من بين ما يُعرف في أدبيات العلاج المعرفي السلوكي بـ"عمليات الإدامة الرئيسة" Key Maintaining Processes للاضطراب النفسي، سنركز في هذه السلسلة من المقالات على "سلوكيات التأمين" أو احتياطات التأمين Safety Behaviors ؛ وهي استراتيجيات يستخدمها مرضى اضطرابات القلق بوجه عام قبل القيام ببعض الأفعال التي تعقبها معاناة بالنسبة لهم، أو قبل التعرُّض مضطرين للمواقف التي تثير مخاوفهم؛ بهدف منع حدوث تلك المعاناة أو المخاوف أو التخفيف من شدتها، كما يستخدمها مرضى الوسواس القهري قبل بعض الأفعال التي تعقبها الوساوس؛ بهدف منع حدوثها أو التخفيف من شدتها، وهذه السلوكيات هي التي سمَّيتها أثناء محاولات علاجي المعرفي السلوكي الأولى مع مرضى الوسواس القهري الديني - قبل القراءة عنها - بـ"وساوس وقهورات استباقية" Proactive O & C أو "وساوس وقهورات احترازية" Anticipatory O & C ، ثم سمعت عنها من "دايفيد وستبروك" سنة 2008 أثناء دورة علاج معرفي عُقدت بـ"مستشفى الملك فيصل التخصُّصي" بـ"جدة"! لأتأكَّد من أن "الوساوس الاستباقية" أو "الاحترازية" تمَّ وصفها بالفعل، وسمَّاها واصفوها بـ Safety Behaviors ، وقد ترجمتُها في البداية بـ"احتياطات الأمان"، ثم بعد قراءة أكثر قمت بتغييرها إلى "سلوكيات التأمين" أو "ضمانات السلامة"، وليختر القارئ ما يشاء؛ فكلها ترجمات مناسبة تصف المقصود.
و"سلوكيات التأمين" أو "ضمانات السلامة" هي سلوكيات ظاهرة (أو عمليات عقلية داخلية) يلجأ إليها المريض في موقف معين أو قبل فعل معين؛ لمَنْع الوساوس أو النتائجِ المخيفة، أو التقليل من حدَّتها أو خطورتها، وقد دُرس استخدام المرضى لـ"احتياطات الأمان" أو "سلوكيات التأمين" في دراسات العلاج المعرفي السلوكي لاضطرابات القلق كمتغيِّر مهم في إجراءات التعرُّض اشتُهر بأنه يفسد التعرُّض، إلا أن معظم تلك الدراسات ركزت على مرضى "الهلع" و"رهاب الساحة" و"الرهابات النوعية"، بينما بقي استخدام مرضى الوسواس القهري لـ"ضمانات السلامة" أو "احتياطات الأمان" الأقلَ دراسة.
وقد جاءت الإشارة الأولى لمفهوم احتياطات الأمان في كتابة "راتشمان" عن "مشعرات السلامة" Safety Cues و"إشارات السلامة" Safety Signals في حالات "رهاب الساحة"(Agoraphobia (Rachman, 1984، ثم وسَّع "سالكوفسكيس" المفهوم وطبَّقه على مرضى "اضطراب الهلع" (Salkovskis et al., 1996)، واصفًا ثلاثة أشكال من "احتياطات الأمان"؛ هي: التحاشي الظاهر للموقف كله، أو التحاشي الظاهر بالهرب من الموقف، أو التحاشي الخفي أو المستتر Subtle Avoidance مثلاً بالاسترخاء أو الجلوس... إلخ، ويبدو كلام "سالكوفسكيس" وشركائه هنا بمثابة الممر الفكري في هذا المبحث من التركيز على "سلوكيات التأمين" الظاهرية (السلوكية)؛ مثل: التحاشي، والهرب، والأفعال القهرية.. وكل السلوكيات الظاهرة؛ إلى "سلوكيات التأمين" الباطنية (المعرفية)؛ مثل: قمع الأفكار؛ -أي التحاشي المعرفي- وفرط التهيُّؤ والاستعداد والتوجُّس، وصرف الانتباه Distraction ، وهو ما تبلور بعد ذلك في دراسات "بارلو" وشركائه (Barlow et al., 2004)، التي أشارت إلى "سلوكيات التأمين" الانفعالية؛ باعتبارها سلوكيات انفعالية تلقائية في مواجهة الخطر، أو بالأحرى إلى البُعد الانفعالي المعرفي في استراتيجيات أو سلوكيات التأمين.
وأوسع ضمانات السلامة أو احتياطات الأمان استخدامًا من قِبل مرضى القلق بوجه عام هو التحاشي؛ سواء كان ذلك تحاشيًا موقفيًّا سلوكيًّا، أو فكريًّا معرفيًّا (Kamphuis & Telch, 1999)؛ أي على مستوى الموقف/ المكان أو الشخص، أو على مستوى الفكرة/ التخيل، وبينما نجد من "سلوكيات التأمين" ما هو سلوكيات تأمين عامَّة لكل مرضى اضطرابات القلق المختلفة (وبالأحرى لكلِّ الناس في مواقف معينة)؛ وأشهرها التحاشي بشتى صوره؛ فإن منها أيضًا ما هو سلوكيات خاصَّة بمرضى اضطراب قلق معين، أو بعرض معين، أو مجموعة أعراض عابرة للاضطراب؛ كتلك التي تصاحب الاشمئزاز أو القرف Disgust ، والتي يمكن أن يراها المعالج في مريض "رهاب العدوى" Infection Phobia ، أو مريض "رهاب الدم- الحقن- الإصابة"Blood Injection Injury Phobia ، أو في مريض "وسواس قهري".
وأيضًا نجد أن مرضى اضطراب "الهلع" أو اضطراب "قلق المرض" Illness Anxiety Disorder - مثلاً - يقومون بسلوكيات تأمين خاصَّة؛ مثل: قياس النبض كل فترة محددة، أو اصطحاب قريب أو صديق، وبعضهم يحملون معهم أدوية مساعدة في حالة حدوث الأزمة المخشية، أمَّا مرضى القلق الاجتماعي فإنهم - إخفاءً للاهتزاز أو الارتجاف أو خوفًا منه أو من السقوط - ربما يقومون بالاستناد على الأشياء، أو يسيرون بالقُرب من الحوائط، ومرضى "قلق الأداء" Performance Anxiety أو "رُهاب الحديث" Speech Phobia قد يحملون معهم قارورة ماء، وربما أقراص "منتول" أو النعناع؛ تحسبًا لما يمكن أن يحدث، كما أنَّ مرضى "القلق المتعمِّم" كثيرًا ما يطلبون الطمأنة من الآخرين، أو يحرصون على البقاء في صحبة من يحبون، أو التواصل مفرط التكرار معهم هاتفيًّا... إلخ، أمَّا "سلوكيات التأمين" الخاصَّة بمرضى "الوسواس القهري" فإنها تتباين بقدر ما يمكن أن تتباين الوساوس والقهورات المميِّزة لكل شكل من أشكال الوسواس القهري.
هل "سلوكيات التأمين" أو "ضمانات السلامة" علامات مرضية؟
على الرغم من أن من الدراسات ما يبين مَيْل المرضى بصورة عامَّة إلى استخدام "سلوكيات التأمين" بصورة أكثر مقارنة بغير المرضى (Tang et al, 2007)؛ إلا أن غالبية الناس يستخدمون "سلوكيات التأمين" نفسها لتخفيض القلق في التعامل مع بعض المواقف والحالات، إلى الحدِّ الذي يجعل من الأوقع والأنفع النظر إلى استخدام "سلوكيات التأمين" باعتبارها موجودة على سلسلة متصلة بين الاستخدام الصحي والاستخدام المرضي، بل يمكن أحيانًا أن يكون من الصعب التمييز بين الاثنين، وهو ما دفع البعض إلى توصية الأطباء بأخذ سياق السلوك التأميني كله في الاعتبار (القصد من السلوك وما إذا كان السلوك مناسبًا أو غير مناسب للموقف وكذا عواقب السلوك) قبل الحكم بتحديد ما إذا كان السلوك التأميني استُخدم بطريقة صحية أم مرضية (Thwaites & Freeston, 2005)، ففي حالة وجود تهديد حقيقي وليس متصوَّرًا يعدُّ استخدام السلوك التأميني تكيُّفًا صحيًّا؛ كأيٍّ من الاستراتيجيات الفعالة التي تستهدف التماس الأمان ويتَّبعها أغلب الناس في المواقف المناسبة، بينما يعدُّ استخدام السلوك التأميني في غياب التهديد الجدِّي المناسب استخدامًا مرضيًّا لتدابير فاشلة! تحاول الحد من القلق وتنظيم الانفعالات تجاه العواقب المخشية (Helbig-Lang & Petermann, 2010).
سلوكيات التأمين أو ضمانات السلامة واضطرابات القلق:
دُرست "سلوكيات التأمين" أيضًا في أدبيات القلق باعتبارها عوامل إدامة لاضطرابات القلق؛ وذلك من خلال حرمان المريض من اختبار مخاوفه وإثبات عدم صحتها، وقد يكون ذلك بسبب عزو الشخص عدم حصول المخشي منه إلى نجاح السلوك التأميني الذي اتبعه (Salkovskis, 1991)، أو بسبب استحواذ تلك السلوكيات على أغلب انتباه الشخص أثناء التعرُّض، وإبعاد انتباهه بالتالي عن المعلومات الخاصَّة بمصدر الخطر أو التهديد؛ بما يعيق معالجتها معرفيًّا بالصورة اللازمة (Sloan and Telch, 2002)، وتشير بعض نتائج دراسات العلاج بالتعرُّض مع منع الاستجابة لمرضى القلق أن مجرد إتاحة "سلوكيات التأمين" أثناء التعرُّض قد تكون هي العامل المفسد للتعرُّض؛ سواء استخدمها المريض أم لم يستخدمها (Powers, et al., 2004).
وبيَّنت دراسات متعددة على مرضى القلق الأثر السلبي لـ"سلوكيات التأمين"؛ وأرجعت له فشل العلاج بالتعرُّض، وتمَّ إثبات ذلك أكثر من مرة بمقارنة مجموعتين علاجيتين أو أكثر؛ ففي أبسط تصميم للدراسة يتم التعرُّض ويُسمح لمجموعة باستخدام "احتياطات تأمين" متاحة متفق عليها، ولا يُسمح للمجموعة الأخرى بذلك، وهناك طرق بحث أكثر تركيبًا، لكن هذه الدراسات - خصوصًا في الموجات الأولى منها - ظلَّت تُثبت الأثر السلبي لـ"سلوكيات التأمين" بشكل عام، كما أظهرت أبحاث حديثة ما يشير إلى أن ممارسة "سلوكيات التأمين" أو "احتياطات الأمان" تسبِّب زيادة مباشرة في الخوف والقلق في مرضى "وساوس التلوُّث" (Deacon & Maack, 2008) وفي مرضى "قلق الصحة" (Olatunji et al., 2011) وغيرهم من مرضى القلق، ورغم ما تفيد به من تقليل للقلق على المدى القصير؛ فإنها تزيده على المدى البعيد، وأحد تفسيرات ذلك هو أن اعتماد الشخص على "سلوكيات التأمين" أثناء التعرُّض يزيد الانتباه والتركيز على المثير المخشي؛ بما يزيد من وضوح إشارات الخطر والتهديد المدرك، وربما لذلك يُلاحظ، ليس فقط الإنقاص الشديد من فائدة التعرُّض للمثير المخيف؛ بل أيضًا زيادة معدلات عودة الخوف وشدته بعد انتهاء العلاج، كما ظهر في مرضى "رهاب الأماكن الضيقة" (Sloan & Telch, 2002).
ورغم ما بدا مسلَّما به لفترة طويلة من أثر سلبي لـ"سلوكيات التأمين"؛ يتمثَّل في الإفساد الجزئي أو الكلي لفوائد التعرُّض في كل اضطرابات القلق، حتى كدنا نقول: إنه سبب في فشل الشفاء الذي كان يمكن أن يكون طبيعيًّا في حالات الاضطرار الحياتي للتعرُّض في كثير من الحالات.. رغم ذلك - ربما مدفوعين بالرغبة في زيادة إقبال المرضى على العلاج المعرفي السلوكي خصوصًا بالتعرُّض مع منع الاستجابة وزيادة قدرتهم على إكماله - فقد بدأ الباحثون والمعالجون يُجْرون الدراسات التي تبين فائدة بعض أنواع "سلوكيات التأمين"، كما سنبين في المقال الأخير من هذه السلسلة.
المراجع:
1. Rachman, S. (1984). Agoraphobia: A safety-signal perspective. Behaviour Research and Therapy, 22, 59-70.
2. Salkovskis, P.M., Clark, D.M., & Gelder, M.G. (1996). Cognitive-behaviour links in the persistence of panic, Behaviour Research and Therapy, 34, 453-458.
3. Barlow, D.H., Allen, L., & Choate, M.L. (2004). Towards a unified treatment for emotional disorders. BT, 35, 205-230.
4. Tang, N.K.Y., Salkovskis, P.M., Poplavskaya, E., Wright, K.J., Hanna, M., & Hester, J. (2007). Increased use of safety-seeking behaviors in chronic back pain patients with high health anxiety. Behaviour Research and Therapy, 45, 2821-2835.
5. Thwaites, R., & Freeston, M.H. (2005): Safety-seeking behaviours: Fact or function? How can we clinically differentiate between safety behaviours and adaptive coping strategies across anxiety disorders? Behavioural and Cognitive Psychotherapy, 33(2), 177-188.
6. Helbig-Lang, S., & Petermann, F. (2010): Tolerate or eliminate? A systematic review on the effects of safety behavior across anxiety disorders. Clinical Psychology Science and Practice,17(3), 218-233.
7. Salkovskis, P.M. (1991): The importance of behaviour in the maintenance of anxiety and panic: A cognitive account. Behavioural Psychotherapy, 19, 6-19.
8. Sloan, T., & Telch, M.J. (2002): The effects of safety-seeking behavior and guided threat reappraisal on fear reduction during exposure: An experimental investigation. Behaviour Research and Therapy, 40, 235-251.
ويتبع>>>>>>>>> : احتياطات الأمان، سلوكيات التأمين في الوسواس القهري
واقرأ أيضا:
في العتمة .. ضي مدخل مكمل .. عن الألم / تقنية تدريب الانتباه Attention Training Technique / اليقظة الراضية أو الوعي الآني Mindfulness