السلام عليكم،
جزاكم الله خيرا كثيرا على جهدكم ، عندي مشكلة أتمنى أن يرد عليها الدكتور أحمد عبد الله .. مشكلتي هي التردد وعدم الثقة بالنفس بالرغم من اعتراف كل من حولي بما فيهم زوجي بأنني والحمد لله أم وزوجة وصديقة جيدة جدًّا.
ولكن المشكلة أنني أحتاج دائمًا لأن يذكر لي أحد هذا الكلام من فترة لأخرى؛ لأنني بصراحة أنسى هذا، وتحدث لي حالات اكتئاب أشعر فيها بالفشل في كل شيء إلى أن يمتدحني أحد ويثني عليّ بشدة، فأعود إلى هدوئي النفساني مرة أخرى، وزوجي أكرمه الله هو الذي يقوم بهذا الدور من فترة لأخرى، ولكني أخشى أن يمل من هذا.
وأشعر أن هذا وضع غير طبيعي؛ لذلك أريد حلا حقيقيا لهذه المشكلة، وقد حاولت حلها بالالتحاق بوظيفة؛ اعتقادا مني أن الفراغ الذهني هو السبب، ولكن المشكلة مستمرة؛ لأن عندي طفلين، وخائفة من قرار ترك العمل حتى لا أندم، فلا أدري ماذا أفعل؟.
19/12/2022
رد المستشار
الأخت الكريمة، التردد الزائد وعدم الثقة بالنفس هما عيبان قد ينتجان عن خلل في التنشئة داخل أو خارج الأسرة ، فحاجة الإنسان إلى سماع كلمات التقدير هي حاجة فطرية تولد معه، حتى أفادت بعض الدراسات النفسانية أنها من أشد حاجات الإنسان، متقدمة بذلك على حاجات أخرى يظنها الناس أهم!
والمصدر الأول للتقدير المعنوي، وبالتالي زرع الثقة بالنفس هو الأسرة عامة، والوالدان خاصة، ولكن الأسرة ليست المصدر الوحيد أو الأخير، فهناك جماعة الأقران والأصدقاء، وهناك زملاء الدراسة والعمل، وهناك أيضا دوائر أوسع وأوسع بحسب المساحة التي يتحرك فيها الإنسان.
وهناك ظن خاطئ، ولكنه شائع للأسف، وهو أن كثرة النقد هي السبيل إلى إصلاح العيوب والارتقاء بالأداء، والحق أن اللوم كله عقيم، ولا ينشئ في النفس إلا دواعي المقاومة التي قد تصل إلى عدم الاعتراف بالخطأ، وعدم إصلاحه فعلا، ومن ثم يتدهور الأداء على غير المطلوب أصلا من وراء النقد!!.
والمشكلة أن اللوم العقيم ثقافة تشيع لتصبح هي الحاكمة والمستقرة بل وتنتقل من جيل إلى جيل، حتى يمكن أن نجد من عانى منها ومن آثارها يواصل نفس السياسة مع أبنائه أو تلامذته أو مرءوسيه؛ فنصبح أمام مجتمع مريض، إما بثقة زائدة في النفس ترفض وتقاوم الاعتراف بالخطأ، أو بانحطاط في تقدير الذات والآخرين، وكلاهما وجهان لعملة واحدة.
ومما يعين على كسر هذه الحالة على المستوى العام والمستوى الخاص أن تكون هناك معايير موضوعية واضحة وثابتة لتقويم الأداء ، وللثواب والعقاب، ويتضافر مع ذلك وجود تكافؤ للفرص، ونظام انتقاء للأفضل، بناء على نتائج التقويم، والغياب المعروف لهذه الأمور جميعا يجعل العلاج أصعب في المستوى العام، ولا يترك سوى مساحة المستوى الشخصي أو المؤسسي الضيق، وفي هذه المستوى تبرز عدة خطوط مهمة:
الأول: تذكير النفس الدائم بنعم الله سبحانه وتعالى على الإنسان، وبعض هذه النعم موروثة لا يد للإنسان فيها، مثل: الصحة، والجمال، والخصوبة، وما إلى ذلك، وبعضها مكتسب مثل العلم والمال والثقافة والعمل... إلخ.
وشكر النعم الموروثة لا يطرح فيها البركة فحسب بل يؤكد للإنسان دائما أنه نجح بفضل الله فيما فشل فيه آخرون، وحين ينظر إلى من هم دونه في الإنجازات المكتسبة تزيد ثقته بنفسه مرتبطة بفضل الله عليه، والحقيقة أن الثقة الحقيقية في النفس لا تكون إلا فرعا عن الثقة في الله سبحانه صاحب النعم وواهب النجاحات.
الثاني: ما يقوم به زوجك هو من حقوقك عليه وحقوقه عليك، فما معنى الرحمة والسكينة والمودة؟ وما معني الميثاق الغليظ والرباط المقدس وبقية روابط الزواج إن لم يقم فيه الطرفان بتلبية الحاجات الأساسية على الأقل لكل منهما؟!! وهذه الحاجات قد يختلف قدر الاحتياج إليها من إنسان إلى إنسان، وقد تكون النواحي النفسانية أهم – لدى كثيرين وكثيرات- من النواحي المادية أو الجسدية مثلا مع عدم التقليل من أهميتها.
ولذلك أنصحك بتبادل التقدير المعنوي مع كل أفراد أسرتك؛ فجهاز الثقة بالنفس هو مزدوج التكوين فيه جزء للإرسال وجزء للاستقبال، وإذا أيقظت فيمن حولك حاسة التقدير لهم على أفعالهم الحسنة بكلماتك ولمساتك فمن شأن هذا أن يعود إليك إذا كانوا ممن يرد التحية بأحسن منها، ومدحك لزوجك أو غيره ممن ترتبطين بهم أو بهن بصلة القرابة أو الصداقة سيجعلك الأثيرة لديهم؛ لأن الإنسان مفطور على حب الإطراء، وخاصة ما كان عن حق واستحقاق.
الثالث: التطرف في التعامل مع النفس مشكلة مرتبطة بما تتحدثين عنه، وأعني أن الطموح مثلا إلى النجاح المستمر في كل شيء هو اختيار ذهني ونفسي واهم، وهو افتراض ضمني، ومقدمة حتمية للشعور المرضي الآخر بالفشل في كل شيء، والحقيقة أن الحياة بواقعها هي بين هذا النجاح الخيالي وهذا الفشل الوهمي، فلا تخلو حياة أي إنسان من نجاحات وسقطات، وصعود البعض يأتي بسبب الحكمة في إدراك الحقيقة ثم تكريس وتكرار النجاحات ودراسة الانكسارات لتلافي تكرارها.
ويمكن الحديث عن طقوس وشروط للنجاح بعضها عام ينطبق على الجميع وبعضها خاص يختلف من إنسان إلى إنسان، ووصفة النجاح المناسبة لك تستطيعين اكتشافها بسهولة باسترجاع مناخ كل نجاح تحقق في حياتك، ومحاولة تكراره وتلافي كل مناخ سالب ساهم في فشل سابق.
الرابع: الثقة بالنفس ترتبط بالحب كما ترتبط بالتقدير المعنوي، والحب بأنواعه هو علاقة متبادلة، ومن شأن الحب المتبادل في الله لأفراد العائلة أو الصديقات المقربات أو الزوج والأولاد أن يزيد من رصيد الثقة بالنفس، وقد تجدين أنك مثل كثيرين وكثيرات تحتاجين إلى تنشيط وترميم شبكة علاقاتك وتدفق المشاعر المتبادلة عبرها، والاستفادة من دوائر حركتك لانتقاء من يملأ ثغرات هذه الشبكة أو يرتق فتوحها.
ومن أهم وأنجح العلاجات الحديثة لبعض أنواع من الاكتئاب، ذلك العلاج القائم على تحليل وإصلاح الخلل الموجود في العلاقات الأسرية والاجتماعية الأوسع، ونتائج هذا العلاج مذهلة في بعض الحالات.
الخامس: أحيانا يفشل الإنسان في تحديد أهدافه بدقة، ويصبح أسيرًا لهذا الفشل ينتظر وضوحا ربما لن يتحقق أبدًا على النحو الذي يطمح إليه، وتكون النصيحة في هذه الحالة أن يختار الإنسان بعض الأهداف الكبرى نسبيا مما هي في متناوله، ومتوقعة منه، ويضع خطة لتحقيقها، ويسير في التنفيذ بدأب ورقة، فيشعر بعد فترة من الزمان وبعد سلسلة من النجاحات أن عمره لم يذهب سدى، ولكنه بني بيتا أو أنتج علمًا، أو جمع مالا، أو حصل على شهادة أعلى، أو اكتسب مهارة، أو تعلم لغة، أو سافر أو زاد رصيد خبرته وتجاربه بأية وسيلة من الوسائل، وهو هنا مفتوح على قائمة طويلة من النجاحات يمكنه أن يختار منها ما تساعده ظروفه عليه ولا ما يتأكد أنه يريده؛ لأن هذا اليقين قد يتأخر وقد لا يتحقق، وقد يتحقق ثم يختلف المسار، فلا ينبغي أن يقف الإنسان طويلا أمام عثرة عدم الوضوح.
السادس: الناس في عون الناس ، وهذه سنة من سنن الله في كونه ، وليس عيبا أن يطلب الإنسان مساعدة غيره ممن يملك هذه المساعدة، شريطة أن ترتبط هذه المساعدة بجهد ذاتي يكملها، وإلا أصبحت "اعتمادية" تزيد من الشعور بالعجز والفشل.
والمرء قليل بنفسه وكثير بمن حوله، والتصور بأن الإنسان يمكنه القيام بكل شيء وحده مثل التصور بأن الآخرين يمكن أن يحلوا محله في أداء واجباته، كلاهما خاطئ وغير منتج، وتبادل المساعدات من شأنه تقوية الروابط وتدعيم الأواصر واستعادة الثقة بالنفس حين يجد الإنسان أنه نافع ويقوم بأدوار في حياة من حوله، وهذه الأدوار تختلف من شخص إلى شخص وتعتمد على ما يجيده هو والأشياء التي يجيدها من حوله؛ فيبذل لهم ما يجيد ولا يطالبهم إلا بما يجيدون.
الاستسلام للمشاعر السلبية للغاية واستعادة طقوس وذكريات النجاح، وترميم بنية الذات والعلاقات هي مهام ليست مستحيلة، فقط تحتاج إلى بعض الوعي والعزيمة، والثقة بالله من قبل ومن بعد، ومكافأة النفس على النجاح مهما كان بسيطا وتجاوز الإحباطات.
يا أختي، إن لم تمتدحي أنت نفسك وتدركي نواحي عطائك، وتكفي عن جلد ذاتك، وتعدلي بتوازن في نظرتك لظروفك وتطردي هواجس الفشل الكاذبة من حياتك؛ فلا تنتظري كثير عون من غيرك.
المطلوب منك على الأقل خطوة، ورحلة الألف ميل تبدأ بخطوة، وتابعينا بأخبارك، وأهلا بك دائما.
واقرئي أيضًا:
توكيد الذات، إثبات الذات
الثقة بالنفس واحترام الذات
إعادة بناء الذات