القلق هو طاعون العصر الحديث بكل امتياز. هذا العصر الذي بات يملأ حياتنا بكل ما يعقدها ويبعد عنها بهاءها ويكدر صفاءها، وجوهر القلق هو الحيرة والخوف اللذان قد يستبدان بالإنسان إلى درجة توصله إلى الاكتئاب الممزوج بحالة تشاؤمية جزئية أو مطبقة، وثمة شيء قد يكون أخطر من ذلك، فعدم الاعتراف بالقلق وعدم مواجهته والتصدي له بعقلانية وشجاعة قد يؤدي إلى آثار تدميرية تتجسد في اليأس المطلق أو الانهيار النفسي الكامل، ولو قدر -على سبيل التخمين للتوضيح- أن القلق الذي نعايشه يملأ (ربع) جهازنا المعرفي والوجداني لأمكننا التمييز بين حالتين:
الحالة الأولى: أن نعترف بالقلق ونقرر مجابهته بكل عزيمة، ففي هذه الحالة يمكن لنا أن نقدر أن التصدي للقلق ومعالجته سوف يستهلك (ربع) مدخراتنا الفكرية والنفسية ليتبقى لنا (نصف) رائق للتفكير والإبداع، وهذا لا يعني عدم تأثير القلق على ذلك النصف، ولكنه تأثير محدود لا يشوش عليه ولا يشتته.
الحالة الثانية: عدم الاعتراف بالقلق، فهنا قد نستخدم (ربع) طاقاتنا الفكرية والنفسية لإخفائه والتظاهر بعدم وجوده، مما يجعل (النصف الآخر) مشوشاً إلى الحد الذي قد يعطل آلة التفكير عندنا فضلاً عن الإبداع، لا سيما أن (الربع) الذي نتظاهر فيه بعدم القلق يؤدي إلى الضغط على (الأسلاك الداخلية) مما يؤجج المشاعر والأحاسيس المحبوسة، لتنفلت من عقالها وتنشط كمشتتات للأذهان ومعذبة للوجدان.
ولئن كان القلق المزمن، القلق العميق -قلق السمة- هو بتلك المثابة وبذلك التأثير على الإنسان فهو كذلك أيضا بالنسبة للثقافات أو على نحو قريب منه أو مشابه له؛ فالقلق ليس ظاهرة فردية فحسب بل هو ظاهرة جمعية أيضاً تلتصق برحم الثقافة التي لديها القابلية الكافية والبيئة المواتية لاستزراعه، ويمكن أن نضيف هنا مسألة هامة لاسيما لثقافتنا العربية الإسلامية، وهي أن (الثقافة المثالية المفرطة) تكون عادة أكثر عرضة للإصابة بالقلق، حيث إنها تنزع إلى الإيمان بوجوب تحقيق مستويات عالية جداً من الأداء والنتائج من جهة؛ حتى لو كانت لا تتوفر على الأدوات والإمكانيات الضرورية، ولأن المثالية من جهة ثانية قد تدفعها إلى عدم الاعتراف بالداء -القلق- مما يعيش تلك الثقافة قلقاً كبيراً تدافع به قلقها المستتر. والواقع المعاش يشهد بوجود تيارات السلفية تحديداً - تحاول صبغ ثقافتنا بمثالية مفرطة من جراء عمليات (ملكنة) مجتمعاتنا العربية والإسلامية وإخراجها عن حيزها الإنساني بخيره وشره.
وبإزاء تتبعنا للقلق وتشخيصه في مسار (الثقافة القلقة) يمكننا رصد ثلاثة أنواع رئيسة من القلق التي يمكن أن تصيب تلك الثقافة، وذلك كما يلي:
1 - القلق المزروع: حين تحاط الثقافة برعاية مبالَغ فيها، وخوف مفرط متواصل من لدن بعض أفرادها - الأوصياء-، فلا تتعرض لتجارب جادة أو اختبارات حقيقية لأدواتها ووظائفها وفعاليتها فإن تلك الثقافة تصاب بالانزعاج والاضطراب والخوف بشكل مرضي على نفسها من نفسها أو من الآخرين، والخطير أنه حتى لو قدر غياب أولئك الأوصياء فإن الثقافة تتجه إلى أن تعيش حالة من الضعف والمرض لتستدر به الحماية ذاتها التي كانت تظفر بها من قبل أوصيائها، وهذا يعني أن تلك (الثقافة المدللة) تتخذ (القلق) قوتاً تعيش منه وتتنفس في هوائه! مما يفقدها الجرأة النفسية والقوة الفكرية على الاقتحام المنهجي الجسور للفضاءات الجديدة في ميادين الفلسفة والعلم.
2 - القلق المكبوت: فالثقافة التي تتعرض لل(الكبت) بمعنى عدم تمتعها بإشباع حاجة أو (غريزة ثقافية) معينة فإن من المحتمل جداً أن يشعر أفرادها بأن ثمة شيئا (مكبحاً) في وجدانهم (الجواني)، لتشتغل أذهانهم ووجدانهم (البراني) في محاولات حثيثة لإقناع (الذات الثقافية) بإبعاد تلك الحاجة أو الغريزة عن الشعور والإدراك؛ مما يخلق توتراً واضطراباً واسعاً لدى هذه الثقافة القلقة أو (الثقافة المكبوتة)، وهنالك عدة مظاهر يمكن أن نسوقها، ومن ذلك أن الثقافة العربية الإسلامية حين يصادر (حقها) المشروع في أن تشبع غريزتها الثقافية من خلال تمتعها بخصوصيتها ومزاجها الخاص من لدن بعض التيارات الليبرالية تحديداً فإنها تدفع إلى وضعية (الثقافة المكبوتة).
3 - القلق التعويضي: حين ينشأ القلق في البيئات الثقافية المثالية المفرطة، فإنه من المحتمل أن يتأسس ذلك القلق كنوع من (السلوك التعويضي)؛ فأنت حين لا تملك أن تصنع شيئا ذا بال لإنسان قريب منك فإنك تلجأ إلى القلق كتعويض لدورك المنشود المفقود؛ قلق يخلصك من قبضة (الحرج) ويخرجك من دائرة العتاب أو الاتهام، فكأنك تقول له: إنني قلق من أجلك!! وقد يستحيل ذلك السلوك إلى نوع من التخدير للإرادة والتفكير والفعل، فتكتفي الثقافة بالقلق، به تبدأ وإليه تنتهي!! وأحسب أن المشهد الثقافي اليوم يشي بأن الكثيرين منا يكتفون بتوزيع (باقات القلق) باعتباره (فعلاً ثقافياً) لتمكين الثقافة من استرجاع عافيتها والتخلص من القلق ذاته!!
وتأسيسا على تحليلنا السابق واستعراضنا لماهية (الثقافة القلقة) وأسباب نشوئها وتمظهراتها المختلفة، يمكننا تكثيف جهودنا التشخيصية من أجل تحديد أبرز السمات التفصيلية التي تتصف بها هذه الثقافة القلقة، لكي نتمكن - من ثم - من تحديد العوامل الجوهرية المؤثرة في إنبات القلق في ثقافتنا العربية المعاصرة، ببواعثها النفسية والفكرية والاجتماعية والسياسية، كما يعيننا ذلك على تتبع أعراض ذلك القلق وآثاره المباشرة وغير المباشرة على أداء تلك الثقافة وفعاليتها في صوغ مشروعنا النهضوي.
والحقيقة أن المدخل الذي انتهجناه في توصيف الثقافة ونعتها بالثقافة القلقة يتيح لنا تحديد سمات كثيرة لتلك الثقافة، غير أننا نرى التركيز على أبرز تلك السمات، حيث يمكننا ذلك من اصطياد السمات الجوهرية وإبعاد غير الجوهري علنا بذلك نتصف ببعض خصائص التفكير الاستبصاري، الذي نتمكن من خلاله من تحديد أبعاد المعادلة الحرجة في ممارستنا التشخيصية لثقافتنا. وتتمثل تلك السمات الجوهرية بما يلي:
1 - ضعف الأنفة الثقافية.
2 - الحيرة الثقافية.
3 - كره الذات!
4 - ضياع البوصلة الثقافية وافتقاد المرجعية.
5 - ضعف الكارزمية الثقافية للمثقف العربي وللمنتج الثقافي العربي.
6 - ضعف الطابع البنائي التراكمي في الممارسة الثقافية.
7 - الازدواجية الثقافية.
8 - غلبة التفكير الآني.
9 - ارتجاج قيم الثقافة القلقة.
10 - ضعف الممارسة الإبداعية/ الإنتاج الإبداعي.
وبعد سوقنا لجملة السمات التي تتصف بها الثقافة القلقة، يتعين علينا التنبيه إلى أن ذلك يعني أننا نتوقع وبشكل عام أن يتصف ببعض تلك السمات جملة -وليس كل- المثقفين المنضوين تحت لوائها. واتصاف المثقفين بهذه السمات -كماً وكيفاً- تحكمه عوامل متعددة ومعقدة في آن، منها الذاتي والموضوعي والظرفي زماناً ومكاناً، ولعل من أبرز تلك العوامل الاستعدادات الشخصية والذهنية كسمات الشخصية وأنماط التفكير لدى أولئك المثقفين. وسيكون لنا وقفات تحليلية لكل سمة في المقالات القادمة.
اقرأ أيضاً:
متى نشخِّص الثقافة؟/ القابلية للانصياع.. والفتاوى الدينية!/ وعينا متوعك!!/ المراكز البحثية والباحثون الحقيقيون!/ ما وراء (التشخيص الثقافي)!/ الثقافة العربية المعاصرة.. (ثقافة قلقة)!