العنف مصطلح وسلوك لا يخفى على أحد وعواقبه وخيمة نفسانيا، واجتماعياً، وقانونياً. يشير المصطلح في الأدبيات القانونية والطبنفسانية إلى فعل عدواني شديد يلحق الأذى بالآخرين في حين علماء الأخلاق الذي يدرسون السلوكيات يعرفونه بتكيف سلوكي في الأزمات.
العنف بحد ذاته ليس باضطراب نفساني، ولكنه كثير الملاحظة في العديد من الاضطرابات النفسانية مثل الذهانية، الوجدانية واضطرابات الشخصية، وهو أيضاً كثير الارتباط بالإدمان على الكحول والمخدرات. ولكن ما يجب التأكيد عليه هو أن الاضطراب النفساني بحد ذاته ليس مؤشراً للعنف وإنما تاريخ سابق للعنف. يبقى التاريخ السابق للعنف المؤشر القوي لتكرار العنف في جميع الحالات وليس في الاضطرابات النفسانية فقط.
يتم تصنيف العنف1 في الممارسة السريرية أحياناً إلى عنف تفاعلي Reactive وعنف استباقي Proactive مع التركيز على العامل التحفيزية للسلوكيات العنيفة ونتائجها، ولكن هذا التمييز نادراً ما يكون واضحاً وهناك تداخل كبير بين العنف التفاعلي والاستباقي. العنف التفاعلي عموماً يصاحبه حالة وجدانية مكثفة وشديدة تتميز بقوة الاندفاع والمشاعر العدوانية. يحدث الفعل العدواني خلال فترة زمنية قصيرة مع تعبئة الجهاز العصبي الودي اللاإرادي Sympathetic Nervous System ويتبع ذلك تنشيط محور الإجهاد في الجسم المعروف تحت المهاد-الغدة النخامية- الغدة الكظرية HPA Hypothalamic-Pituitary-Adrenal Axis.
عدم انتظام المشاعر السلبية تهيء الأفراد عموماً للعنف التفاعلي ويرتبط ذلك بنشاط عصبي مفرط في المناطق التحت قشرية Subcortical والحوفية Limbic مع عجز في المناطق الظهرية لقشرة الفص الجبهي الأمامي Prefrontal Cortex وهي المنطقة التي يتم فيها جمع الوظائف التنفيذية والتجربة الواعية للعواطف تحت إشراف فوري مباشر من منطقة اللوزة Amygdala. الفعالية الأساسية في اتصال اللوزة بالفص الجبهي الأمامي تتميز بكثرة فعاليتها في الجناة من البشر مقارنة بغيرهم. ولكن على النقيض من ذلك نلاحظ بأن العدوان المتعمد المخطط له يتميز أيضاً بارتفاع فعالية اللوزة، ولكن الاتصال بين اللوزة والفص الجبهي الأمامي تبقى فعاليته طبيعية. كذلك هذا النوع من العنف الذي يتم التخطيط له ليؤدي إلى ارتفاع أقل لهورمونات كورتيكوستيرويد Corticosteroids في الدم.
التحليلات الأخلاقية
يتم تصنيف العدوان المفرط1 الغير قادر على التكيف في الكائنات الحية إلى ما يلي:
١- عدوان مع عتبة استفزازية منخفضة (وقت قصير للانتقال إلى الهجوم).
٢- هجوم عدواني متسلسل ذو كثافة عالية.
٣- نوبات هجوم متواترة وطويلة مع فشل في التوقف.
٤- هجمات موجهة نحو هدف غير مناسب مثل أطفال وأحداث.
٥- تجاهل العواقب الطويلة المدى للعدوى.
٦- تجاهل إشارات استرضاء من الخصم وخضوعه.
التصنيف الآخر المعمول به هو:
١- مجموعة عدوان ناهض Agonistic. العدوان الناهض قد يكون هجومياً أو دفاعيا.
٢- مجموعة عدوان مفترس Predatory.
في التجارب المختبرية في الحيوان يحدث العدوان الناهض من خلال وجود وصيانة التسلسل الهرمي للهيمنة على الآخرين ويتم توجيه العنف صوب أعضاء نفس المجموعة. أما العدوان المفترس فيتم توجيهه ضد مجموعات أخرى وقد يكون مصدره تحديات عدة مثل الجوع.
تشير التجارب المختبرية إلى نشاط نوى المهاد الأنسية والجانبية مع الهجوم المفترس، ويرتفع نشاط المناطق العصبية في تحت المهاد أثناء المعارك من البداية إلى النهاية. يتم أحياناً حصر هذه الفعالية العصبية المصاحبة للعنف في مصطلح دائرة البقاء Survival Circuit.
الجهاز الحوفي والسلوك العدواني
يتم تنفيذ الهجوم وتوقفه عن طريق مسارات عصبية قشرية Cortical إلى الجهاز الحوفي2 وتحتوي هذه المسارات على العديد من مستقبلات آحاد الأمين، حوامض أمينية، وبببتيدات.
تستلم اللوزة الجانبية الإشارات من الفص الجبهي الأمامي لتنظيم مختلف العواطف ومنها العدوانية. هذه المنطقة بدورها تثبط نشاط اللوزة المركزية والأنسية. يتم بعد ذلك إرسال الإشارات صوب منطقة تحت المهاد الجانبية والبطنية. منطقة تحت المهاد البطنية تلعب دورها في الاستجابات التفاعلية للشعور بالتهديد وهي غنية بمستقبلات كورتيكوستيرويد، في حين تلعب النوى الجانبية دورها في الهجوم المفترس ويتم تعديلها بهرمون كورتيكوتروفين Corticotrophin.
أما آلية السلوك العدواني الذي يتم التخطيط له فيتميز باستلام نوى تحت المهاد إشارات عدوانية من منطقة الحاجز Septum والأجسام الثديية Mammillary Bodies ويصاحب ذلك اتصالات متبادلة مع جذع الدماغ وبعدها يتم تنفيذ العدوان.
السيطرة القشرية Cortical Control
تلعب القشرة الأمامية المدارية دورها في دراسة التفاصيل المختلفة مثل السياقية والتاريخية والحسية لصياغة القرار المتعلق بتنسيق السلوكيات الهجومية والدفاعية3. حين تكون القشرة الأمامية المدارية سليمة فالإنسان له القدرة على السيطرة علي اندفاعه والتحكم بنزواته العدوانية التي تولد في النوى الحوفية. ترتبط حالات الغضب بوجود علاقة عكسية بين نشاط القشرة الأمامية المدارية ونشاط اللوزة ولذلك فان آفات القشرة الأمامية المدارية تؤدي إلى اعتلال اجتماعي مكتسب Acquired Sociopathy. يمكن القول بأن الجهاز الحوفي هو مصدر الشعور والسلوك العدواني، ولكنه تحت سيطرة القشرة الجبهية الأمامية.
السيروتونين والعنف
آثار الناقل العصبي الكيمائي سيروتونين Serotonin اهتمام الباحثين منذ فترة طويلة في دراسة العنف والسلوك العدواني وتم استحداث فرضية نقص سيروتونين4 من جراء عوامل بيئية ووراثية لتفسير السلوكيات العدوانية. سيروتونين لديه أكثر من أربعة عشر مستقبلا في الدماغ والخلايا العصبية الناقلة له تلعب دورها في تعديل السلوك العدواني عن طريق القشرة المخية والجهاز الحوفي، ولكن لم يتم العثور إلى الآن على جينات خاصة بالسيروتونين تتعلق بالسلوك العدواني.
التغيرات في التوفر البيولوجي لسيروتونين في الدماغ تؤدي إلى ارتباك الاتصال ما بين قشرة الفص الجبهي واللوزة وهذا بدوره يؤدي إلى تصعيد السلوك العدواني. ذلك يفسر وجود اضطراب في هذه الاتصالات في الذين يحملون سمات عدوانية والمصابين بالخرف. كذلك يفسر ذلك استجابة البعض لعقاقير مثبطات استرداد سيروتونين الانتقائية SSRI وعقار بوسبيرون Buspirone الناهض لمستقبلات سيروتونين 1B. هناك احتمال وجود تغيرات في الترميز الجيني لاوكسيديز أحادي الأمين الذي يفكك سيروتونين في الذين يميلون إلى سلوكيات عدوانية، وقد يلعب الأليل القصير لجين ناقل سيروتونين 5HTTT دوره في الحد من السلوك العدواني، ولكن الاحتمال الكبير هو أن أسباب الميول العدوانية في الإنسان بيـئية ووراثية.
الدوبامين والعنف
يتم استعمال جميع مضادات الذهان التي تعمل من خلال تثبيط تأثير دوبامين في الدماغ، للسيطرة على السلوك العدواني في المصحات الطبنفسانية. فعالية هذه العقاقير لا نقاش فيها للسيطرة على السلوك العدواني المصاحب لنوبة ذهانية، لكن هذه العقاقير في نفس الوقت لها فعاليات عدة في الدماغ. ومن الصعب تحديد الية السيطرة على السلوك العدواني5.
إحدى وظائف نظام دوبامين هو تغير احتمال نتائج المكافأة والإشارة إلى احتمال حدوث أخطاء في التنبؤات والاحتمالات. يزداد نشاط دوبامين في منطقة المخطط Striatum والفص الجبهي مع فعل هجومي أو دفاعي من البداية إلى النهاية.
نورادرينالين والعنف
يلعب نورادرينالين5 دوره في الإثارة العامة والإثارة العدوانية على حد سواء. تم ملاحظة زيادة تنشيط الخلايا العصبية الحاملة لنورادرينالين مع مشاهدة أعمال عدوانية ويبدو كذلك أن الدوائر الدماغية للعنف غير تلك الدوائر المرتبطة بالسلوكيات الجنسية. ما هو ملاحظ في الممارسة السريرية بأن حاصرات بيتا Beta Blockers مثل بروبرانولول Propranolol ومتروبولول Metoprolol تعمل كعوامل مهدئة في السيطرة على النوبات العدوانية.
مصادر:
1- Liu J, Lewis G, Evans L. Understanding aggressive behaviour across the life span. J Psychiatr Ment Health Nurs.2013, 20(2):156-168.
2- Haller J. The role of central and medial amygdala in normal and abnormal aggression: Review of classical approaches. Neuroscience & Behavioural Reviews ;2018, 85: 34-43.
3- Boccardi M, Frisoni G, Hare R, Cavedo E etal. Cortex and amygdala morphology in Psychopathy. Psychiatry Research: Neuroimaging 2011; 193(2):85-92.
4- Olivier B. Serotonin and aggression. Ann.N.Y. Acad.Sci 2004; 1036:382-392.
5- Seo D, Patrick C. The role of serotonin and dopamine system interactions in the neurobiology of impulsive aggression and its comorbidity with other clinical disorders. Agress violent Behav. 2008; 13(5): 383-395.
للاطلاع:
1- Lynall ME, Jones P, Stahl S. Cambridge textbook of neuroscience for psychiatrists 2023. Cambridge University Press.
واقرأ أيضًا:
الناصية قشرة المخ قبل الجبهية Prefrontal Cortex ق.ج(1-4) / الدماغ وجينات الاضطرابات النفسانية