التعمق لغة بحسب معجم المعاني الجامع هو تَعَمَّقَ: (فعل) تعمَّقَ في يتعمَّق، تعمُّقًا، فهو مُتعمِّق، والمفعول مُتعمَّق فيه، تَعَمَّقَ فِي مَوْضُوعِهِ: بَحَثَ فِيهِ بَحْثاً مُسْتَفِيضاً، مُسْتَقْصِياً دَقَائِقَهُ،... تَعَمَّقَ فِي اللُّغَةِ: تَفَصَّحَ فِيهَا، وتَعَمَّقَ في كلامه: تَنَطَّعَ....إلخ وأما الاستخدام الديني فاختص بالتعمق المذموم في العقيدة و/أو الممارسة الدينية والذي يؤدي إلى حالة مرضية تتطور بسرعة غالبا لتعيق حياة الشخص وتحول بينه وبين الممارسة الصحيحة لشعائر دينه.
وفي الديانة الإسلامية يجيئ النهي عن التعمق على لسان سيد الخلق محمد عليه الصلاة والسلام، كما في قوله (إن أقوامًا يتعمقون في الدين يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية) صدق صلى الله عليه وسلم، (رواه مالك في المسند)، وكذلك النهي عن التنطع (ويستخدم كمرادف للتعمق) فعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (هلك المتنطعون) قالها ثلاثًا. رواه مسلم.
وكنت من حوالي ست سنوات كتبت في كتابنا أنا وثلاث من مستشاري مجانين العلاج التكاملي للوسواس القهري (أبو هندي، وشركاه، 2016) فصلا قدمت لظاهرة التعمق بين الموسوسين المسلمين في الأمور الدينية فقادني البحث إلى ما كنت أجهل من وجود ظاهرة مماثلة في الديانات السماوية الثلاث تسمى Scrupulosity يعني ليست مقتصرة على المسلمين كما عرفت أنها متشابهة إلى حد بعيد بين المرضى المتدينين (مع خصوصية كل دين) وأنها أيضًا توجد في غير المؤمنين بإله على اختلاف مسمياتهم وتتعلق بخرق القانون الأخلاقي.... دعونا أنقل المقدمة لفصل التعمق أولا ثم أتابعكم بالجديد في هذا المبحث الذي انتعش في السنوات الأخيرة بشكل عام ومن ممثلين عن كل الأديان بما فيها الإسلام .. لكن الأبحاث جاءت من تركيا وليس بحث بالعربي حتى الآن.
تُبيِّن قراءة النصوص الإسلامية الفقهية التي تتحدث عن الوسوسة (الوسواس القهري) ارتباطًا بالتعمق أو التنطع، بالرغم من وضوح أن هناك تعمقًّا محمودًا هو التعمق فيما يفيد؛ أي فيما لا يخرج عن نصوص الشرع وقواعده، وهو ما يُسمَّى بالورع؛ قال : "دع ما يَرِيبك إلى ما لا يَرِيبك" [رواه الترمذي والنسائي]، فليس كل متعمق موسوسًا، والتعمق المرتبط بالوسوسة هو التعمق المذموم، الذي غالبًا يضرُّ ولا يفيد، وهو مخالف لأحكام الشرع وقواعده، فليس عليه أي دليل، وتجمع هذه السمة صفاتٍ من الكمالية والنزوع إلى الشك في الظاهر المباشر، وكذلك عدم تحمُّل الشك، والإصرار على طلب اليقين 100%، والنزوع إلى الشعور بالذنب والحساسية المفرطة للشعور بالذنب، والتقويم المفرط لأثر الخطأ أو الذنب، والورع المفرط، وربما نوعًا من الغرور بالفكرة؛ وكأنَّ أحدًا لم يفكرها من قبل! والغرور كذلك بالفعل المثالي (الدقة- والتمام)... إلخ، ويمكننا أن نراه يبني حياته على تحاشي كل ما من شأنه استثارة محتوى ديني/كفري أو جنسي أو عدواني، وأمَّا فقهيًّا؛ فالمتنطعون هم: المتعمقون المغالون المتجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم، أو هم المتعمقون المشددون في غير موضع التشديد، وهؤلاء بشكل أو بآخر هم الموسوسون في أمور دينهم، أو المتعنتون في السؤال عن عويص المسائل التي يندر وقوعها، وأيضًا هم المغالون في عبادتهم بحيث يخرجون عن قوانين الشريعة، ويسترسلون مع الشيطان في الوسوسة.
ولم يقدني البحث –في حدود ما وصلت إليه- إلى فرق واضح في الاستخدام اللغوي الفقهي بين كلمتَيْ "التنطع" و"التعمق" فيما يتعلَّق بالوسوسة، إلا أن عملي مع الموسوسين أمدني بما يمكن به التفريق بين المتعمق المتنطع والمتعمق اللامتنطع؛ فأما الأول فهو معجب بأفكاره الوسواسية، مغرور بأنه يفكر هكذا (والتنطُّع مرتبط لغويًّا بالغرور)، لكنه أيضًا يبقى فريسة لاجترارات ومحاولات ضرورة الإجابة على سؤال ما مثلاً لا تمكن الإجابة عليه، أو طلب التأكد 100% مما لا يمكن فيه ذلك، ويظل فريسة كذلك لما قد يعلق به من أفكار تسلطية أخرى وأفعال قهرية.. إلخ، ناهيك عن الخلافات الأسرية، فهو رغم إعجابه بالفكرة يعاني من عواقبها، وقد نرى ذلك على مستوى سمة في الشخصية أو كعرض من أعراض اضطراب الوسواس، والمعاناة بالطبع هي ما يجعله يطلب العلاج أو المساعدة، هذا هو المتعمق المتنطع، والأصعب علاجًا في خبرتي العملية، وأما الثاني المتعمق اللامتنطع فمسكين؛ لأنه يحسب التعمق –سواء في التفكير أو السلوك- مطلوبًا منه؛ وإلا فهو مقصر أو مخطئ أو متهاون... إلخ.
والتعمق أو التنطع خاصية معرفية من أهم السمات المرتبطة بمرضى الوسواس القهري الديني، ولها صفاتها الفريدة كما تشترك في بعض الصفات مع خصائص معرفية أخرى لمرضى الوسواس القهري، وأما صفاتها فهي :
1- الكمالية الدينية: الخوف من عدم الوصول إلى الإحسان 100٪ في الأداء الديني وربط ذلك بالذنب والتقصير.
2- طلب التيقن 100% : لا تحمل الشك (عدم التيقن 100%) (ل.ت.ش).
3- عدم الشعور باكتمال الفعل، أو الشعور بعدم اكتمال الفعل !
4- «فرط أهمية الفكرة» أي خطورتها على إيمانه، وأحيانا على العكس تجد شيئا من التباهي المفرط بالفكرة أو طرح هذا السؤال الفقهي أو الغيبي !.... «التنطع»
5- الميل إلى اعتبار أو توقع :
المفاهيم والواجبات الدينية السهلة كمهام شاقة صعبة.
"الله" كقاض قاس كامل العلم لا يغفر هفوة... ليس خالقا رحيما
الواضح الاكتمال كغير مكتمل.
الظاهر الطهارة كغير كامل الطهارة أو نجس.
6- فرط الحساسية للذنوب:
نزوع للشعور بالذنب وفرط الخوف من الوقوع فيه.
تهويل (مبالغ فيه) للأثر الديني للذنوب.
التقليل من أثر التوبة أو صلاحيتها.
الإفراط في محاولة تنقية الإيمان والأموال.
رفض الأخذ بالرخص الدينية!.
ومما يزيد من أثر التفكير التعمقي على المريض تفاعل التعمق مع طريقة التفكير السحرية التي تميز بعض الموسوسين ويظهر ذلك التفكير التعمقي بصورة اندماج الفكرة/الفعل الأخلاقي (أ.ف.ف الأخلاقي) ولعل هذا أكثر في المسيحيين لكنه موجود في غيرهم أحيانا، ولكن سمة التفكير السحري الأكثر تفاعلا مع التعمق حسب خبرتي مع المرضى المسلمين هي في الانتشار الخيالي أو الخرافي للنجاسة كما ترد الأمثلة في أكثر من موضع في الاستشارات.
ومن المهم الانتباه إلى أن التعمق أو التنطع هي سمات تفكير ليست قاصرة على الموسوسين؛ سواء باضطراب الوسواس القهري أو اضطراب الشخصية القسرية (حيث يمثل التعمق (المرضي للذات غالبا) واحدة من نقاط الالتقاء بين الاضطرابين)، وإنما نجدها في أناس طبيعيين بدرجات متفاوتة، وهي تجمع كما بينت من قبل صفاتٍ من الكمالية والنزوع إلى الشك في الظاهر المباشر، وعدم تحمل الشك، والإصرار على طلب اليقين 100%، وكلها سمات تتوزع بين الناس، وكذلك النزوع إلى الشعور بالذنب وفرط الحساسية للذنوب، مع التقويم المفرط لأثر الخطأ أو الذنب، والورع المفرط، وهي أيضًا سمات تتوزع بين الناس، ونوعًا من الغرور بالفكرة وكأنَّ أحدًا لم يفكرها من قبل، والغرور كذلك بالفعل المثالي (الدقة- والتمام)... إلخ وكلها سمات تتوزع بين الناس أيضًا، لكنها -أو بعضًا منها- تصبح مشكلة حين تصاحب الوسوسة، أو -حسب خبرتي- حين تستدعي الوسوسة أو تجعل الشخص عرضة لها.
وكنت في بداية بحثي أحسب سمة أو صفة التعمق والتنطع خاصة بالمسلمين؛ ولذلك لم أتوقع أن أجدها في الأدبيات الغربية عن الوسوسة؛ لأني ظننتها –خطأ- ترتبط بالأحكام والطقوس التعبدية الإسلامية، إلى أن وجدت أن كلمة (Scrupulosity) -والتي تشيع ترجمتها بـ"وسواس التدقيق" أو "فرط التدقيق"- تُستخدم في الأدبيات الكنسية للتعبير عن الوسوسة فيمن لديهم نمط من القناعات والسلوكيات المرتبطة بالقلق المفرط؛ من ارتكاب الذنب أو الخطيئة أو الانخراط في الأعمال المنافية للآداب، وهو ما يعني الوساوس والقهور ذات المحتوى الديني أو الأخلاقي؛ ولذلك اعتاد رجال الدين المسيحي على سماع الشكوى من هؤلاء، ووصفوهم بالمدققين أو المتعمقين أو المتورعين؛ أي أن ما حدث لدى المسيحيين مشابه لما حدث لدى المسلمين تاريخيًّا، وفي هذا اللون من الوسواس القهري قد يتركز اهتمام الموسوس على الأفكار أو الأسئلة الدينية التي تشغله، فيما يخص معناها أو الرد عليها، أو يتركز على الإجراءات أو الاحتياطات المتخذة بالفعل لمنع إمكانية ارتكاب الذنوب في المستقبل، أو لضمان عدم التقصير بأي شكل من الأشكال، وطبيعي أن ينتج عن ذلك فرط الضيق والخوف والشعور بالذنب واليأس... إلخ.
وبدأتُ البحث من هذه النقطة بشكل متواضع، ولكن -وباختصار- لم أستطع التوصُّل إلى التاريخ الخاص بتعامل الكنيسة الأرثوذوكسية مع المتعمقين، وإنما وجدت النص التالي على موقع طبيب نفساني. كوم من بحث عنوانه: "الوسواس القهري الديني... وجهة نظر مسيحية"، وهو في معظمه مستمد من كتاب "مرض الشك.. مساعدة في علاج التعمق والقهور الدينية"، لـ"جوزيف شاروكي" (Ciarrocchi, 1995)، ومنه يجيء التعريف التالي للتعمق الديني: "التعمق يشير إلى رؤية الخطيئة في عدم وجودها في الحقيقة"، والبعض يسمي التعمق "رهاب الخطيئة"؛ لأن المريض يحكم على تصرفاته بأنها غير أخلاقية في حين أن عقيدة مجتمعه تراها طبيعية ولا لوم عليه، وطبقًا لترجمة موقع طبيب نفساني فإن القاموس يعرف كلمة (Scruples) أو الشك بـ"اعتراض أخلاقي بحيث يمنع الفعل"، والكلمة نفسها مأخوذة من الكلمة اللاتينية (Scrupulum)؛ وهى تحمل معنيين:
الأول: هو الحصوة الصغيرة الحادة؛ وهذا المعنى يصور وكأن هذا الشخص يسير بحصوة في حذائه، ويمكن أن نتصور هذا الشخص كيف يمشي مع مضايقات هذه الحصوة، وهكذا يعيش المريض مع مضايقات المرض، والمعنى الثاني هو وزن صغير كوحدة قياس تساوي 1. 3 جرام، أو وزن عشرين حبة من القمح، وبالتالي فإن هذا الشخص دقيق جدًا وحيُّ الضمير جدًا... وكمثال على تعمق زوجة مسيحية متدينة:
عائلة سميث تبعًا لتقاليدهم يؤدون صلاة الشكر على مائدة العشاء قبل الأكل، سوزي (4 سنوات) وبيلي (6 سنوات) دائمًا يكونان متسرعين وجائعين، زوجة سميث دائمًا قلقة بأن سوزي وبيلي وربما هي أيضًا لم يؤدوا الصلاة كما يجب بسبب كثرة السهو، فسوزي تحك مكان قرصة الناموسة، وبيلي ينظر إلى بودينج الشيكولاتة، وزوجة سميث تفكر في موعد المجلس المدرسي لها بعد العشاء، وبالتالي فهي تشك بأن صلواتهم لم تكن كما يجب وتطلب من العائلة أن يعيدوا الصلاة مرة أخرى، وأحيانًا تطلب من جميع الأسرة أن يعيدوا الصلاة، وأحيانًا تطلب ذلك من أطفالها فقط، أحيانًا يعيدونها 4 مرات بالرغم من تدخل الزوج بعد المرة الثانية! زوجة سميث طلبت النصيحة من القس الذي أكد عليها ألا تعيد الصلوات سواء لنفسها أو لأطفالها، عندما حاولت أن تتبع نصيحة القس فسد طعامها بالكامل؛ لأنها أدخلت في دماغها فكرة: هل هي مقبولة عند الله أم لا؟ واستمرت قلقة بشأن هذه الفكرة طوال اليوم حتى أثناء موعدها في المجلس المدرسي" (محمد شريف سالم، 2014).
المراجع :
1- وائل أبو هندي، رفيف الصباغ، محمد شريف سالم ويوسف مسلم (2016) نحو فهم متكامل للوسواس القهري، البابُ الثاني: العلاج السلوكي للوسواس القهري، سلسلة روافد 138 تصدر عن إدارة الثقافة الإسلامية، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، دولة الكويت
2- Ciarrocchi, J.W.(1995): The Doubting Disease. Mahwah, NJ: Paulist Press, 1995.
3- محمد شريف سالم (2014): الوسواس القهري الديني وجهة نظر مسيحية، موقع طبيب نفساني.كوم www.tabibnafsany.com
ويتبع>>>>> : الوسواس القهري والتعمق Scrupulosity (2-3)
واقرأ أيضًا:
الخرافة والوسواس القهري ما العلاقة ؟2 / الشعور بالذنب في مرضى الوسواس القهري2