أنا فتاة عمري 19 عاما، مشكلتي مع والدي، أنا أحبه كثيرا ولكني أخجل منه كثيرا، ربما لأنه بطبيعته يحب الوحدة؛ فتعودت منذ صغري أن أكون فقط مع أمي، عندما أقول لأمي بأن أبي لا يحبني وأنه لا يقربني منه تجيبني بالنفي.
إن علاقتي بوالدي رسمية، أذهب إليه عند الحاجة فقط، وهذا الشيء يزعجني كثيرا، ولكني لا أجد حلا لهذه المشكلة؛ لأني حاولت كثيرا التقرب منه ولكني عندما أصل إليه أتردد، صدقوني حاولت كثيرا دون جدوى، هل هو المخطئ أم أنا؟ وما الحل؟
رجاء ساعدوني، علما أن جميع إخوتي علاقتهم به أفضل مني،
شكرا لكم.
23/2/2023
رد المستشار
الأخت الكريمة، إذا كانت شخصية والدك كما تصفينها من حيث حبه للوحدة، وميله بالتالي إلى العزلة، فإن العبء الأكبر يكون على الطرف الذي يريد أن يقترب منه، ويقيم معه علاقة حميمة. والحقيقة أن لكل واحد فينا "قوقعته" أو أسبابه للابتعاد عن الناس وإيثار الوحدة والعزلة، كما أن لدى البعض دوافع أكبر للتواصل الاجتماعي.
وسواء كان الخجل الاجتماعي هو السبب، أو الخوف من صد الأطراف الأخرى أو عدم تجاوبهم، أو الشعور المبالغ فيه بالاغتراب أو الاختلاف عن الآخرين، فإن النتيجة واحدة في حالته وأيضا في حالتك؛ لأنك فيما يبدو تخجلين منه وتتركينه في وحدته، ولذلك سيبقى الوضع على ما هو عليه حتى يبادر أحدكما بشكر هذا المشهد، ولا أظنه سيفعل!
وما تشتكين منه هو حالة إنسانية متكررة في حياتنا الأسرية، بل والزوجية، فيكون لدينا غالبا طرفان غير قادرين على التواصل مع بعضهما، ولكلٍّ أسبابه وظروفه، وأحسب أن هذه المسألة تحتاج إلى تدريب متدرج على فنون "إظهار" الاهتمام بشخص ما، وقد يختلف الأمر في بعض التفاصيل والمحتويات والتعبيرات إذا كان هذا الشخص زوجا أو أبا أو أخا، لكن الخطوط العامة تبقى واحدة، وأذكر منها هنا:
1- حسن الاستقبال والوداع: وهذا من يجهله الكثير من الناس، ولا يحتاج سوى للحفاوة الواضحة حين يظهر الشخص المستهدف أو تقدمين أنت عليه، والمطلوب هنا ترديد ألفاظ وعبارات الترحيب، والشوق وذم الغياب، ولقد تعودت ابنتي الكبرى بتلقائية -ودون أن يدرسها أحد- أن تحتضنني حين تراني، وتقول لي: "وحشتني"، فإذا كانت الأحضان صعبة عليكما فليس أقل من كلمة: وحشتني أو افتقدتك... إلخ.
2- المسارعة في تلبية الحاجات: إذا طلب والدك منك شيئا، أو احتاج لشيء ولم يطلب صراحة، فإن مسارعتك في إجابة طلبه أو تلبية وتوفير حاجته تعطي دلالة واضحة على اهتمامك به، وحبك له، ومن الأخطاء الشائعة للمحبين أن يتلكأ المحب في إجابة طلب محبوبه أو يغفل عنه أو ينساه! ثم يعود ليؤكد في تناقض ظاهر أنه يحبه ويحرص على رضاه!
3- حسن الإنصات والانتباه: إذا تكلم والدك فكوني أكثر أهل البيت انتباها لما يقول، وإذا تحدث إليك فأظهري ما يدل على أن كلك آذان مصغية ولا تستمعي إليه وأنت منشغلة بشيء آخر، أو تنظري في جهة أخرى.. إلخ. وإذا كان والدك صموتا فإنه يحتاج إلى إغراءات ليتكلم ويتواصل، ومن أهم الإغراءات الإنصات لما يقول، والتفاعل معه، والاحتفاء بكلماته، وكثرة مدحك له، وكلنا نحب المديح.
4- المشاركة في رعاية الاهتمامات والهوايات: يحب كل إنسان أن يتكلم عن اهتماماته وهواياته، وأول الاهتمامات الإنسانية: الاهتمام بالذات، ولذلك فإن الإنسان يحب أن يتكلم عن ذاته، أو على الأقل يحب من يحدثه عن نفسه، وكذلك فإن الإنسان يحب من يكلمه عن هواياته، وتكون الفرصة أمامه أكبر ليتحدث في هذه المساحة، ويصول ويجول، فهل تعرفين اهتمامات والدك؟ وهل جربت أن تبادريه بالحديث عن نفسه أو عن تلك الاهتمامات في ساعة صفاء، ووقت ملائم؟!
5- التطابق مع النموذج المطلوب: إذا كان والدك يريدك متفوقة أكثر فتفوقي أكثر، وإذا كان يريدك ملتزمة أكثر بالدين وتعاليمه فكوني كذلك، وإذا كان يحب أن يرى منك مساعدة أكثر لوالدتك في البيت أو على علاقة أفضل مع إخوتك فكوني كما يحب، واجعليه دائما يراك حيث يريدك، ويفتقدك حيث يكره منك؛ لأن الطاعة -في المعروف- من أهم علامات الحب، واجتناب النهي أدوم لحفظ الود.
6- إظهار الحنان والتجاوب: وأعني به التوافق في حالته المزاجية بل والبدنية أحيانا، وأنك قادرة بحساسية وذكاء أن تعرفي أنه متعب، أو قلق، أو سعيد... إلخ، وسيكون عليك أن تشاركيه وجدانيا في حالته هذه، فتظهري فرحك لفرحه، وإشفاقك عليه وهو متعب أو مهموم، ويكفي مبدئيا عبارة مناسبة بسيطة، مثل: "تبدو مرهقا يا أبي"، أو "أدام الله عليك الرضا والسرور" ... وهكذا فإن الحديث عن الحالة النفسية المزاجية يعد مدخلا رائعا لفتح حوار حميم.
ابنتي الكريمة:
هذه بعض نقاط مبدئية ستحتاج منك إلى جهد في البداية لتغالبي خجلك وتبادري بالاتصال والتواصل، وأجزم أنك لو استطعت القيام بها فإن النتائج ستكون مبهرة في خلال أشهر، وتذكري أن الحب وتأثيره في القلوب لا يصل إلا بالطرْق عليها، وبحسب قوة المطرقة، في مقابل قوة الصخرة/ القلب يمكن حساب الزمان الذي يستغرقه التأثير حتى تظهر نتائجه.
وأرجو أن تبدأ خطتك فورا وبالتدريج، وألا تيأسي إذا وجدت في نفسك بعض الضعف، أو وجدت منه بعض الصد لفترة، ولا تقولي طرقت كثيرا على صخرة قلبه، ولم ينفتح؛ لأن من مفارقات النفس البشرية ومن عجائب الخبرات الإنسانية أن العديد من الناس يستبد بهم اليأس ويقررون التوقف عن المحاولة رغم أن بينهم وبين تحقيق أهدافهم "طرقة واحدة فقط".