"وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ"... حين يصير الحجر حلمًا بالخلود
في سورة الشعراء، يقف نبي الله هود يخاطب قومه عاد بتعجب وإنكار: "أتبنون بكل ريعٍ آية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون". كلمتان في الآية توقظان تأملًا عميقًا: "مصانع" و"تخلدون". لم تكن تلك "المصانع" مصانع كما نفهمها اليوم، بل كانت مباني ضخمة، شاهقة، مشيدة بإتقان على المرتفعات، بنيت بغرض استعراضي يتحدى الزمان والموت، بنيت لا لتُسكن بل لتُخَلِّد. إنها مصانع لا تُنتج موادًا، بل تصنع وَهْمَ البقاء الأبدي.
وهنا يبرز تساؤل ظل يتردد عبر السنين: من بنى الأهرام؟ الإجابة التقليدية تقول إنها من أعمال الفراعنة، وتحديدًا الملك خوفو، لكن على الهامش، هناك نظريات مثيرة تقول إن بناة الأهرام قد لا يكونون مصريين أصلاً، بل من قوم عاد أنفسهم. قوم عاد كانوا مشهورين بالضخامة والقوة، حتى إن القرآن وصفهم بأنهم: "لم يُخلق مثلها في البلاد". وإن كانت لهم القدرة على بناء مصانع خالدة شاهقة في صحراء الأحقاف، فلم لا تكون لهم بصمات في أماكن أخرى من الأرض؟ خاصة إن علمنا أن الآية تحدثت عن "مصانع" بُنيت من أجل الخلود، وهي صفة تنطبق حرفيًا على ما تمثله الأهرام. ومن هنا، وُلدت الفكرة التي تبناها بعض الباحثين: أن قوم عاد – أو من تبقى منهم – قد يكونون هم من شيّدوا الأهرام، ثم اندمجت آثارهم في الحضارة المصرية، أو طُمست بفعل الزمن.
وعند تأمل الأهرام، نجد تشابهًا مدهشًا مع وصف "المصانع" في القرآن. ضخامة البناء، دقة التخطيط، الموقع المرتفع، الغرض الروحي المرتبط بالحياة بعد الموت، كل ذلك يدفعنا للتفكير في أن الأهرام كانت فعلًا أكثر من مجرد قبور. لقد كانت معابد للخلود، أو ربما مصانع خالدة للطاقة والروح. لقد سعى من بناها – سواء كانوا فراعنة أو قوم عاد – إلى تأمين الحياة الأبدية، ليس فقط عبر حفظ الجسد في قلب الحجر، بل عبر خلق بناءٍ ينجو من تعاقب القرون، ويبقي أسماءهم وأثرهم في ذاكرة الزمن.
كان الشكل الهرمي متعمدًا ومقدّسًا، يتبع زوايا فلكية دقيقة، ويتماشى مع مسارات الشمس والنجوم، وكأنه بوابة كونية. وتشير أبحاث وتجارب كثيرة إلى أن الشكل الهرمي قد يؤثر فعليًا على المواد العضوية؛ يحفظها من التحلل، يخلق طاقة داخلية، يبطئ الفساد. وإن صحّ ذلك، يكون من بنا الهرم قد فهم خصائص خفية للطبيعة والطاقة، تُعيد تعريف معنى "المصنع" و"الخلود".
وإذا عدنا لقوم عاد، فإننا نجد في وصفهم ما يذكّرنا بالفراعنة من حيث القوة والبناء والاستعلاء. كلا القومين اتخذوا من المعمار وسيلة لمدّ ظلهم في الأرض، وكأن الغرور البشري لا يختلف من أمة إلى أخرى: كلما امتلك الإنسان القوة، سعى لتجميد الزمن، واحتكار الخلود، فرفع الحجارة فوق الحجارة، ظنًا منه أنه بذلك سيبقى. لكن المفارقة أن أجسادهم لم تَخلُد، بل فنيت، بينما بقي البناء ذاته، شاهدًا عليهم، وعلى طموحهم، وعلى غرورهم.
إن ما فعله هؤلاء – سواء كانوا من عاد أو من مصر القديمة – أنهم أرادوا أن يصنعوا زمنهم الخاص، زمن لا يذوب، زمن من حجر. لم نرَ خوفو، ولم نسمع صوت عاد، لكننا نرى مصانعهم حتى اليوم، تروي حكاية من أراد أن يَخلُد. لعلهم لم يُخلَّدوا كما تمنّوا، لكن مصانعهم خلدت أسماؤهم بطريقتها الخاصة. إن الأهرام ليست فقط بناءً صمد في وجه الزمن، بل تجسيد لفكرة قرآنية عظيمة: أن الإنسان يسعى بكل ما أوتي من قوة أن يُخلِّد نفسه، لكنه في النهاية لا يخلد إلا بما يتركه من أثر.
واقرأ أيضًا:
حزب كارهي الشوربة ونافخي الزبادي / النظام.. السيستم!