بسم الله الرحمن الرحيم
عندي ابن في الرابعة عشرة من عمره، فشلت في احتوائه على الرغم من استخدامي لكل الوسائل الممكنة، في الترغيب تارة، والتقريب تارة، والشجار تارة، ومعظم خلافي معه بسبب حرصه على صلاة الجماعة والمذاكرة وشجاره مع إخوته، مع العلم أنه يتسم بالطيبة والذكاء.
ملاحظة: يعمل الأب خارج البلاد،
جزاكم الله خيرًا.
10/10/2022
رد المستشار
أختي الفاضلة: تفكرت في مشكلتك، وكنت قد هممت بأن أنقل لك نصوصاً كتبتها من قبل عن المراهقة، والتعامل مع المراهق، ولكنني أحببت أن أنبِّه - من خلال سؤالك - إلى وضع تعيشه آلاف الأسر التي يغيب عائلها لسبب أو لآخر، ويكون على الأم عندها أن تكون الأب والأم معاً، فيكون العبء النفسي عليها كبيراً كما يكون العبء الجسدي على زوجها - غالباً – كبيراً أيضا، وكذلك معاناة الغربة ... إلخ، والموضوع يغري بالتوغل فيه، ومناقشة أبعاده وجدواه، وجوانبه: الإيجابية والسلبية؛ في ضوء تجربة تمتد الآن لأكثر من ربع قرن:من السفر، والأسر المنقسمة، وقوانين العمل التي لا تسمح للأب بأن يزور أولاده إلا مرة أو مرتين في العام، ولمدة أيام، ولو كان لي من الأمر شيئاً لأعطيت لهذا الأب فرصة أن يزور أولاده لمدة أسبوع كل شهرين على سبيل المثال؛ ليتابع تطورهم النفسي والدراسي، ويأوي إلى زوجته وتأوي إليه،ويأنس كلٌ منهما بالآخر، ويتدارسا أحوال الأولاد أولاً بأول، فالهاتف وسيلة محدودة لا تنقل التفاصيل، ولا تنقل تعبيرات الوجه، وزفرات الصدر، ولكن... ما علينا.
أختي: تحتاجين أولاً لحضور الأب، فإذا كان عمله بالخارج لضرورة قصوى جداً تضطرون إليها - والضرورة تقدر بقدرها، وتنتهي بزوال أسباب أو علاج دوافعها -؛ فيستحسن أن يتواجد أكثر وأكبر وقت ممكن معكم، وفي غيابه حبذا لو كنتم على صلة يومية معه عبر الإنترنت الذي ينقل اليوم الصورة والصوت، وبأسعار زهيدة، ويتسع لتفاصيل وأشياء لم يكن الهاتف يتيحها.
هذا الأمر أساسي فلا أستطيع أن أتخيل مراهقاً ينمو نمواً طبيعيًّا دون أب، فجزء من نمو المراهق يكمن في تدافعه - السلبي أحياناً، والإيجابي أحياناً أخري - مع أبيه، وإن النمو في هذه المرحلة يشبه اللعبة التي كنا نلعبها صغاراً، ونسميها "الصدة ردة"، وفكرتها أن يقوم الطرف الذي تصله الكرة بتسديدها دون تباطؤ، ومن يتباطأ يخسر، أو هي مثل لعبة "تنس الطاولة" لا يمكن أن تلعبها دون شريك يواجهك على الطرف الآخر، يرمي لك، وترمي له... إذن فوجود الأب أساسي.
ثانيًا: ولدك يا سيدتي لم يعد طفلاً، أعرف أنك تعلمين هذا، ولكن هل قمت بتغيير خطتك في التعامل معه بناءً على هذه المعلومة؟!
ولدك الآن "رجل صغير" لم تعد تغريه الحلوى "فيسمع الكلام"، أو تخيفه التهديدات البسيطة فيكف عن شقاوة الأطفال. ولدك الآن مستودع طاقات تتفجر، ومثل القِدْر الذي يغلي ويتقلب بما فيه، إن صراعه شدًّا وجذباً معك، ومع (من) و(ما) حوله هو تعبير عن الاضطراب الذي بداخله، والذي يعيشه كل مراهق، فهو لم يصبح "رجلاً" ناضجاً بعد ولكن ينتظر من الآخرين أن يعاملوه كذلك، كمالم يعد طفلاً رغم أن بعض تصرفاته توحي بذلك. وأرى إنه إذا كان متجهاً إلى الحرص على صلاة الجماعة في المسجد بانتظام فإن هذا مما ينبغي دعمه، والترحيب، والاحتفاء به، على أن يكون هذا دافعاً ومعيناً على الاجتهاد في الدراسة، فالمسلم بسلوكه وتفوقه يكون بين الناس، ولا خير في صلاة لم تنْهَ عن المنكر، والفشل الدراسي من أكبر المنكرات في حياة إنسان عمله ومهمته الحالية في الحياة أنه "طالب" علم ... إذن عندما يتجه الابن إلى طريق الالتزام الديني نفرح فرحاً مزدوجاً، من ناحية لأنه سيبتعد بعون الله عن الطريق الآخر، وعن رفقاء السوء، ومن ناحية لأننا نعلم حينها كيف سنخاطبه: بأي لغة، وبأي لسان، وفي إطار أية معاني ومرجعيات ... وخير لك وأوضح أن تفهمي دينك أكثر، فتخاطبي ولدك من على نفس الأرضية التي يقف عليها، وسلطان الدين على نفس الإنسان كبير.
"وجماعة" المسجد يمكن أن تكون ميزة أخرى كونها مورداً محتملاً ومعقولاً لصداقات يحتاجها كل مراهق، ويتأثر بها أكثر من أهله!! فتعرَّفي على أقرانه، واستضيفي القريب منهم إلى ولدك في المنزل، واجلسي معهم، وبخبرتك في الحياة، وبمعلوماتك - التي ينبغي أن تجمعيها - رشحي "الأنسب"، وادفعي ولدك - بطريق غير مباشر - إلى التقرب منه أو منهم فإنه يحتاج لذلك، كما إنك كلما قويت علاقاتك "بالشلَّة" فستكون عندك الأخبار والتطورات أولاً بأول ... المسجد وأنشطته من صلاة، ومجالس قرآن وغير ذلك ستشغل بعض الوقت، وينبغي أن تكوني في قلب هذا الأمر، ومحيطة بأبعاده، فالمساجد مفتوحة، وفيها الطالح والصالح، والمتطرف والمعتدل، والذكي والمختل، فاستثمري إيجابيات هذا التوجه الناشئ عند ولدك، وادعميه، وفي الوقت نفسه لا تغفلي لحظة عن متابعة تفاصيله، بأشخاصه وأحداثه حتى تشاركي بالرأي، وتتدخلي بالفعل المناسب في الوقت المناسب .
هذا إذا كنت قد فهمت تعبيرك "المتلبس المختصر"الذي تقولين فيه "ومعظم خلافي معه بسبب حرصه على صلاة الجماعة والمذاكرة"، فهذا التعبير متناقض يا سيدتي إلا إذا كان ولدك يضايقك بحرصه على صلاة الجماعة، والمذاكرة زيادة عن المعقول... فهل كنت تقصدين "عدم المذاكرة"؟! على العموم أنا فهمت أن ولدك "يحرص على صلاة الجماعة" و"يقصر في مذاكرته"، وأقول بالإضافة إلى ما سبق أن "جماعة" المسجد ينبغي ألا تكون البديل عن "الجماعة الاجتماعية"، وأعني بها الأصدقاء الذين يمكن انتخابهم عن طريق المسجد أو غيره من الدوائر التي تتحركون فيها، والأقارب والجيران الذي ينبغي أن تختاري منهم "الأنسب" لتتبادلوا معهم الزيارات، وتوطدي معهم الصلات خاصة إذا كان لديهم أولاد في عمر ولدك.
يحتاج الإنسان إلى أن يحيط نفسه بمن يتشابهون معه في الأهداف والغايات، ويتقاربون في القيم والأعراف لإن هذه الشبكة أو "الجماعة الاجتماعية" تمثل دائرة هامة للنمو والتواصل لا غنى عنها لبشر، وخاصة المراهق.
ثالثاً: تحتاجين يا سيدتي إلى اقتراب أكثر من ولدك واهتماماته، فإن لم يكن له اهتمامات أو هوايات فينبغي تشجيعه على أن يكون له جوانب ترويح وترفيه، فإن ذلك له تأثيره السحري في شخصيته وسلوكه، ونموه الذهني والشخصي، كما تحتاجين إلى أن تطلقي العنان لأذنيك تستمعان هذا "الرجل الصغير" باهتماماته، ومغامرته، ومعاركه البريئة الشابة، وحين تظهرين الاهتمام بسماع التفاصيل، وتطرحين الأسئلة الذكية لمعرفة المزيد من الخلفيات سيمنحك هذا "قوة المعلومات"، ومنها تستطيعين بحكمة أن تضعي النصيحة في الشكل والأسلوب والوقت المناسب، دون تعنيف أو تقريع، ولكن بحكمة وحزم في موضعه، كوني معه "على الخط" و"في الصورة" صديقة تفهم وتسمع بإنصات، فهذا ما أوصى به "أمير المؤمنين علي بن أبي طالب –رضي الله عنه - في قولته الشهيرة عن تربية الأبناء حين قال:" لاعبه سبعًا، وأدبه سبعًا، وصاحبه سبعًا، ثم اترك له الحبل على الغارب"،ولا أعرف:هل يراسله والده أو يتحدث معه شخصيًّا كرجل وقد دخل ولدك في سنين المصاحبة؟!، وعند المصريين حكمة تقول:"إن كبر ابنك خاويه" أي كن أخاً له أكثر من كونك أبا أو أما، فناقشيه بهدوء في أموره واهتماماته، وادعمي بمودة، أو عارضي بمنطق.
أختي: أعرف أن الحمل ثقيل، وأن ولدك هذا ليس وحده، وله أخوات، وربما إخوة ... لكن نجاحك في التعامل معه سيمكنه من إدارة علاقته بأخواته بشكل أفضل، كما سينضج من شخصيته بما يجعله يترفع عن مشاحنات الصغار، أو ملاحاة شركائه في بيت ينبغي أن يكون له مصدر حنان وتفهم ورعاية وتشجيع؛ لا مصدر أوامر، وتوجيهات، وإزعاج مستمر ... وتذكري أن كلمات التشجيع، ولمسات الحنان، ومكافآت التفوق لها مفعول السحر.
وبعد.. نعم نحتاج لوجود الوالد في لعبة "الصدة ردة"، لكن الأم تبقى هي المدرسة التي يتربى فيها الإنسان وليداً يرضع، أو طفلاً يحبو ويتعثر، ثم مراهقاً يعاند ويتمرد، ثم رجلاً ... بهذا تكون الحياة، وهكذا ينشأ الرجال، ومن أجل هذا كانت الجنة تحت أقدامهن. قلبي معك وأهلاً بك.