تحية طيبة وبعد..
المشكلة تكمن في أني نشأت في عائلة نصرانية وأعلنت إسلامي وأنا في الخامسة عشرة من عمري. أتممت دراستي الجامعية وأعمل في شركة، علاقتي بأهلي طيبة والحمد لله، ولكن فكرة إعلان الإسلام تدمرهم ولا يكادون يتقبلونها، جميع إخوتي وأخواتي الثمانية متزوجون، وأنا أعيش حاليا مع أبي وأمي المريضين في معظم أيامهما، كلما تكلمت عن فكرة الإعلان يكادون يفقدون صوابهم، والسبب هو الناس -كما يقولون- وماذا سيقولون عنا.
أخواتي مهددات من أزواجهن بتركهن إذا ما علم الناس بأمري، أصارع نفسي كي أكون مسلمة، كما أريد أن أرتدي الحجاب، وأن أتعبد كما أريد. عموما أنا أصلي وأصوم وأقرأ القرآن، ولكن هذا لا يكفي طموحي، طرحت فكرة الزواج من مسلم أكثر من مرة، ولكن بلا جدوى، لا أتقبل أبدا فكرة تركهم دون موافقتهم حتى ولو كان من أجل السفر للخارج؛ فهي مؤذية بالنسبة لجميع أفراد العائلة.
أصارع نفسي الشقية، وأقنعها بتركهم، ولكن لا أستطيع. الحل الوحيد بالنسبة لهم هو أن أتزوج من نصراني كان قد أسلم، ولم يعلن إسلامه بعد حتى يتقدم لي ويخطبني أمام الناس. المشكلة التي أتعرض لها هي الناس، من شدة مشاكلي والضغط النفسي الذي أعيشه بدأت أتعب صحيا، فبدأت أشكو من آلام في الصدر والمعدة والقولون، وكلما ذهبت إلى طبيب كان الجواب لا يوجد شيء عضوي، لا أستطيع اتخاذ قرار في هذا الموضوع، فأنا لا أستطيع التخلي عن أهلي ولا التساهل في أمر ديني.
أفيدوني جزاكم الله خيرا،
فأنا لي قلب قد نال منه الزمان، وعيون شردتها الأحزان، وعقل تائه مع الأشجان.
2/3/2023
رد المستشار
الأخت الكريمة، الآن أرد عليك كتابة، وأنا أتحدث معك طوال شهر في خيالي ومع نفسي في خلوتي ووسط الناس، وآه من الناس يا أختي؛ فهم مشكلتك الحقيقية كما تدركين وتقولين، وصدقت.
إن محنتك لا تكمن في إسلامك وتداعياته، رغم أنها قد تبدو كذلك. المشكلة الأهم أن نكون أعضاء في الحزب المسؤول عن كثير من تخلفنا وضياعنا، الحزب السري الموجود في بلادنا العربية بل ويلاحقنا حتى في الغربة، الحزب الذي دمر نفوسنا، وشوه شخصيتنا، ووسع من المسافة بين ظاهرنا وباطننا، بين أقوالنا وتصرفاتنا؛ فأصبحنا إمعاتٍ؛ فنحن إلى المهرجين أقرب منا إلى البشر الأحرار المسؤولين.
والإسلام حارب هذا الحزب الخفي من أول يوم؛ فالإنسان مسؤول أمام الله مباشرة بلا كاهن ولا واسطة (وكلهم آتيه يوم القيامة فردا)، وقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "لا يكن أحدكم إمعة؛ يقول: إذا أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت، ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم". وبذلك يخرج الناس المحترمون والمؤمنون من هذا تماما؛ فيعرفون الحق ويلتزمون به بغض النظر عن موقف الناس، رضوا أو سخطوا. في حالتنا فإن الانتماء إلى الحزب، واعتبار "كلام الناس" هو المعيار الأهم المحدد للحركة، والفعل... أو في حالة بعض الغربيين فإن مجرد مخالفة كلام الناس على طريقة "خالف تعرف" تبدو محددا هاما للسلوك الشاذ اجتماعيا أو جنسيا، ويكون هذا عندهم تعبيرا عن ممارسة الحرية الشخصية، والوضع في الإسلام مختلف عن هذا وذاك.
لدقائق دعينا من كلام الناس، وتعالي لنتأمل حقيقة ما حدث ويحدث معك؛ ليظهر أن حقيقة الأمور أبسط بكثير مما هي عليه في إدراكك وإدراك أهلك؛ نحن نعيش في منطقة المشرق العربي؛ حيث المسلمون والنصارى معا منذ مئات السنين. وفي مصر مثلا جاء الفتح الإسلامي ليدخل مصر، ويقرر أغلبية أهلها أن يتحولوا إلى هذا الدين الذي يرونه استمرارا -وربما تطويرا- لما يؤمنون به من معتقدات القبطية المصرية، فأصبحنا إزاء أغلبية مع الجديد وأقلية مع التمسك بالقديم، وهو اختيار اجتماعي معروف في أزمنة وأمكنة أخرى مختلفة بين القديم والجديد. وبسبب هذه التركيبة المنسجمة تاريخيا عاش المسلمون في مصر والأقباط، وكذلك النصارى في الشام أبناء وطن واحد يسلمون لله سبحانه، كل على طريقته التي اختارها، ويتعاملون مع الانتقال من المسيحية إلى الإسلام غالبا، وأحيانا العكس بوصفه انتقالا من غرفة إلى غرفة في البيت الكبير الذي هو هنا الأديان الثلاثة التي تسود في المنطقة. ولكن المستجدات المتوالية وأكثرها من جهل أبناء كل دين بدينهم وتاريخ أوطانهم وبعضها من اصطياد الأعداء في هذا الماء العكر، والجهل والغموض هما أفضل بيئة عكرة لعمل شياطين الإنس والجن، فأصبح الانتقال من دين إلى دين جريمة بشعة رغم أن أصله الشرعي عندنا في الإسلام متاح ومطلق دون أية قيود (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) وأصله التاريخي عند النصارى متواتر ومعروف في تجربة مصر والشام وغيرها... فلماذا كل هذا التوتر؟!
ولعلك تعرفين أن هناك عائلات كبيرة في الشام وما حولها تعتنق فروعا منها الإسلام، بينما بقيت فروع أخرى من نفس العائلة على نصرانيتها. ولم يكن هذا أبدا مدعاة للتناحر أو قطع الأرحام أو الأواصر العائلية التي تأمر برعايتها كل الأديان السماوية، بل والمذاهب الأرضية التي تريد أن تنجح وتستمر؛ لأن الإنسان كائن فطَرَه الله على الاجتماع بغيره، والانتساب إلى أسرة وقوم وعائلة، وكما نؤمن فإن الإسلام هو دين من عند الله، بل هو عند الله الدين (إن الدين عند الله الإسلام) والشرائع الثلاث "المتفقة في أصولها" هي صور مختلفة لطبعات متوالية من الدين في مسيرته بين الله والإنسان عبر الزمان والمكان –إن صح التعبير-. ولا يعني كلامي هذا المساواة بين إيمان وكفر، أو الخلط بين الإسلام وغيره كمثل القائلين بوحدة الأديان أو تحييد العقائد لصالح أخوة إنسانية تقوم على منح الهويات والاختيارات الدينية أو العقائدية المختلفة، إنما ينصب كلامي على توصيف تجربة تاريخية عاشتها منطقتنا بالفعل ثم تغير المشهد بفعل عوامل كثيرة.
وطالما كان الإسلام كذلك –على النحو الذي وصفته- فلا يمكن أن يأمر بمخالفة فطرة الإنسان، والتركيب الذي خلقه الله عليه، وما كان ليقطع الأرحام وهو يأمر برعايتها وينسبها إلى الله مباشرة، ويعاقب على عقوق الوالدين، بل يعجل العقوبة عليه في الدنيا قبل الآخرة. فإذا كان الدين اختيارا محضا فتحه الله سبحانه على مصراعيه أمام البشر، وعرفه التاريخ في منطقتنا دون حساسية تذكر.. فأين مشكلتك إذن؟! أعود وأقول معك ولك: المشكلة في "كلام الناس"!! أهلك يخافون أن يقول الناس: إنك أصبت بالجنون، أو إنهم لم ينجحوا في تربيتك، وقد يتسامح الناس الذين حولك معك إذا اخترت تسريحة شعر شاذة، أو مظهرا غير مألوف أو عريسا لا يقبلونه؛ لأنهم يعدون هذه ممارسات لحريتك الشخصية في الاختيار، ولكن الدين ليس مساحة اختيار في عرف أغلب الناس عندنا!! والمشكلة عند المسلمين والنصارى سواء، وكأننا نسينا أن حرية العقيدة مكفولة، وكأن ذاكرتنا التاريخية قد انطمست؛ فنسينا أن أجدادنا في المشرق والمغرب أو نسبة كبيرة منهم هم أصلا نصارى متحولون إلى الإسلام!! فهل معايير الناس الخرقاء هكذا تستحق الرعاية أوالحرص؟!
أختي لست وحدك المريضة فقط ببطنك وصدرك وأوضاع نفسك، وليس والدك ووالدتك مريضين وحدهما بأمراض الشيخوخة وحسرتهما وخوفهما عليك، ولكننا جميعا مرضى بهذا الوهم أو العصاب المسمى: "كلام الناس" إلا من رحم ربك وقليل ما هم، وآن لنا أن نتعالج، وإلا فسنظل في الألم والتخلف والتناقض والصراع الداخلي والاجتماعي، إلا أن نعود أوفياء لديننا وحضارتنا وتاريخنا. وتخفيفا عنك أروي لك جانبا من تجربتي مع كلام الناس لعلها تفيدك، ولعلك تعرفين أن دخولك في الإسلام ليس نهاية المطاف، وأن إعلانك لهذا بمشيئة الله لن يكون أبدا خاتمة لهذا الاختيار بين الحق وكلام الناس: "بعد فترة من اهتمامي بالالتزام الديني، وكان ذلك أثناء بدايات الدراسة الجامعية" وجدت نفسي مندرجا في النشاط الطلابي وسط مجموعات مختلفة من الطلاب، وتطابقت رؤيتي أو بعض أهدافي مع مجموعة الإسلاميين المعتدلين نسبيا، كما تطابقت أهداف أخرى -وربما نفس الأهداف أحيانا- مع مجموعة من المحسوبين على اليسار. وحين جاءت الانتخابات الطلابية نزل اسمي على اللائحتين معا: "الإسلامية" والأخرى، مما سبب ارتباكا للبعض، واعتبره آخرون بمثابة خدعة لهؤلاء أو أولئك. ويعلم الله أنه لم يكن كذلك أبدا، ولكنه كان تعبيرا عن اختيارات توافق ما اهتم به الفريقان. وبعد سنوات من النشاط الطلابي تخرجت واخترت أن أهتم بالأنشطة الاجتماعية والثقافية والفنية في رحلة استكشافية طويلة لأعرف من نحن؟! وماذا يمكن أن يكون شكل مستقبلنا في ضوء ماضينا وحاضرنا!! وتدريجيا لم تعد تلفت اهتمامي نظرات الدهشة أو ملاحظات التعبير عن البلبلة عند البعض حين يرونني في مواقف أو أماكن صار المعتاد أنها أصبحت حكرا على جمهور بعينه، وانسحب منها أصحاب الاهتمام الديني؛ ربما تجنبا لكلام الناس، وربما لأنهم يعتقدون أنها لا تليق بملتزم.
وكم حضرت من ندوات أو عروض سينمائية أو موسيقية، ثم يأتي وقت الصلاة فأقوم لها، ويندهش الناس وأحيانا يغمزون ويلمزون، أو يتهكمون... إلخ، ولكن بالتدريج تغير موقفهم، وتغيرت الأحوال.. أما عن موقفهم فقد فهموا بعد طول صبر أنني "حالة طبيعية"، وإن كانت نادرة أو خاصة، وعادوا بأذهانهم إلى الأصل، وهو أن أغلب أشكال التعبير الفني مثلا ليست حراما في ذاتها، ولكن بحسب محتواها، وأن الحلال الممكن في هذه الميادين أضعاف أضعاف الحرام، وأن هذا وذاك متاح لمن يريد. وتغيرت الأحوال؛ لأنني وجدت أنني لا أهتم بالصلاة وحدي، فكثيرا ما أصلي جماعة مع آخرين لا يرون تناقضا بين مشاهدة فيلم أو سماع مطرب محترم أو زيارة معرض فني... إلخ من ناحية، والصلاة أو صوم رمضان... إلخ من ناحية أخرى، ولكن هذا وذاك جاء بعد وقت وجهد أيضا في بعض الجوانب، والهدف من هذا وذاك تقليل الاهتمام بكلام الناس الذي لا يقدم ولا يؤخر كما يقول "وسوف" ولا وزن له إلا عند الإمعات الذين هم نحن جميعا إلا ما رحم ربك. والآن يا فاضلة.. ماذا عليك أن تفعلي بعد أن عرفت الداء الأصلي، ومنفذ الشرور الأساسي؟!
أقترح عليك أن تستعدي لعاصفة عاتية من الرفض و"الكلام"، وربما بعض الحرب النفسية والمعنوية، ولكن ما الحيلة، ونحن مع الناس أحيانا كما قال القرآن: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ)، وأن تخبري أهلك جميعا بأنك ستعلنين إسلامك، وذلك بأن تعلنيه فعلا، وسيكون الهجوم في بدايته أشد شيء، ثم سيجد الوالدان أنك نعمت الابنة برا وصلة، وحسن خدمة وتعاونا، وسيجد الآخرون من أهلك أنك أصبحت أهدأ وألطف، وأكثر اهتماما بشئونهم، وأشد حرصا على السؤال عن أحوالهم، ولا تكوني ساذجة في شأن بعض التهديدات. فلن تنهار الدنيا، ولن يترك زوج زوجته -إذا كان يحبها ويحرص عليها- بسبب أن أختها غيَّرت دينها. وقولي للجاهلين بدينهم وتاريخهم أن يتعلموه؛ فهذا خير لهم من الاستمرار بالجهل وليس في الأمر صراع مع نفسك ولا مع من حولك، ولكنها عاصفة ما تلبث أن تهدأ إذا صمدت وتحليت بالشجاعة والثبات وحسن الخلق. وستجدين في الأجيال الشابة في عائلتك تأييدا أكبر بحكم المرونة العقلية، والانحياز للحرية، وهو عادة ما تتحلى به الأجيال الأصغر فلا تخسريهم، ولا بأس أن تبدئي بدعوتهم إلى حفل خاص يقتصر على الشباب فقط -دون الخامسة والثلاثين- وتخبريهم بإسلامك، وبأنك تتوقعين دعمهم لحريتك الشخصية في الاختيار، كما تدعمين ويدعمون أي ممارسة لهذه الحرية.
ولست محتاجة إلى ترك والديك أبدا إلا إذا طردوك وأظنهم لن يفعلوا، ولست مضطرة إلى التساهل في أمر دينك بعد اليوم، وأحسب أن زواجك سيكون أسهل حين تحددين موقفك علانية، وحين تكون معركتك واضحة بين الحرية أعلى نعم الله على الإنسان مهما كان دينه، والعبودية لكلام الناس، بين الحق ومعاييره ومنه الحق في العقيدة والعبادة، وبين النفاق حتى لا يقول الناس أو تعرضون!! غادري وقاطعي وحاربي حزب "كلام الناس" حتى نلتقي سويا مع الملايين القليلة التي انحازت لما تعرف أنه الحق، وما تحسب أن ظاهره وباطنه وقوله وفعله سواء.. وسلامي لوالديك شفاهما الله وعافاهما.
ويتبع >>>>>: العفة المستحيلة.. قصة نجاح لله مشاركة