الحكمة السريرية: هل هناك حكمة سريرية؟ (1)
وفق النظريات الصريحة التي تناولت الحكمة في السياق النفسي، وجدنا نظرية التوازن لستيرنبرغ (1990)Sternberg’s تتصور الحكمة باعتبارها مركب من الذكاء التحليلي والذكاء العملي والإبداع، فهي تتشابه مع تصورنا عن الذكاء في القدرة على حل المشكلات من خلال القيم الأخلاقية الإيجابية، نحو تحقيق الصالح العام وتؤكد على مسألة التوازن بين عدة أبعاد سياقية وزمنية. كذلك عند مراجعة نموذج برلين للحكمةBaltes, Smith, & Staudinger, (1992) باعتبارها الخبرة في السلوك ومعنى الحياة أو المعرفة الخبيرة وهذا يتيح رؤية استثنائية، وإصدار حكم ناتج عن معرفة وخبرة، فالحكمة تتطلب قدرًا من الخبرة والممارسة والكفاءة والحكمة جانبها الإدراكي أو المعرفي هو الأساس (Baltes & Staudinger 2000)
وقد تصورت مونيكا أرديلت (2004) الحكمة باعتبارها تكاملًا لخصائص الشخصية المعرفية والانعكاسية (التأملية) والوجدانية في الفرد، وأن الحكمة تعتبر سمة شخصية ومع ذلك يمكن تعلمها واكتسابها. وهناك من ينظر للحكمة الشخصية باعتبارها تجمع بين العناصر المعرفية والوجدانية، مثل التوازن بين العاطفة وعدم التعلق، والفعل وعدم الفعل، والمعرفة والشك في التعامل مع تقلبات الحياة (Birren & Fisher, 1990).
بينما يقدم ويبستر Webster تصورًا آخر للحكمة تتمثل في الموارد النفسية التي تجعل الشخص حكيما في نموذج هيرو - إي HERO (E) الذي يجمع بين تجارب الحياة الحرجة، والتنظيم الانفعالي، والذكريات والتأمل الاسترجاعي reflectiveness /reminiscence، والانفتاح على الخبرة، والفكاهة (Webster, 2003).
ويرى باركر أن الحكمة السريرية clinical wisdom تتمثل في مساعدة المرضى على اتخاذ قرار عقلاني بشأن قبول أو رفض الفائدة المحتملة المتغيرة من قرار التدخل، وهذا يتطلب – إذا سمح به- مسئولية ذاتية حقيقية (Parker, 2002. P.279) وهذا يعني أن الحكمة ترتبط بإشراك العميل في القرار والحكم المرتبط بمشكلاته، وأن الحكمة هنا تم النظر إليها في الحكم والقرار في المواقف المعقدة.
واقترح باوم بايكر وسيستي تعريف الحكمة في سياق العلاج النفسي بأنها: متجذرة في البراغماتية، بمعنى أنها مهارات براغماتية عملية تشمل، على سبيل المثال لا الحصر، الوعي بالتوازن، وقبول التناقض بعناية بطريقة مفتوحة وغير مرهونة بأحكام nonjudgmental، وأنها طريقة إسريرية مبنية على اللطف والتواضع والاحترام العميق للآخر. (Baum-Baicker & Sisti, 2012, p.13-22).
هذا يعني أن طبيعة الحكمة نظام معرفة مقترن بالخبرة، ومجموعة معقدة من الخبرات، أو مجموعة من القدرات والموارد النفسية في السياق المهني، وليست بناء أحادي، بل بناء متعدد الأبعاد وتشمل الكفاءات المعرفية الوجدانية والتفاعلية. ولا شك أن الوصول لتعريف جيد يتطلب التحقق من تصور ما تجريبيًا وإحصائيًا وليس فقط استنتاجًا ضمنيًا، فإذا تطورت النماذج التفسيرية سيرتبط بها تعريفات جيدة يمكن سردها بحيث تتميز بالوضوح والدقة لتكون جامعة مانعة للمقصود.
كما أن هذا يدعونا للتساؤل حول طبيعة الحكمة في سياق العلاج النفسي هل ترتبط فقط بمنظور المعالج أم المريض والمستفيد من الخدمة النفسية أيضا بمعنى هل من المهم تفسير وقياس الحكمة لدى المعالج أم لدى المريض أيضا؟ فربما تتوقف نتائج التدخل على ما لدى المعالج من حكمة وكذلك ما يتوفر لدى المريض من حكمة. وبصيغة أخرى، هل هناك علاقة بين الاستعداد للاضطراب أو الاعتلال النفسي وبين افتقاد الحكمة؟ وهل هناك علاقة بين النجاح المهني للمختصين وبين امتلاكهم للحكمة؟ لأنه يمكن استهداف الحكمة السريرية في ممارسة المعالج وشخصيته وكفاءته، ويمكن استهداف الحكمة في شخصية المريض، وطريقة تفكيره ومهاراته النفسية والاجتماعية.
فمثلا تحمل الغموض هي قدرة مشتركة في كثير من تعريفات الحكمة، فإذا أخذنا منظور المعالج ومدى قدرته على تحمل الغموض في مشكلة المريض والأعراض والشكوى والبيانات التي يجمعها وعدم تعجله لتحديد المشكلة الحقيقية أو الوصول لتشخيص معين أو التسرع في تكوين انطباع تشخيصي، بينما يمكن في نفس الوقت تدريب مريض القلق المعمم على تحمل الغموض وعدم التأكد للتعامل مع أفكاره ووقف سلوكيات السعي لطلب الأمان غير المفيدة. ولا شك أن المقصود بالحكمة السريرية هنا هي الحكمة من منظور المختص النفسي، لكن هناك منحى آخر للحكمة في سياق العلاج النفسي هو استهداف الحكمة في المريض.
إن مفهوم الحكمة كما رأينا ليس سهل الاتفاق عليه وتحديده، وذلك لما يتميز به كمفهوم مجرد ومتعدد الأبعاد عبر الثقافات والزمن. ويبدو أن الأكثر صعوبة هو كيفية تطبيقه في سياقات مختلفة وخاصة سياق العلاج النفسي، فما هي الحكمة التي يمكن أن يتمثلها المعالج والمختص ويطبقها في سياق العلاج النفسي؟ عادة ما يلجأ الباحثون لتحديد الحكماء في العلاج النفسي من خلال ترشيحات الزملاء والأقران لمن يعتقدون أنهم حكماء في مهنة العلاج النفسي باعتبارهم قادرين على حل المواقف المعقدة أو رؤية تفاصيل غير واضحة للغالبية أو حققوا نجاحات معينة أو تصدروا لواجهة التعليم والتدريب، ثم يتم التواصل مع هؤلاء المرشحين باعتبارهم حكماء ليتم التعرف على طرق تفكيرهم وسماتهم وما مروا به من مواقف وخبرات وما تعلموه عبر سنوات جلسوا فيها مع المرضى كي يصلوا لتلك الحالة النموذجية من الممارسة الحكيمة. وهذا يوضح لنا صعوبة الانتقال من نماذج الحكمة العامة أو الشخصية إلى نوع آخر من الحكمة في سيق مهني محدد مثل السياق الكلينيكي. ولكن سنحاول استعراض بعض خصائص وملامح الحكمة السريرية. فقد حدد حنا وأوتينز Hanna and Ottens (1995). قائمة بالخصائص الرئيسة للحكمة في سياق العلاج النفسي مستنبطة من الأدب النفسي المتعلق بالحكمة وتتمثل في:
خصائص الحكمة | |||
ويعني تفهم الآخرين من منظورهم الخاص ومن منظور موضوعي غير متحيز. | التعاطف Empathy | 1 | |
الاعتراف بالسياق، والتأثير المتبادل بين الظواهر، والافتراضات، والتفاعل مع الرأي المعارض، والتوجه نحو التغيير المفيد. | التفكير الجدلي Dialectical reasoning | 2 | |
الاعتراف بالغموض كمكون جوهري في طبيعتنا الإنسانية وتفاعلاتنا مع الآخرين والعالم. | تحمل الغموض Tolerance of ambiguity | 3 | |
الاهتمام بالمحددات والافتراضات حول التفكير والمعرفة حول المعرفة. | موقف فوق معرفي أو ما وراء معرفي metacognition stance | 4 | |
الاهتمام بالآخرين ومهارات الإنصات والاستبصار بطبيعة النفوس والعلاقات والتعلم من الأخطاء وأخذ كل جوانب وأبعاد الموقف معا، ومعرفة الذات والسمو الذاتي. | الدهاء أو الفطنة sagacity | 5 | |
مقاومة الميل ناحية التجاوب مع الأمور بشكل آلي كما يحدث في العادة والأفكار التلقائية وأنماط السلوك المقولبة والوعي بوجود الضغوط وإمكانية الاختيار. | اللا آلية أو عدم الأتمتة deautomatization | 6 | |
القدرة على الرؤية الثاقبة خلال المواقف والقدرة على الفهم الحدسي والتفسير الواضح الجلي لما يحدث. | البصيرة perspicacity | 7 | |
القدرة على تحديد إطار المشكلة وموضعها بشكل صحيح وكذلك الحلول التي ل تؤدي إلى مزيد من المشكلات. | رصد المشكلات وحلها Problem finding and solving | 8 |
جدول (8) قائمة بالخصائص الرئيسة للحكمة في سياق العلاج النفسي Hanna & Ottens,1995, P.199))
عند البحث في الارتباطات الظاهرية التي تبرهن على أهمية دمج الحكمة بمكوناتها النفسية العامة مثل مراعاة السياق وتحمل الغموض والتفكير الجدلي والتعاطف وغيرها في السياق العلاجي سنجدها ضمنية ومستنتجة أكثر من كونها صريحة، فمثلا إذا كانت الحكمة تؤكد على جانب التعاطف والمواجدة، فإن التعاطف جزء أصيل من عملية العلاج وخاصية جوهرية في المعالج الكفء، وقد يكون نقص التعاطف سببًا في تسرب العميل، وظهر هذا جليًا في أعمال كارل روجرز وحديثا في العلاجات القائمة على الشفقة أو التراحم الذاتي Self-Compassion (Germer,& Neff, 2013) في الموجات العلاجية الحديثة، وإذا نظرنا للحكمة باعتبارها شكلا من أشكال التفكير الجدلي فإن التفكير الجدلي هو مكون أساسي في منحى العلاج الجدلي السلوكي المسند (Linehan, 2014). وإذا أخذنا جانب مراعاة السياق فسنجد أن بداية من الدليل التشخيصي DSM في فهم بعض المحكات يراعي ذلك (مثلا مراعاة سياق العمر والسياق الثقافي: في تشخيص الرهاب الاجتماعي حيث في الأطفال يجب أن يحدث القلق في مواقف مع الأقران وليس فقط أثناء التفاعل مع الراشدين/ أن يكون الخوف أو القلق غير متسق مع التهديد الفعلي للموقف الاجتماعي، ولا يتسق مع السياق الثقافي). وكذلك مناحي العلاج المختلفة كالعلاج السلوكي والعلاج الأسري الوظيفي تهتم بفهم السياق في التقييم والتدخل، وحتى فهم المشكلات ترتبط بمراعاة الأبعاد السياقية والثقافية، بينما يمكن أن تحدث أخطاء مهنية إذا أغفلنا جانب السياق والبعد الثقافي، وهذا البعد السياقي يرتبط بمكون أساسي من مكونات الحكمة وهو نسبية القيم والتسامح مع السلوك في ضوء السياق.
فالحكمة بهذا الشكل متغير نفسي أصيل وله دور في عملية العلاج النفسي سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، بشكل شخصي في المعالج أو بمنظور مهني في سمات واتجاهات ومهارات متطلبة، أو بما هو مكتسب من الحياة والخبرات أو بالتدريب والتعلم، أو بما ترتبط به من مناحي علاجية.
المراجع:
- Baltes, P. B., & Staudinger, U. M. (2000). Wisdom: A metaheuristic (pragmatic) to orchestrate mind and virtue toward excellence. American psychologist, 55(1), 122.
- Baltes, P. B., & Smith, J. (1990). Weisheit und Weisheitsentwicklung: Prolegomena zu einer psychologischen Weisheitstheorie. Ztschr Entwicklungspsychol Päd Psychol, 22(2), 95–135. http://library.mpib-berlin.mpg.de/ft/pb/PB_Weisheit_1990.pdf
- Baum-Baicker, C., & Sisti, D. A. (2012). Clinical wisdom in psychoanalysis and psychodynamic psychotherapy: A philosophical and qualitative analysis. The Journal of Clinical Ethics, 23(1), 13-27.
- Birren, J. E., & Fisher, L. M. (1990). The elements of wisdom: Overview and integration. In R. J. Sternberg (Ed.), Wisdom: Its nature, origins, and development (pp. 317–332). New York: Cambridge University Press.
- Germer, C. K., & Neff, K. D. (2013). Self‐compassion in clinical practice. Journal of clinical psychology, 69(8), 856-867.
- Lieberei, B., & Linden, M. (2011). Wisdom psychotherapy. Embitterment: Societal, psychological, and clinical perspectives, 208-219.
- Linehan, M. (2014). DBT? Skills training manual. Guilford Publications.
- Peterson, C., & Seligman, M. E. (2004). Character strengths and virtues: A handbook and classification (Vol. 1). Oxford University Press.
- Sternberg, R. J. (Ed.). (1990). Wisdom: Its nature, origins, and development. Cambridge University Press.
- Sternberg, R. J. (1998). A balance theory of wisdom. Review of General Psychology, 2(4), 347.
- Sternberg, R. J. (2003). Wisdom, intelligence, and creativity synthesized. Cambridge University Press.
- Webster, J. D. (2003). An exploratory analysis of a self-assessed wisdom scale. Journal of Adult Development, 10(1), 13-22.
ويتبع: الحكمة السريرية مقابل العلاجات المعيارية (3)
واقرأ أيضاً:
رسائل الله الغامضة / الأبعاد السيكولوجية لأسرة الطفل الذاتوي (التوحدي)