الدكتور الفاضل، أحمد عبد الله:
قرأت تعليقكم على المشاركات المعنونة بـ: كثيره يقلب الحال: الالتزام الذي نفتقده"مشاركات" وهو تعليق يعرض معالم فقه عميق بدين الله عز وجل، وأرى أن بشائر هنا وهناك تنبئ ببدء ترسخه في وجدان الأمة وواقعها. ولكن تحقق ذلك كاملا -في تصوري- يحتاج إلى تجديد الخطاب الدعوي تجديدا تأصيليا، بحيث تعاد صياغة الأطروحات الدعوية صياغة فقهية أخلاقية عملية. وبيان ذلك:
أن الطرح الدعوي غالبا ما يفتقد إلى الموازنة بين هذه الأمور الثلاثة، مع عدم إدراك لأهمية التأصيل الفقهي في مواضيع تطرح بشكل عائم.. على سبيل المثال موضوع بر الوالدين، أو العلاقات بين الجنسين، وغير ذلك، مما يجعل الرؤية غير واضحة وفيها الكثير من الغبش؛ إذ إن مثل هذا الطرح يفقد الدين أهم مزاياه وهي كونه مستوعبا -عبر أحكامه التكليفية الخمسة (الواجب والمندوب والحرام والمكروه والمباح)- الناس على اختلاف نفسياتهم وطبائعهم.
ولأوضح كلامي أكثر فسأضرب مثالا من المنهج النبوي للتربية. فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يطالب الأعرابي بأكثر من الأركان الخمسة عباديا في الحديث الشهير، بينما قال عن عبد الله بن عمر: نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فما بال الخطاب الدعوي؟ وهو غالبا ما يغفل هذه السياسة النبوية في تربية النفوس، وهي التي تراعي الجانب الفقهي والنفسي معا دون تغليب لأحدهما على الآخر. بل إن ميزة الجانب الفقهي هي كونه مستوعبا للجانب النفسي، ويظهر ذلك في مراتب الأحكام التكليفية الخمسة.
ثم إن الحديث عن أهمية الدور الفاعل على المستوى الحضاري كثيرا ما يغيب عنه التأكيد على كونه فرضا كفائيا، تطالب الأمة به جميعا مطالبة تقدم على فعل النوافل، وفي فقه الشافعية مثلا وقفات جميلة تؤصل لبناء ثقافة مجتمعية ناهضة.
وأذكر على سبيل المثال ما قرره علماء الشافعية من أن دفع ضرورات المسلمين بإطعام جائع وكسوة عار ونحوهما فرض على من ملك أكثر من كفاية سنة (حاشية إعانة الطالب: 2/ 319)، وفي الإطار التنموي يقرر بعض الشافعية أن طاعة الوالدين لا تجب إذا منعا ابنهما من السفر لأجل طلب العلم حيث كان السفر مأمونا، قالوا لأن في خروج الابن طاعة ومناصرة للدين، ولا خوف عليه في المسافَر لأجله بخلاف الجهاد (البيان للعمراني: 12/113).
وعلى سبيل الاستطراد أذكر أن أحد البرامج (الدعوية) استضاف أستاذا يملك هذا الفقه التأصيلي المقاصدي الذي نتحدث عنه، وكان الأستاذ كلما أراد أن يضع أسسا فقهية لصيغة التعامل بين الزوجين، ولتصحيح المفهوم المغلوط الذي تدل عليه عبارة (أنا ملتزمة وزوجي ليس كذلك، فماذا أفعل معه؟) بما في هذه العبارة من تزكية للنفس وتصنيف فئوي مستحدث، قاطعته المذيعة وكأنه سينتحي بالحديث إلى مناقشات فقهية عقيمة لا مدخل لها في (الخطاب الدعوي العصري).. مع أن الفقه هو الذي يضبط للناس حياتهم كلها، بل نص العلماء -رضي الله عنهم- على أن المسلم يحرم عليه أن يقدم على أمر من أمور دينه أو دنياه حتى يكون عالما بحكم الله فيه.
وبالتركيز على تأهيل الدعاة لمثل هذا التأصيل -جنبا إلى جنب مع تأهيلهم للطرح الأخلاقي والعملي- ستنتظم كل هذه الأمور التي عرضتها حضرتك من مفهوم الالتزام إلى الزي إلى عمارة الدنيا.
وبارك الله في طرحكم المتميز،
ونفع بكم.
29/11/2022
رد المستشار
وأنا أقول لك يا أختنا الكريمة:
إن وجود أمثالك واتصالهم بنا هو من بشائر بلورة الخطاب الذي أعتقد أن الكثيرين في شوق إليه، والناس جميعًا في حاجة إليه.
مسألة الانفصال بين الفقه والناس والحركة هي مسألة قديمة نوعًا ما، وهي من نتاج عصور الانحطاط كما يسمونها، ولكن محاولات كثيرة جرت في سبيل إعادة اللحمة بينها من جديد. وهذه المحاولات إما بقيت محدودة أو تطورت في غير الاتجاه الأنسب والأكثر عطاء.
أذكرك أيضًا بأن "الفقه" هو إنتاج دينامي مستمر، وليس فقط النظر فيما قاله الأقدمون لإسقاطه على واقعنا دون تجريد أو تحليل أو رغبة في النقد أو الاجتهاد لمستجدات ربما تخرجنا من أوضاع أنشأت أحكامًا في السابق.
خذي مثالاً مما تضربينه:
فالشاب الذي يريد أن يسافر ويمنعه أهله، وهو يريد العلم لإفادة المسلمين، أصبح في مقدوره الآن أن يدرس بالخارج دون سفر، وذلك عبر "التعليم الإلكتروني"، وهو يحصل على نفس الشهادات. وربما كان أهون على أهله أن يدفعوا تكاليف الدراسة من أن يتركوه يهذب بعيدًا.
الانفتاح الواسع على تراثنا الفقهي شرط لازم لتأصيل نهضتنا، ولكن ينبغي أن يتم هذا بمنهاج قادر على النظر والأخذ والرد والتمحيص، بعد البحث والغوص والتنقيب في أصول المسائل والآراء، وليس فقط النتائج التي وصل إليها النظر الفقهي القديم.
وأنا أدعوك إلى البدء في هذه الناحية بأن تضعي هوامش مما درست تكون بمثابة إضاءات على النصوص التي نكتبها، ولعل المزج بين هذا وذاك، أو لنقل النظر لكل منهما في ضوء الآخر يكون مدخلاً لإبداع الخطاب التأصيلي التجديدي الذي أعتقد أنك تقصدينه بكلامك.
جزاك الله خيرًا، وأهلاً بك دائمًا.
ويتبع >>>>: كثيره يقلب الحال: أخونا يشكر ويقترح مشاركة