السلام عليكم ورحمة الله
إخواني.. أنا أعيش في مشكلة مع أبي الذي لا يرضى عني أبداً، رغم أني لم أطلب مالاً ولا زواجاً، ولكن طلبت الذهاب للجهاد والشهادة في سبيل الله. إنني أعيش في تعاسة دائمة، والوضع العام في بلدي علماني يحارب الدين والمتدينين ويعيش في البدع والمنكرات، ونشعر - أنا وشباب كثيرون - أننا غرباء في وطننا.
إنني أملك محلاً، ولكنني أصبحت أكره العمل فيه، وذهبت مع جماعة التبليغ والدعوة فرفض ذلك أبي، وتحركت مع جماعة أخرى فرفض أيضاً، وهو يرفض كل صديق أصادقه، ويعيرني أمام إخوتي الصغار بقوله: يا بنت .. يا خنثى.. يا عاق حتى كرهني إخوتي بسبب هذا
ووصل به الأمر أنه منعني من أداء العمرة في رمضان، بعد أن كان قد وافق بالفعل،
ولكنه عاد وتراجع في اللحظات الأخيرة.
22/3/2023
رد المستشار
الأخ العزيز، شكراً على ثقتك بنا، ومصارحتنا بهمومك الشخصية، ونرجو أن نكون عند حسن ظنك.
ما تشكو منه شائع في مجتمعاتنا العربية - بصور مختلفة، ودرجات متفاوتة - منذ أن بدأت "الظاهرة الإسلامية" في البزوغ والتصاعد - نهايات الستينيات، وبدايات السبعينيات، ويتكرر ما تشكو منه أكثر حين تضيق الأحوال السياسية في هذا القطر أو ذاك، وتصادر الحريات العامة، ويعتبر كل عمل سياسي مناهضًا بالضرورة، إنها الأجواء التي تشبه ما كان سائداً في ظل الأنظمة الشمولية التي انهارت الواحد تلو الآخر، وهكذا المستقبل بإذن الله، إذ ليس للاستبداد أو القهر، أو تكميم الأفواه، أو عبادة الأصنام البشرية مستقبل في عالم الغد، أو هكذا نأمل، ونحسن الظن بالله.
المسألة إذن تتجاوز مجرد الصراع بين ابن شاب، وأب متسلط إلى لحظة تاريخية معينة في أماكن معينة ما تلبث أن تتغير معالمها بإذن الله، ولكن عموم البلوى لا ينفي أن نتناول مشكلتك الشخصية بعد أن وضعناها في الإطار العام الأوسع.
يا أخي، اسمح لي أن أوضح لك كلاًّ من موقفك وموقف الوالد: أما عن موقفك فأنت شاب تحب أن تكون لك حياتك واختياراتك الشخصية أخلاقيًّا واجتماعيًّا، وربما سياسيًّا، وهذا حقك، وقد اخترت أن تعيش هذه الحياة، وتحقق هذه الاختيارات استناداً إلى العقيدة التي تؤمن بها، وما ينبثق عنها من مفاهيم، وما تولد عن هذه المفاهيم من تجمعات وحركات، ومرة أخرى، فإن هذا من حقك.. أما والدك فهو يرفض هذا لسبب أو لآخر، أو للأسباب التالية جميعاً:
1 - محاولتك للاستقلال والتميز تصطدم بنزعة الأبوية المسيطرة التي تزداد في مجتمعاتنا لأسباب ليس هنا مجال الاستطراد فيها؛ ولذلك فإن "الاستخفاف" بحق الشاب في الاستقلال، وممارسة حقه في الاختيار هو النزعة السائدة، ومنه التهكم المستمر على اختياراته ومحاولاته التي قد تكون بالفعل غير ناضجة، أو غير مدروسة بشكل كافٍ "بحكم خبرته المتواضعة في الحياة"، والقليل من الآباء والأبناء يستطيعون إدارة هذه المرحلة الحرجة، مرحلة تسليم الزمام، ومقاليد التصرف في الحياة، والصعوبة تتضاعف؛ لأنه لم يحدث تدريب متدرج من الأب لتنمية خبرات ومهارات ابنه في التعامل مع الحياة، كما لم يحدث تدرب من الابن في نفس مجال حسن التعامل والتحايل مع الأب للحصول على ما يريد، وحين تغيب عقلية التفاوض والتحاور فلن يكون هناك بديل سوى العنف الذي يستخدمه الأب في صورة المنع والتسلط والسخرية، ويمارسه الابن في صورة التمرد والرفض، والصدام مع رأي الأب، ولو كان يحمل بعض الوجاهة.
2 - هذا الوضع الذي شرحته توًّا هو موجود في كل زمان ومكان. يزداد الأمر اختلاطاً وصعوبة في مثل حالتك لنصبح أمام شبكة من الخيوط المتداخلة: الابن ساخط على التسلط، ويريد التحرر، وممارسة حقوقه، ومهام عمره ونضجه، والأب يقاوم هذا بكل الوسائل، وفي مواجهة سلطة طاغية بالمعنى الأسري والسياسي يرفع الابن راية الجهاد والاستشهاد، ويرفع الأب في مواجهته راية الخوف على مصلحة الابن، وتأمينه ضد العسف، وقسوة الأجهزة الأمنية وملاحقاتها لكل صاحب رأي مخالف لما تراه.
3 - الآخرون تختلط عليهم المسائل فأحياناً يتعاملون مع المشهد بوصفه خلافاً بين ابن متمرد، وأب عاقل، وأحياناً يرونه قهراً وتسلطًا من أب على ولده، وتبقى الخلفية السياسية للنزاع ماثلة أمام العيون، كامنة في النفوس بوضوح، ولو لم يتحدث عنها أحد، وتدخل أطراف أخرى من جماعات الأصدقاء والجيران كباراً وصغاراً بعضهم يصب الزيت على النار، والآخر يحاول التهدئة دون أن يملك القدرة على التحليل والتبصير والتوضيح، والنتيجة استمرار التشاحن حتى يمل الأب أو ينخلع الابن من مدار التحكم والسيطرة، أو تتحسن الأحوال الأسرية أو السياسية فيصير مسموحاً ما كان بالأمس ممنوعاً.
وأقول لك يا أخي ولأمثالك:
أولاً: ما مفهوم الجهاد؟! وهل صبرك في موطن البلاء، وأعمالك كتاجر أمين، وكإنسان يسعى إلى تثقيف نفسه، وتوعية غيره، وينشر الخلق القويم بالقدوة والعمل الصالح قبل الكلمة والموعظة، ويقيم بيتاً يكون مرفأ للناس المحتاج منهم، وطالب الحكمة، والعلم، والأدب، ويصبح بسلوكه وتعامله مع الناس جميعاً كالنجم يُهتَدَى به في ظلمات ما أسميته بالبدع والمنكرات، هل هذا كله ليس جهاداً؟! إلا أن هذا الجهاد هو الأصعب، ولقد رأيت إخواناً يسهل على أحدهم أن يبذل نفسه له دفعة واحدة في ميادين القتال، بينما يضيق صدره، وتظهر ثغرات نفسه، وعورات أخلاقه حين يكون المطلوب صبراً وثباتاً في مواطن البلاء وهي كثيرة.
يا أخي، لا ينقص أمتنا المزيد من الشهداء بقدر ما ينقصها علماء وحكماء وأدباء يعيدون لها ما انهار من ذاتها الحضارية، ومكانتها بين الأمم، وهذا ما يحتاجه كل قطر في بلدان المسلمين، فلا تجعل مرارة تسلط الوالد، وقلة حكمته في التعامل معك، تعمي عينيك عن إبصار الحقائق المتعلقة بواجب الوقت - المطلوب من المسلم حالياً - إلى هدف جليل بلا شك، ولكنه ليس واجب الوقت في حقك أنت.
ثانياً: من يملك المال يتحكم في القرار، واستقلالك المادي هو مقدمة لازمة لاستقلال قرارك، فهل لديك خطة لهذا الاستقلال المادي؟! وهل لديك خطة للاستقلال الأسري النسبي؟ الذي يحصل بالزواج، والانتقال إلى بيت تكون أنت المسئول فيه ماديًّا ومعنويًّا. أقول هذا لألفت نظرك إلى أن الكثير من غلواء الآباء في معارضة إرادة الأبناء يخف باستقلال الأبناء بتكوين أسرهم الصغيرة؛ لأنهم يرون – ومعهم بعض الحق – أن هذه الأسر ستكون سبيلاً للنضوج الحقيقي، وممارسة أدوار أكثر رشداً في الحياة، فما هي خطتك في ذلك؟!
ثالثاً: في مرحلة التطور الاجتماعي والسياسي لأغلب مجتمعاتنا التي تعاني الاستبداد والقهر، قد يكون الجهد المطلوب في بلدان معينة ليس هو الانضمام لهذا الفريق أو ذاك بمقدار ما هو السعي الجماعي المتواصل لتأسيس قواعد حقيقية وقانونية يحترمها الجميع لممارسة التعددية الثقافية والسياسية وكافة الأنشطة العامة الأخرى، إن إعادة تأسيس قواعد وقوانين اللعبة تبدو أهم من اللعب مع هذا الفريق أو ذاك في هذه المرحلة، وإعادة التأسيس هذه هي ما تسعى إليه بعض المنظمات والجمعيات الناشطة في إحياء المجتمع المدني، ومنها روابط حقوق الإنسان وأمثالها فما هو موقعك من هذه الجهود الهامة؟! التي أعتقد أنها من أهم الجهاد متى صلحت النية.
رابعاً: إن الأوضاع في بلدك، وفي سائر بلداننا تسير إلى التغيير – آجلاً أو عاجلاً – مما سيطرح مجموعة من التحديات تختلف عمَّا تعودنا عليه، ويبدو أننا مصرون على الاستغراق في الماضي والحاضر المرتحل، دون النظر إلى مستقبل أصبحت معالمه أوضح، وتحدياته تحتاج إلى استعداد ووعي يبدو أننا نفتقد إليه جميعاً بدرجات، وأنهي موضحاً أنه لن تكون طبيعة معارك الغد القريب على شاكلة معارك الأمس، والميادين ستكون مختلفة عما ألفناه؛ ولذلك يبدو تحديد مفهوم الجهاد هامًّا في هذه المرحلة، وفهم طبيعة الإمكانات التي يطرحها هذا المستقبل القريب وطبيعة التحديات التي تكتنفه أساسيًّا لنصرة الإسلام، ولتكون كلمة الله هي العليا في عصر مختلف، إنه التحدي المطروح على قوة بحجم وأهمية "حزب الله" في لبنان مثلاً، فهل سننجح في فهم العصر الحالي وجهاده؟!
خامساً: أود أن تبقى على صلة بنا، وأن تخفف من صدامك مع والدك؛ لأن فيه استنفادًا لكثير من الجهد والطاقة فيما لا طائل من ورائه، والزمان كفيل بتجاوزه، وصراعك الحقيقي يا أخي، ليس مع الوالد - رغم أنه يبدو كذلك - ولكن مع وقتٍ "هو حياتك" ينبغي أن تتعلم فيه أشياء كثيرة، وتستعد لما بدأ بالفعل من تحولات جذرية في مسار الحياة محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا. وشكراً لك.