هل ستبقى أصوات المخاوف تحاصرني!
"ثم أدخل البائع تلك الفتاة الصغيرة وجلب عدة النجار من مطرقة ومفك وراح يغرز المفك في جسد الفتاة ويضرب عظامها بالمطرقة حتى نفر الدم من جسدها وماتت ورمى بجثتها في القمامة". تلك هي قصة سردتها لي أمي وأنا في السابعة من العمر فقط لأنني سألتها النزول لشراء الحلوى، كانت تلك قصة من القصص الكثيرة التي لطالما تلقاها سمعي من والدتي، وكان ذلك أسلوبها في الحماية والتربية، فمن القصص التي سمعتها في عمر المراهقة مثلاً أن شابة دعت صديقتها لزيارتها فقام أخوها باغتصابها وقاموا بتصويرها.
وأخبرتها بفرح مرةً عن ثناء المعلمة على تجويدي منتظرةً منها تقييمي فأجابت "أتتكبرين؟! إن الله لا يحب كل مختال فخور" وذهبت لتتركني أتجرع عتاب نفسي ولومها على الثقة بنفسي.
أدركت بعدما كبرت (أنا في السادسة والعشرين الآن) أن أمي كانت شخصية قلقة، ومن حرصها الشديد وقلقها قامت بتربيتنا تربية قلقة.. أنا أعذرها وأسامحها، ولكن!.
في السابعة عشر لم تكن تخويفات أمي لتحميني من التعرض للتحرش من أخي الكبير وأنا نائمة، إذ استيقظت على أثر يد تمتد لعضوي الأنثوي لأصحو مرتعدة وأرى أحدهم قد هرب من الغرفة، هممت بالخروج وأنا أرتجف فوجدت بنطالي قد خلع، رفعته وخرجت من الغرفة مذهولةً فوجدت الجميع نائمين إلا أخي الكبير الذي كان خاطباً حينها قد تمدد على سريره يغطي نفسه بالكامل ويلهث من تحت الغطاء فعلمت أنه هو، وعدت لغرفتي مضطربة.
لم أجد في صدر أمي الهلوعة أماناً لأسرد لها ماحصل فكانت في صدري... وفي اليوم التالي كان أخي مضطرباً تجاهي ويجتهد لإرضائي بتقديم الطعام أو سؤالي عن دراستي، وتقاعس عن الذهاب لعمله لأيام وهو يحيط بي دون أن يترك فرصة تجمعنا أنا وأمي في غرفة وحدنا، وعمدت حينها الانعزال عن الجميع في غرفة مجتهدةً في الغضب على كل من يحاول الدخول للغرفة حتى وإن كانت أمي التي لم تتبنه رغم قلقها لسبب اضطرابي!!! ولا أدري كيف فاتها هذا الأمر _سامحها الله_.
تزوج أخي بعد شهرين ليكتب الله _سبحانه_ بلاءً جديداً إذ توفت والدتي _رحمها الله_ واضطررت للسكن مع والدي لوحدنا.
والدي شخصية تجنبية منعزلة ولا تأثير له على تربيتنا بالطفولة ولا دور له في حياتي (الدور المادي)، ورغم وساوسي أحياناً من أن يتحرش هو بي أيضاً واجتهادي على ارتداء أسخن الثياب في أشد أيام الحرارة، لكنني مع توجهي بعد وفاة والدتي للمعالجة النفسية وسردي لها لأول مرة عما فعله أخي تخلصت من أثر التحرش بعض الشيء.
نشبت في تلك السنة الحرب في سوريا عام ٢٠١٣ في منطقتي لأتجرع مخاوفاً جديدةً خاصة أنّ من تنبيهات أمي _رحمها الله_ في الطفولة أنها كانت حينما تحضر الأخبار عن فلسطين كنت أجلس ببراءة وترقب (شخصيتي حساسة وقلقة من الطفولة أو أنني كنت أتلقف لشدة حساسيتي كل تعبيرات أمي) فسألتها بذعر مرةً: "ماما كيف لا ينقذهم أحد من هذه الحرب؟" لتجيبني: "لا يوجد من ينقذهم، ولا أحد يسمعهم، وليس لهم ملجأ يحميهم... أرأيت أنك في نعمة وأمان ولا تدرسين؟ هؤلاء تحت القصف وتصبح أجسادهم أشلاء ويخسرون أمهاتهم ويتمنون النعمة التي أنت فيها، وأنت لا تقدرين" لا أستطيع حتى اليوم إلا أن أسمع تلك الكلمات في أذني وغيرها من تأنيب أمي على ما لم أفعله، لكنه كان أسلوبها في التربية وقد أعذرها، وربما ذنبي أنني كنت أتأثر بكلامها جداً لدرجة أنني كنت أجتهد في متابعة الأخبار قبل الدراسة وكأنني أردع نفسي كما طلبت هي.
لكن ما حصل أنني في أول سماع لأصوات التفجيرات والطائرات في بلادي لم أتحمل واضطربت أكثر من كل أبناء جيلي، بل كنت أرى أطفالاً يستمرون باللعب رغم مرور الطائرات وانفجار القذائف بينما أكون أنا في هلع وهستيريا وأتخيل في كل دقيقة سقوط الجدران فوقي (ألاحظ أنّ مشكلتي حتى مع تربية وقصص أمي هي التخيل، فأنا امتلك خيالاً خصباً جميلاً وأعمل الآن في تأليف القصص، لكنّ التربية الرادعة والحساسية لم تُسكِن في خيالي إلا المخاوف المرعبة)... ربما أميل للتشاؤم وساعدني على ذلك تنبيه أمي للشر في الحياة من باب ردعها لي.
إلى الآن ما إن يتحدث أحد عن أحداث الحرب كمخطوف أو أسير يرحل عقلي لوحده ليعيش جو الحادثة وكأنني خطفت معهم... لم أعد أتحمل كمية الشر والجرائم والمخاوف في الحياة كأنني نفس الصغيرة التي قصت عليها أمي تلك الحكاية في بداية المشكلة، كأنني لم أكبر.
أنا الآن شابة في السادسة والعشرين فاقدة لكل معاني الأمان والأمن، ليس لي شغف في أي شيء وكل ما أتمناه أن أجد صدراً حنوناً أو أن أموت تحت رعاية الله ورحمته، وأعاني من الـ "ocd" إثر التربية كما شخصت المعالجة، مع بعض الميل للاكتئاب... وتلقيت علاجاً دوائياً "سيروكسات" لكنني أوقفته لنصيحة طبيب هضمي لأن الدواء سبب لي بعض الاضطرابات في المناعة، وتلقيت جلسات كعلاج معرفي لم أكملها لسبب مادي (فأنا لا أعمل حالياً)... أشعر بالعجز التام والشلل النفسي عن إكمال أي علاج أو المضي في حياتي أو الزواج أو إنجاب أطفال إلى هذه الحياة المرعبة أو أخذ أي قرار جديد!
ساعدوني بأصواتكم الحانية أرجوكم.
ولكم الشكر
19/9/2020
رد المستشار
الابنة السائلة:
رسالتك نموذج للأوضاع العربية الحالية بكل أجزاء الصورة.. تربية والدية مشوهة.. بيوت لم تعد ملاذات آمنة، وأوطان للخوف والرعب.. أقرب !!
تركيزنا ينبغي أن يكون في بناء مساحات أمان داخلية وشبكات مساندة مجتمعية !!
تسلحك بالمعرفة عن النفس وخرائطها والصدمات وتداعياتها والتعافي منها.. يفيدك للغاية.
التحريك والتفاعل الجسدي في ممارسة الرياضة، وتدريبات الإيقاع الحركي بمختلف أنواعه الحديثة، وأغلبها مستورد.. يفيدك أيضا.
أنواع التأمل الروحاني المختلفة من صمت وتركيز وتنفس صحي سليم، وكذلك ضبط النوم كما وكيفا، وضبط التغذية .
أي تدريب على ممارسة الدراما أو المسرح لو متاحة بما يناسب إمكاناتك المالية.. تفيدك أيضا.
الارتباط بمجموعات اهتمام وهوايات مختلفة يوفر لك إمكانية وجود علاقات مساندة.
مسألة العلاجات المتخصصة مرتبطة بالفاعلية والإمكانات.
لم أفهم أيضا وضعك المالي والوظيفي وهل تعيشين مستقلة ماديا أم معتمدة على أحد ؟
سأنتظر معلومات أكثر بشأن هذه العناوين...... ولعلي في رد قادم أوصي بصلات في سورية.
واقرئي أيضًا:
قاهر ومقهورة : التركيز والبناء والعطاء !