقات ضمن ما أسموه بـ "العمليات الجهادية" اعتقاداً منهم بأن هذه السرقة مشروعة.
هؤلاء الإرهابيون قتلوا إخوانهم وسرقوا أسلحتهم ليُهاجموا بها أحد مواقع العدو، اعتقاداً منهم أن هذا هو "الجهاد"، ولا يدرون أنهم يُمارسون الإرهاب وأن لعنة الله سوف تُطاردهم وإرهابهم إلى الأبد لقتلهم أبرياء في أفضل لحظات العمر وبالتحديد لحظة إفطارهم من صومهم؛ فالذين قُتلوا أضحوا شهداء، أما الذين قتلوهم فأصبحوا إرهابيين ومطاردين.
تبقى الرسـالـة الأهم التي لم تُرسـل بعد ولم يُنطق بها بعد، وهي أن ما حدث سـببـه الفراغ الأمني وغياب الجيـش المصري عن حدوده... لم يعد ممكناً أن يبقى جيـش مصر بعيداً بكل أسـلحتـه عن حدوده، في الوقت الذي تُرابط فيـه قوات العدو الصهيوني على الحدود مع مصر ليـس فقط بكامل أسـحلتها الهجوميـة، ولكن أيضاً مرتكزة على تفوق نوعى مطلق في هذه الأسـلحـة وبدعمٍ وبتعهداتٍ أمريكيـة لضمان هذا التفوق... والأكثر هو التفرد بامتلاك السـلاح النووي. ما حدث سـببـه غياب الجيـش المصري، وبدلاً من أن يُوظف الحادث لاسـتعادة "الشـراكـة الأمنيـة" مع العدو أضحى واجباً أن يعود الجيـش المصري إلى أراضيـه في سـيناء ليحمى بلاده.
الخليج، الشارقة،
10/08/2012
واقرأ أيضًا: