السلام عليكم ورحمة الله
أنا فتاة أبلغ من العمر 18 سنة، أصبت بوسواس إيماني فشككت في وجود الله وفي الإسلام، حاولت التغلب على هذا الأمر وفعلا تخلصت من جزء كبير من الوساوس، لكن بعد 3 سنوات من العذاب، لكن بالرغم من ذلك فما زلت أشك أحيانا في وجود الله.. وهذا طبعا ليس بإرادتي. أريد أن أومن بالله إيمانا خالصا لا تشوبه شائبة. حاولت الالتزام لكنني فشلت. أنا أعيش عذابا ما بعده عذاب. ساعدوني جزاكم الله خيرا.
ادعوا الله لي أن يرفع عني ابتلاءه.
والسلام عليكم.
24/9/2022
رد المستشار
الأخت الفاضلة.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
كثيرا ما يأتي الوسواس القهري في صورة أفكار وشكوك تخص حقيقة الإيمان بالله أو حقيقة الدين أو الذات الإلهية أو الرسالة أو الرسول، وهذه الأفكار الوسواسية تكون شديدة الوطأة على النفس؛ حيث إنها تمس أغلى ما يملك الإنسان وهي عقيدته؛ فالإنسان قد يكون مستعدا أن يصاب في جسده أو في ماله أو في أي شيء إلا عقيدته فهي مفتاح آخرته التي هي أهم شيء عنده، ولهذا تكون وساوس العقيدة من أكثر الوساوس وطأة على النفس، خاصة حين يشعر المصاب بها بمسئوليته نحوها، هنا تحدث مشاعر استنكار وغضب وحزن في ذات الوقت وربما يكره الإنسان نفسه؛ لأنها تجره خارج دائرة الإيمان، أو هكذا يتصور.. فهل هذا صحيح؟
للإجابة عن هذا السؤال نعود إلى الطب والدين؛ ففي الطب نعرف أن الوسواس القهري مرض يصيب الإنسان نتيجة خلل في بعض الناقلات العصبية وخلل في الوظائف الفسيولوجية لبعض مناطق المخ، وهذا الخلل ينتج عنه أفكار أو تخيلات أو أفعال غير منطقية ومستهجنة ومرفوضة من الشخص نفسه ولكنها تلح عليه إلحاحا شديدا ليل نهار، ولا يستطيع الفكاك منها بسهولة، وقد يصاب الشخص بقلق شديد أو اكتئاب شديد بسبب هذه الأفكار.
وبما أنها مرض نفسي له جذور عضوية فالعلاج يكون باستخدام أدوية نفسية تعيد التوازن للناقلات العصبية في المخ وخاصة السيروتونين، إضافة إلى نوع من العلاج السلوكي يتعلم من خلاله المريض التحكم في أفكاره وطرد الأفكار المرضية أو إهمالها أو التوقف عن الاسترسال معها، على اعتبار أنها أفكار مرضية لا تستحق الاهتمام أو النقاش؛ فنحن مثلا إذا رأينا إنسانا مجنونا يهذي بأشياء غير منطقية فإننا لا نكلف نفسنا عناء الرد عليه أو مناقشته وإنما نلتزم الصمت ونهمل ما سمعناه منه ولا نأخذه على محمل الجد، وهكذا الأفكار والتخيلات الوسواسية لا تستحق إلا الإهمال حتى تضمر وتتلاشى.
وهناك تدريب يسمى وقف الأفكار، وهو ببساطة يعني أن يتخيل الإنسان وجود علامة "قف" (stop) تظهر أمامه كلما راودته الأفكار الوسواسية فيتوقف تماما عن مناقشتها أو الاسترسال معها، ثم ينتقل بعد ذلك إلى فعل أي شيء مفيد. وقد تكون الأفكار أكثر تعقيدًا وتركيبًا بحيث تحتاج إلى أن يتم تحليلها إلى عناصرها الأولية بواسطة المعالج النفسي ثم التعامل معها واحدة بعد الأخرى في أثناء تدريبات وقف التفكير. وعلاج الوسواس بالدواء وبالعلاج السلوكي يحتاج إلى صبر ووقت والتزام حتى تزول الأعراض وهو يتم بمساعدة طبيب نفسي ومعالج سلوكي.
أما إذا جئنا إلى الموقف الديني فسنجد أحاديث نبوية شريفة تعرضت لموضوع الوسواس نذكر منها ما رواه مسلم عن عبد الله قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة قال: "تلك صريح الإيمان" (أي إن الإنسان حين يتألم من هذه الأفكار ويتعذب بها ويأتي سائلا عن حل لها فهذا دليل على حرصه على مسألة الإيمان؛ فالملحد والكافر والمشرك لا يتعذبون بمثل هذه الأفكار التشكيكية) .. وروى ابن ماجه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". والأفكار والتخيلات الوسواسية تقتحم وعي الإنسان ضد إرادته؛ لذا فهي تدخل في نطاق الاستكراه والذي يمكن أن يكون من البشر أو من غيرهم كالوسواس.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به" (رواه مسلم). وروى الإمام أحمد بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني لأحدث نفسي بالشيء؛ لأن أخر من السماء أحب إليّ من أن أتكلم به. قال: الله أكبر الله أكبر الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة" (رواه أيضا أبو داود والنسائي والحديث صحيح).
وفي صحيح مسلم بشرح النووي "باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها فيه" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به. قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم. قال: ذاك صريح الإيمان. وفي الرواية الأخرى: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة قال: تلك محض الإيمان. وفي حديث آخر: لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله. وفي رواية أخرى: فليستعذ بالله ولينته. وفي كلمة "ولينته" في الرواية الأخيرة إشارة مهمة إلى إهمال الوسواس وعدم مجاراته.
والإمام أبو حامد الغزالي يرى أن الشيطان يتعرض بالوسوسة للقلوب العامرة بالإيمان، أما القلوب الفارغة فلا يتعرض لها إذ ليس له بها حاجة، وهو يشبه الشيطان بالكلب يحوم حول المكان العامر باللحم أما المكان الخاوي فلا حاجة له به. وكأن حالة الوسوسة دليل على وجود الإيمان. وقيل إن الشيطان يوسوس لمن يئس من إغوائه فينكد عليه بالوسوسة.
يقول النووي: وأما قوله صلى الله عليه وسلم "فليقل آمنت بالله"، وفي الرواية الأخرى "فليستعذ بالله ولينته"؛ فمعناه الإعراض عن هذا الخاطر الباطل والالتجاء إلى الله تعالى في إذهابه. وظاهر الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يدفعوا الخواطر بالإعراض عنها من غير استدلال ولا نظر في إبطالها. فكأنه لما كان أمرا طارئا بغير أصل دفع بغير نظر في دليل؛ إذ لا أصل له ينظر فيه. وأما قوله صلى الله عليه وسلم "فليستعذ بالله ولينته" فمعناه إذا عرض له هذا الوسواس فيلجأ إلى الله تعالى في دفع شره عنه، وليعرض عن الفكر في ذلك، وليبادر إلى قطعه بالاشتغال بغيره (انتهى كلام النووي رحمه الله تعالى).
مما سبق نصل إلى أنه حين تساورنا الأفكار الوسواسية التي تخص العقيدة أو الذات الإلهية أو الرسالة أو الرسول أن نفعل التالي:
1- نستعيذ بالله وننتهي عن الاسترسال مع الفكرة... فإذا لم تذهب الفكرة
2- نتذكر أننا غير مسؤولين عنها فهي فكرة مرضية، وهذا يفصل بين الفكرة وبين المشاعر المتصلة بها فلا نحزن أو نقلق بسببها ولا نتهم أنفسنا بضعف الإيمان.. فإذا لم تذهب الفكرة
3- نتخيل علامة "قف" (stop) أمام أعيننا فنتوقف فورا عن التفكير في هذا الأمر.. فإذا لم تذهب الفكرة
4- نحاول الانغماس في أي شيء مفيد وإيجابي يأخذنا بعيدا عن الفكرة الوسواسية السلبية.
فإذا فشلت هذه الحلول الذاتية كلها فهذا يعني أننا أمام حالة وسواس قهري تحتاج إلى مساعدة طبية لدى طبيب نفساني متخصص. وفقك الله لما فيه الخير.
واقرئي أيضًا:
وسواس الكفرية : الإيمان بالعقل لا العواطف !
وساوس السب والشكوك: محض الإيمان
وسواس الكفرية لا يغير حالتك الإيمانية