صراع مع العفاريت
لا داعي للاستعجال، السلام عليكم، أولا وقبل البدء في طرح مشكلتي، أود التنويه إلى أن الطرح سيكون مختصرا ومتجاوزا الكثير من التفاصيل، إذا رأيتم أن المعلومات التي أشاركها غير كافية أو متحيزة أتمنى توضيح ذلك في الرد لارسال استشارة ثانية.
المهم، أنا أعاني من مشاكل نفسية أحسب أن أهمها اضطراب الوسواس القهري. وسبق أن خضعت لعلاج دوائي استقر حول استعمال مضاد للاكتئاب من نوع SSRI + مضاد للذهان لانوعي، من قبل طبيب نفسي لمدة أربع سنوات تقريبا. أما الجرعات فقد كانت ضغيرة على العموم. كان هناك تحسن متوسط مكنني من الحفاظ على الأداء الدراسي خلال المرحلة الجامعية غير ذلك فليست لدي فكرة واضحة عن مدى فاعلية العلاج.
الآن وبعد مرور عشرة شهور على التوقف التام عن أخذ الأدوية، لازلت في حاجة إلى المساعدة في التعامل مع الكثير من الصعوبات النفسية، ولكنني لا أقبل أي شكل من أشكال المساعدة التي تعتمد على الأدوية. خصوصا أن تجربتي السابقة بينت مدى قابلية الاعتماد على الأدوية مما يجعل مسألة التوقف مشكلة بحد ذاتها.
من الأعراض التي تستهلك طاقتي خلال الأشهر الأخيرة:
- صعوبات في العمل: التشتت والبط في أداء المهام، التفكير الزائد والتحقق والتكرار والصعوبة في الحسم وتشتت الانتباه وغير ذلك... مما يجعل المهام التي يمكن أدائها في 8 ساعات يتطلب 10 ساعات أو أكثر. هناك عامل آخر هو عدم الرضا عن طبيعة الوظيفة وظروف الاشتغال، وفي نفس الوقت لا أشعر بالاستعداد للبحث عن وظيفة أخرى
- انخفاض الوزن + اضطرابات الشهية والجهاز الهضم
- اضطرابات النوم: صعوبة في النوم وصعوبة في الاستيقاظ مما يؤدي الى تغيرات دائمة في مواعيد النوم.
- افكار انتحارية متكررة والعياذ بالله، لكنها لا تصل إلى التخطيط أو محاولة التنفيذ.
الجانب الأسري والاجتماعي:
لدي حضور اجتماعي ضئيل ذو طبيعة مهنية محضة ولا تحركه إلا الواجبات والحاجيات الأساسية. ربما أكون قد وصلت الى مرحلة متطرفة من العزلة، وأخشى أن أكون قد عزمت على البقاء أعزبا فيما تبقى من حياتي. أعتقد أن سلوكي الاجتماعي المتدهور، قد يكون المدخل الرئيسي الى فهم اضطراباتي ومن تم إيجاد حلول لها. لكن ليست لدي رؤية واضحة عن مسألة تطوير المهارات الاجتماعية.
بالنسبة للمحيط الأسري فهو لا يخلو من الاضطرابات النفسية وليس لديه الحد الأدنى من المعرفة بأمور الصحة النفسية، في المقابل فهو لديه ما يكفي من الجرأة للتحذير من مخاطر الأدوية. هذا الأمر دفعني للتوقف عن طلب الدعم من أسرتي في الأشهر الأخيرة...
باختصار، أريد من فضلكم تقييم هذه الوضعية بشكل عام وتقديم التوجيهات اللازمة مع مناقشة بعض الأسئلة:
كيف يمكنني التعامل مع هذه الصعوبات المتشابكة التي يرافقها عسر في الالتزام بأبسط المقترحات (كالرياضة وتنظيم مواعيد الأكل والنوم ...) التي من شأنها تحسين الحالة النفسية؟
ما مدى فعالية الاستراتيجيات الكلامية لعلاج الاضطرابات النفسية إذا لم تستعمل الأدوية؟
سؤال آخر أنا لدي فضول علمي كبير وأحب الاطلاع على مختلف المجلات العلمية، هل هناك ضوابط تخص التعرف بشكل معمق على تفاصيل الاضطرابات النفسية؟
في انتظار الإجابة، تقبلوا تحياتي.
أحسن الله اليكم وجزاكم الله خيرا.
18/6/2020
رد المستشار
أهلا بك يا "بدر" على موقع مجانين للصحة النفسية.
رسالتك تؤكد ما يقال عن أغلبية مرضى الوسواس القهريّ، أشخاص أذكياء وذوي مهارات معرفية جيدة. رسالتك منظّمة وسلسة بشكل رائع، ملاحظاتك دقيقة ورصينة، وأسئلتك تنحدر بطريقة متناسقة، أحييك على هذا.
السلوك الاجتماعي قد يكون مدخلا لتفسير وضعك نعم، وقد يكون عرضا للتفسير المبدئي، لما يكون عندك أفكار وسواسية وبطء في الأداء قد تكون العلاقات الاجتماعية متعبة. اقتصارك على الضروري والواجبات وكونُ دوافعك "مهنية" بحتة، تُخبر عن غياب فاعلية عاطفية وتقلّب وجداني، يعني أنّك وجدانك مستقر وبارد وصعب استثارته على ما يبدو. قد تكون هذه علامة على اكتئاب مصاحب للوسواس القهري.
سأحاول الاختصار بإجابتي على أسئلتك:
- تطوير الجانب الاجتماعي، لن يكون إلا بعد رفع المعاناة في الوظائف والمهام اليومية الاعتيادية، فلا يمكن أن تكون مشغولا مع الأساسيات وتسعى في الوقت ذاته لبذل طاقتك في تغيير أنماط السلوك والتفكير القديمين.
- تنظيم مواعيد النوم والأكل لا يُمكن أن يتحقق إن كان هناك أصلا اضطراب نوم أو شهيّة، هناك طُرق ونصائح يمكن اتباعها لتعديل مواعيد الاستيقاظ والنوم، لكن لن تصنع معجزة إن كان الاضطراب على مستوى الهرمونات أو الجهاز العصبي. فالاستعداد للنوم والدخول فيه قدرة عصبية نعينها بتجنب الوجبات الدسمة مثلا، والمنبهات والقيلولة قبل ساعات من النوم، والتعب وسط النهار، لكن هذا كلّه "يُعين" نظام نوم طبيعي وموجود ولا يخلقه.
لذا هنا قد يتدخّل الدواء لخلق هذا التوازن مع حرصك على النصائح الأخرى، ومعلوم أنّ الدواء يعمل في حالات "الأفكار والأفعال العقلية القهرية" أكثر من الطقوس القهرية. فالدواء يعمل على العمليات المعرفية ليُجنّبك الاجترار الوسواسي Rumination والبطء الوسواسي وتكون أكثر قدرة على التحكم في اندفاعاتك للتكرار والتحقّق. لتبقى لك طاقة وقدرة على مسايرة النشاطات وتنظيم وقتك وعدم تضييعه في الوساوس وتوابعها السلوكية من تحقق وتكرار أو شرود.
- بالنسبة للاستراتيجيات العلاجية مثل العلاج المعرفي السلوكي، فهي أثبتت نجاعتَها، وتكون الاستجابة أكبر على مستوى الطقوس القهرية (أو القُهور) compulsions لكن سؤالك هذا مبنيّ على وضع التدخل الدوائي والتدخل العلاجي كثنائية متعارضة (كما عند الكثيرين) والحقيقة أنّ الدواء والعلاج النفسي يقترنان ويترافقان لإعطاء نتيجة أحسن ومسار علاجي pronostic أفضل، وحتى نسبة التعافي في الوسواس القهري ترتفع من قرابة 70% من الحالات إلى 90% منها إذا ما اقترن الدواء بالجلسات. وللعلاج النفسي دور آخر أيضا، هو تجنيب الانتكاسة بعد انتهاء مدة العلاج الدوائي.
عموما النظرة التوجّسية لأدوية الطب النفسي، تتجسّد بشكل أو آخر في العقل الجمعي، فليست كل الأدوية تؤدي للإدمان، أو الاعتمادية، قد تأكل مضاد اكتئاب مناسب لك دون أن تشعر باعتمادية. أما الفطام الضروري sevrage ليس له علاقة بالإدمان، بل باستئناس الجهاز العصبي بجرعات لمدة أشهر، وسحبه فجأة سيؤدّي إلى تغيرات مفاجئة يتجنّبها الطبيب بإطالة مدّة نزع الدواء والتقليل من الجرعة، حتى يعود الجهاز العصبي لعمله الطبيعي.
الخلاصة، أنصحك بالجلسات العلاجية من العلاج الذي تفضله أو يقترحه عليك المعالج، ومن الأفضل أن يكون العلاج السلوكي المعرفي Cognitive behavioral therapy وربما تعود لمضادات الاكتئاب المتخصصة في الوسواس القهري م.ا.س.ا (SSRI) لتكون أقدر على التحكم في عمليات الذهنية وبالتالي أقدر على الالتزام والحافزية.
بعد هذا المسار العلاجي قد تناقش مع معالجك المظاهر الاجتماعية لاضطرابك، أو ما تبقّى منها، وقد يكون التغيير والتفاعل الاجتماعي أسهل بعد علاج يعطي أكلَه.
ونأتي لسؤالك عن التحصيل المعرفي، الاضطرابات النفسية أراها غير مناسبة للبدء في التعرف على هذا العالم. فالمجال المرضيّ هو خلل في "النظام السويّ"، تعلّق الأمر بالأمراض العضوية أو النفسية، لذا من الأفضل البدء بمعرفة المبادئ العامة لعمل الجهاز العصبي، وعلم النفس الفيسيولوجي، ووظائف الدماغ، ثم الانتقال لدراسة تاريخ علم النفس بشكل مبسّط، ومدارسه وتيّاراته، بعدها يمكن أن تطّلع على علم النفس المرضي أو التصنيفات الطبنفسية التي تثير اهتمامك، بقراءة كتب تتحدث عن الاضطرابات النفسية بشكل عام أو عن اضطراب خاص.
تحياتي وتمنياتي لك بالشفاء العاجل.