بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله،
في الحقيقة لا أعلم إن كانت الكلمات ستعطي الحجم الحقيقي لمشكلتي، وأرجو من الله ألا تهملوا رسالتي. أنا فتاة أبلغ من العمر 23 عامًا، في البكالوريوس، لقد عرفت طريق الالتزام والإيمان مع بداية عامي الدراسي هذا؛ فأنا لم أكن ملتزمة ولم أكن محجبة، ولكن ولله الحمد والفضل اهتديت وسلكت طريق الالتزام، وفي الواقع إيماني جعلني أنظر إلى الأمور بمنظور مختلف عن السابق، أصبحت أنظر إليها بمنظور الحقيقة والصدق وهو ما سبب لي المشاكل!!
قد تستغرب لهذا الكلام، ولكن والله هذه هي الحقيقة، فمنذ التزامي تغير كل شيء في حياتي وتغيرت أولوياتي؛ فكل عمل أقوم به أسأل نفسي أولا هل يرضي الله أم لا، وكل شيء بعد ذلك يصبح عندي زائدا، فلا المال ولا الجاه ولا المركز و"البريستيج" يجعلني أغير في رأيي في صحة قيامي بالعمل، فقط رضا ربي المعيار للقبول أو الرفض.
قد تسأل ما المشكلة إذن؟ المشكلة تبدأ أولا في دراستي؛ فأنا أدرس في جامعة مختلطة وأعاني من ذلك الكثير، فأنا والله لا أستطيع أحيانا النظر إلى فتاة مثلي في الجامعة من شدة فضاحة ما ترتدي، ناهيك عن العلاقات المقامة باسم الصداقة والحرية والانفتاح... إلخ من المآسي.
وهذا يحدث كل يوم طوال العام الدراسي وأعيشه مباشرة طوال أيام دراستي، فمهما حاولت غض البصر تفشل، ومهما حاولت عدم الاستماع إلى الأحاديث التي تروى بجانبك تفشل، وإن حاولت النهوض إلى مكان آخر فسيكون الحديث مشابها له فأين تذهب؟! ولا تستطيع بأي شكل من الأشكال تقديم النصيحة لعدة أسباب خصوصا لمن لا تربطك بهم صداقة، وأصبحت أعود كل يوم من الجامعة حزينة وقلبي منقبض ولم أعد أحب الجامعة وصخبها ولهوها كالسابق.
والمشكلة الأكبر من هذه أني لم أعد أرغب في الدراسة كالسابق، وأصبحت أكره الذهاب إلى الجامعة، وأُكثر من الغياب وأشعر بالسعادة عند بقائي في البيت، ليس بسبب مآسي الاختلاط فقط، ولكن لأني كما أخبرتك في السابق قد تغيرت مفاهيمي ونظرتي للأمور؛ فدراستي المنهجية أيضا تتخللها عدة مشاكل أولها قلة الإمكانيات المتوفرة فنحن نضطر إلى دراسة المواد العملية نظريا ونقوم بحفظها دون فهمها لعدم تمكننا من تطبيقها عمليا، ناهيك عن قلة الكفاءة التدريسية فنادرًا ما تجد الأستاذ الجيد، بالإضافة إلى الواسطة والغش وعدم فهم المناهج، فليس المهم بالنسبة للجميع الفهم والتعلم لأجل العلم، بل المهم أن أكون أمام الناس حاصلا على الشهادة الجامعية، وهو لا يعلم الزيت من الزعتر، فنحن لا نجيد تطبيق أي شيء تعلمناه.
لقد سئمت حفظ المناهج بدون فهم وسئمت هذا النوع من المذاكرة، وحتى إن حاولت أنا وصديقاتي فهم المواضيع فإننا نادرًا ما ننجح في ذلك ونضطر للحفظ بدون فهم، ولن تجد من يقدم لك يد المساعدة ويفرغ لك جزءًا من وقته إن لم يكن هناك مصلحة، والدورات الخاصة تكاليفها باهظة، ولا يمكن لمتوسط الحال دفعها، فكل ما نفعله هو حشو المعلومات في الدماغ بدون فهم في أغلب الأحيان ليتم نسخها في الامتحان ثم بعد ذلك يمسح كل شيء من الدماغ ليتم ملؤه بمعلومات جديدة... شيء مضحك أليس كذلك؟!! بل هو مبك ومدمر لأي طموح.
في السابق كنت مثل الجميع كل همي هو الحصول على الشهادة بأي شكل وبأي كيفية، ولكني تغيرت الآن، أخبرني هل هذا هو العلم النافع؟ وما الفائدة من الذهاب إلى كليتي إذن لكي أجمع الذنوب وأرى تلك المناظر المقرفة وهل هذا يرضي ربي؟ هل العلم بهذا الشكل يرضي ربي؟
ساعدني أرجوك؛ فأنا حائرة وأصبحت حزينة وانطوائية ولا أرغب في الدراسة والحياة، وكلما أنظر إلى والدَي ازداد ألمي وحزني؛ فهما ينتظران حصولي على الشهادة، وفكرة ترك الجامعة مرفوضة لديهما تماما لأي سبب كان.. أخاف من غضبهما علي إن فشلت في دراستي، وأخاف من غضب ربي لأن كل شيء يحدث في دراستي خطأ.
أنا حائرة وضائعة وتائهة وحزينة، ومما يزيد الأمر سوءًا خوفي بأن يتم ربط فشلي بتديني والتزامي ما يسيء إلى صورة المتدينين، ولكني والله لا أرغب في الدراسة، وكلما أمسكت الكتاب لأذاكر اعترتني نوبات بكاء حادة وشعرت بضيق الصدر ولا أستطيع التركيز.
أصبحت أبكي كثيرا وحزينة، والغريب في الأمر أني أصبحت أكثر من أكل الحلويات، وأبحث عن أي شيء سكري لآكله بطريقة لفتت انتباه أهلي فاستغربوا لماذا أكثر من أكل الحلويات وأنا نفسي مستغربة!
أرجوك انصحني وأخبرني ما الحل الذي يرضي ربي وأهلي ولا يسيء إلى صورة المتدينين؟ وماذا أفعل لحزني وكثرة بكائي وانعزالي؟ كيف أخرج مما أنا فيه؟ لقد صليت صلاة الاستخارة ودعوت ربي أن يفرج عني، فادعوا لي أرجوكم ولا تهملوا رسالتي، مع العلم أن تخصصي هو طب الفم والأسنان. وشكرًا.
9/12/2022
رد المستشار
أختي السائلة: أرجو أن يصلك الرد وأنت في حال أفضل، ونحن معك فكوني على اتصال مستمر حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً.
سعدت أن فتاة من هذا البلد الطيب الذي يعيش ظروفًا صعبة لها مثل تفكيرك وشعورك الحماسي القوي للحق والخير، وأحب ألا تتبدد طاقتك النفسية فيما لا طائل من البكاء عليه، وإنما نستثمر هذه العواطف الطيبة النبيلة فيما ينفع ويفيد.
لو أنك تجولت بنظرك فيما حولك من ظروف لوجدت "الحال من بعضه" -كما يقول المصريون- فمعظم ما تشتكين منه موجود في أغلب الجامعات العربية، والحصيلة أن الجامعة بدلاً من أن تصبح دائرة علم ونشاط أكاديمي، ومساحة تفاعل إيجابي بين الطالب والأستاذ، وبين الشباب والفتيات تعاونًا في تحصيل العلم والثقافة، والانفتاح على المعارف النافعة للناس في حياتهم، وللأمة كلها في حاضرها ومستقبلها: تحولت الجامعات إلى ساحة للاستعراض، والتنافس في التفاهة والسخف، ولا يوجد فارق بين الجامعات المختلطة وغيرها، من هذه الناحية، فالعلم منعدم هنا وهناك، ومجرد الحصول على الشهادة هو الهدف الأهم!
ولو أن الحل أن يعتزل الإنسان هذه الفتن والمحن فإنني أرجو أن تبحثي لي معك عن مكان يخلو منها حتى نسافر إليه بصحبة كل من يريدون الفرار بدينهم إلى أرض البراءة والنقاء، وأرجوك أن تحضري خريطة للعالم وتبحثي لنا جيدًا عن أرض بلا فتن، أو مجتمع بلا مشكلات، أو جماعة بلا أمراض حتى نحزم حقائبنا إليها فورًا.
أصابتك تبعًا لمشاهداتك اليومية حالة من الاكتئاب النفسي، ومن أعراضها ما تصفين من نوبات البكاء الحاد، وضعف التركيز، وضيق الصدر، والميل إلى العزلة، وقلة النشاط، وكثرة أكل الحلويات، وكلها من العلامات المرضية التي تحتاج إلى مراجعة طبيب أو طبيبة متخصصة حتى لا تتفاقم أكثر، وتصل إلى درجة أعلى.
أما بالنسبة للجامعة فالحل أن تكوني أكثر إيجابية، وأنا أقترح عليك تكوين أسرة جامعية تهتم بالناحية العلمية، وتنمية مهارات الطلاب فيما يخص الفرع الذي تدرسينه في الطب، ولا أدري ما هو القانون الجامعي أو الأشكال المتاحة لإنشاء هذا النادي أو الرابطة أو الجمعية العلمية، ولكنها ستكون نقطة تلتقي فيها الجهود البسيطة عسى أن يباركها الله فتثمر وتزدهر، فهناك من حولك طلاب وطالبات يشعرون بمثل ما تشعرين به، وهناك أساتذة يحاولون -ولو بشكل فردي- أن يشعلوا شمعة وسط الظلام.
وهذه المشاعر والجهود تحتاج إلى راية أو لافتة تجتمع تحتها، ويمكن من خلال هذه الرابطة أو الجمعية أن يحدث نوع من التبادل الطلابي مع جامعات عربية أو أجنبية، وهو نظام معمول به منذ زمن طويل، ويحتاج إلى إنعاش وتطوير، ومن خلاله يتلقى الطالب تدريبًا عمليًا لفترة أسابيع في مراكز أكثر تقدمًا، ويمكن الاتصال بالمراكز العلمية والثقافية الأجنبية مباشرة أو عبر الإنترنت لترتيب مثل هذه البرامج.
إن الهجوم هو أفضل وسائل الدفاع والمدافعة، وإذا تركنا مساحة الجامعة تضيع، وانسحبنا من الدائرة تلو الدائرة إيثارًا للسلامة، واعتزالاً للمناظر "المقرفة" كما تقولين، فإن السوء سينتشر أكثر وأكثر، وسيدخل علينا صوامعنا، والأوفق أن نجاهد بالعلم، ونشر الخير، والاجتماع عليه... وهذه أفكار أولية تصلح لكل الجامعات العربية، وفي انتظار مشاركات وتعقيبات تفيدك في نفس الصدد.
ويتبع >>>>>: يوميات الزيت والزعتر: الحشو وعقدة الاضطهاد مشاركة