بين الأمس واليوم: المولوعون بأمريكا
سيدي الفاضل د. أحمد عبد الله
قبل كل شيء أحب أن أشكرك على إعطائي فرصة نشر مشاركتي، وأشكرك على إتاحة الفرصة لي للتفاعل الإيجابي معك؛ فأنت لا تتخيل هذا السؤال: لماذا توقفت الحضارة الإسلامية عن النمو والازدهار؟ الذي طرحته في المشاركة السابقة: المولعون بأمريكا: حضارة قوة أم أمة؟.. مشاركة .. ماذا يمثل بالنسبة لي؛ فهذا السؤال هو الصداع الذي يصيبني باستمرار إذا فكرت في واقعنا ومدى الشقاق الذي نحن فيه، وأحب أن أبدي ملاحظتي على تعليقكم على المشاركة؛ فقبل كل شيء اسمح لي بترك العنان لأفكاري، وكان الله في عونك وأعانك على قراءة الرسالة.
- تقول بأن الدولة الإسلامية قصيرة العمر في القوة؛ فهذا جعلني أسأل نفسي: ما هو معيار القوة؟ هل هو جيش قوي أم هو التقدم العلمي والحضاري فقط بصرف النظر عن قوة فعلية قادرة على حماية الأمة والدين الإسلامي من أعدائه الذين نعرفهم دون أي شك؟
أنا من وجهة نظري أرى أن الارتباط قوي جدا بين الجيش القوي والعلوم والفنون؛ فالقوة هي القادرة على خلق استقرار يؤدي بنا في النهاية إلى تقدم علمي وازدهار حضاري. والدليل على ذلك هو النموذج الأموي والعباسي، ورغم ما شهده هذان العصران من انشقاقات وتفرقات فإننا نجد أن الحضارة الإسلامية قد وصلت من التقدم والانتشار ما لم يحدث في القرون السابقة والتالية؛ لأن الإسلام كان ذا سيف قوي ليس بطائش؛ لأنه سيف العدل والرحمة وسيف قوي يضرب على الأعداء.
لقد تذكرت ما قرأته ذات مرة عن استغراب الغرب من سرعة انتشار الإسلام بهذا الشكل، وإن كنت من وجهة نظري أرى أن الانتشار الديني أسهل نسبيا من الانتشار اللغوي؛ حيث إن الأمة يمكن أن تغير دينها، ولكن من الصعب أن تغير لغتها؛ فهذه هي المعجزة التي حققها الإسلام بوحدة الدين واللغة العربية.
- تقول حضرتك: إن من قبيل التبسيط أن نعتقد أن الحل يكمن أو يمكن اختصاره في تغيير الأنظمة المتسلطة على رقابنا، ولكن هذا التغيير يبدو مهما كشرط من شروط النهضة، وخطوة من خطواتها، وربما يحدث كنتيجة طبيعية أو تلقائية لتغيير الواقع الذي تستند إليه هذه الأنظمة، وتستقر فوقه من هشاشة التركيب الذهني والاجتماعي، وشيوع المظالم وأنواع التخلف الثقافي والنفسي، وسيطرة عقلية مضطربة مشوشة على تعاملنا مع شئون ديننا ودنيانا.
وأنا أقول: نعم إن تغير الأنظمة التي نحن بصددها شيء مهم جدا جدا جدا.. بل هو عامل السحر الذي قد ينهي الكثير مما نحن فيها؛ فأنا بصراحة أقول بأن ما نحن فيه هو بسبب الحكام ذوي العقلية الفاسدة التي نحن بصددها، اسمح لي أن أقول: كيف أن جيل سنة 1948 يحكم الآن عصر 2023؟!.. كيف؟ هل هذه العقلية قادرة على انتشال الأمة مما هي فيه؟ فنحن في حاجة ماسة بشدة إلى تغيير دماء هذا الوطن وإن كنت أحيانا والله أقول: أي تغيير وأي خلاص؟
المهم تغيير.. تغيير للأسوأ للأحسن.. تغيير يفشل ثم ينجح.. ولم لا؟ أنا دائما أقول: هذا الجيل جيل ضعيف جدا، وأقول بأن أي حاكم استطاع البقاء في منصبه كل هذه السنين دون أي تحرك فعلي للإتاحة به فهو بحق والله حاكم مستبد ناجح جدا، أقصد قد نجح في الاستبداد، هل نحن لم نصل إلى جيل ثورة 23 يوليو؟ هؤلاء الشباب الذين غيروا الحكم، هل نحن أضعف منهم أم أن النظام آنذاك أضعف من النظام الآن؟ لقد نسيت أن أقول بأنه هو الحاكم الآن!!
- أما بالنسبة لموضوع النقل والاقتباس فأنا لست من المعارضين له؛ لأنه -كما قلت- الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها، وهي هدفه ومقصده من أي وعاء خرجت، ولكن أي وعاء تقصد؟ لا بد أن نعالج هذا النقل والاقتباس في ضوء من الأنظمة الإسلامية والشرعية، أقصد أن نضعه في نطاق إسلامي؛ فأنا أرفض أي تقليد أو اقتباس جامد يكون بعيدًا عن روح الشريعة الغراء، فكم نحن في حاجة إليها.
فلقد تذكرت محمد علي باشا فأنا بحق أقدر هذا الرجل وأعتبره من الشخصيات التي قلما يجود بها الزمان علينا، ولكن مع احترامي له دون تمجيد للماضي والكلام عن الماضي المضيء، فإنني آخذ عليه أمرا نابعا من مجال دراستي القانونية؛ حيث قام بنقل القوانين الفرنسية إلى مصر في سنة 1875م تحت اسم القوانين المختلطة، وتتضمن المدني والتجاري والجنائي وقانون الإجراءات الجنائية والقانون البحري؛ فكلها قوانين منقولة عن القوانين الفرنسية قام بوضعها محام فرنسي كان يقيم في مصر اسمه مانوري.
سألت نفسي: لماذا لم يحاول محمد علي أن يضع تلك القوانين في إطار إسلامي يتفق وديننا الحنيف؟ فإذا كان الإسلام خاليا من هذا فإن الإسلام أعطى لنا من الاجتهاد والقياس والفقه ما يساعدنا على تدبر أمور حياتنا؛ حيث إن الشريعة الإسلامية ليست جامدة بل إنها مرنة لا تتعامل بجمود مع حياتنا، والإسلام دين يسر ورحمة، كيف يوسع علينا الله ونضيق على أنفسنا؟! هذا هو التقليد والاقتباس الذي أرفضه وبشدة ولن أقبله.
إلا أنه سبحان الله حدث ما تكلمت عنه في عصر إسماعيل؛ حيث طلب من علماء الأزهر الشريف وضع مجموعة تشريعية تقتبس من المذاهب الإسلامية المختلقة (اسمح لي أن أسألك سؤالا بلغتي الخيالية التي أحاورك بها بأنك تقف أمامي أسالك وتسألني): لماذا توقف مشروع الخديوي إسماعيل؟ تعرف لماذا؟! للأسف الشديد بسبب علماء الأزهر أنفسهم، بسبب التعصب المذهبي الأعمى الذي لا يرى إلا وجهة نظره الصحيحة المؤمن بها والتي لا تقبل النقاش.
أخيرًا آسف للإطالة لكنها أفكاري وما يدور بخاطري من وضع حالنا، وكان الله في عونك في هذا المشاركة التي قد تكون سببا في حذفها؛ فأنت مكلف قبل الرد بتجميع أوصالها، كان الله في عونك وأعانك على الدنيا وعلى مشاركات القراء.
أحب أن أقول ما قاله موسى "يضيق صدري ولا ينطق لساني". والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وسوف أتكلم عن هذا الموضوع في مرة قادمة إن شاء الله إذا سمح الوقت.
26/8/2023
رد المستشار
الأخ الكريم أنتهز الفرصة لأقول لك بأن هزيمة يونيو 1967 ينبغي أن تكون حدثا ملهما أكثر من كونها تاريخا مؤلما، وإن أمة عجزت أن تتعلم من هزائمها لا أظنها قادرة على تجاوز واقعها البائس.. فهل سمعت أحدا يذكر يونيو 67 بلغة الدرس والاستفادة من التاريخ لا معاداته أو إنكاره أو تزييفه أو تجاهله وتناسيه؟!!
لا يستبد الحاكم يا أخي ولا يستقر له الأمر إلا إذا رأى الأعناق طائعة له، والقامات تتسابق في الانحناء لحضرته، وحملة المباخر من الكذبة والمنافقين وأصحاب المناصب والمصالح يتسابقون في نيل رضاه، ولو على حساب أي قيمة أو حقيقة.. فهل تستطيع التقليل من دور هذه البطانة الدائمة للنظام في عزل الحاكم عن الواقع، وإعانته على كل شر، وحجبه عن كل خير- إذا حدثته نفسه؟
وهل تستطيع التقليل من مساهمة المظلومين الساكتين على إهدار إنسانيتهم وحقوقهم وكرامتهم، ومن يرضون بالدنية والخسف خوفا أو طمعا، ولو في مجرد السلامة المادية، رغم أنهم في أغلب الأحيان لا يملكون ما يخسرونه إذا ثاروا إلا الأغلال كما كان ماركس يقول محرضا للمستضعفين المهانين؟
يا أخي، الظلم معادلة تشترك فيها أطراف عدة، ولكل هؤلاء نصيب في إقامة صرح الظلم والتأخر والانهيار الحضاري والسياسي والاقتصادي، ولا ينقص وزر أحدهم من وزر الآخر، ومن الرجولة أن يتحمل كل طرف مسؤولياته بدلا من الاكتفاء بلوم الآخرين.
تسأل عن معايير القوة، وأنا أجيبك عن أنواعها أولا، فهناك القوة بالمعنى "اللين" للكلمة، ومنها قوة الاقتصاد والمجتمع، والثقافة والإعلام، الدبلوماسية والأفكار... إلخ.
وهناك القوة بالمعنى "الصلب" وهي القوة الحربية الهجومية والدفاعية من جيش قوي، وسلاح فعال... إلخ.
والحقيقة أن الأمة التي تطمح إلى النهضة لا بد أن تسعى لتأمين نفسها في المجالين، والمدهش أن البعض يبدد جهده في المفاضلة بين هذه وتلك، أو طرح أسئلة من قبيل: أيهما أفضل، وأنفع وأكثر فاعلية؟ وهو سؤال مضلل؛ لأن لكل نوع من أنواع القوة استخدامه ووقته ومتطلباته، وتختلف معايير القوة من عصر إلى عصر، ومن موقع إلى موقع، ومن ظرف إلى ظرف.
وفي حالتنا نحن المواطنين الذين لا يملكون بندقية أو مدفعا ولا صاروخا؛ فإن السؤال الأصوب يصبح هو: هل الجهاد الذي يستطيعه أمثالنا ويمكننا التأثير الإيجابي من خلاله هو أن يسعى كل واحد إلى امتلاك سلاح والتدرب على القتال به لمواجهة أعداء الأمة؟!
وهل "أعداء الأمة" هم من تحددهم الأمة مثلا وتتحرك ضدهم، أم هم الخصوم السياسيون الذين قد يرى خصومهم أنهم أعداء للأمة؟! وهل أعداء الأمة هم الصهاينة والأمريكان فقط أم من يواليهم في الداخل أيضا؟! وهل الموالاة المقصودة هي الموالاة المادية أم الثقافية والفكرية أيضا؟!
سلسلة من الأسئلة ينبغي على من يتصدي لخيار استخدام القوة والسيف "القوة الصلبة" في التغيير الداخلي أن يجيب عليها، وفي غمار التشويش والاختلاف حول الإجابات يقع ما نعيشه من أحداث، ويحتدم ما نشاهده ونسمعه من جدل حول مفهوم الجهاد.
وأنا أرى أن دور المواطن الأعزل هو "الجهاد المدني" للتغيير الداخلي، والنضال ضد الأعداء مهما كانوا، أما حمل السلاح فيستقل بتقديره ويتحمل مسؤوليته من يعرف كيف سيحصل عليه، وكيف سيستخدمه ليحقق من المكاسب ما لا يتحقق بسواه، وتزول به المفاسد التي لا تزول بدونه، وأحسب أنها معادلة دقيقة تحتاج إلى حكمة وعمق ومهارة وحنكة، وتأسيس وتأصيل واع، وأرى أغلب القائلين بالسلاح والمتعطشين لحمله مفتقدين لأولويات وبديهيات الكفاح المسلح؛ لذلك فإنه تاريخيا قد أدى إلى غير النوايا الطيبة التي بدأ بها، والأمثلة في أفغانستان وغيرها تحتاج إلى مراجعة وتقييم.
وفي حالة الدولة الوطنية التي تريد أن تعيش بكرامة؛ فإن إعداد القوة بأنواعها من صميم واجب الدولة بأجهزتها، وتخضع بنود الأولويات لمقتضى الحال، والظروف السياسية والاقتصادية، والتوازنات الإقليمية؛ بما يعني أحيانا تقديم نوع على نوع، أو التركيز في مجال بعينه بإيقاع أعلى وأسرع... وهكذا.
والحاصل أن جيوش أقطارنا لا تتساءل عن استخدام القوة أو حماية الوطن أو الدين أو غير ذلك من هذا الكلام الجميل؛ لأن مهمتها المحددة هي حماية الأنظمة من شعوبها أو حماية هذا القطر أو ذاك من دول الجوار العربي!! فعن أي جيوش تتحدث؟!!
أحسب أن المطلوب هنا وحاليا أن نستعيد الإنسان فينا بمعناه الأعمق والأشمل؛ فيستعيد كل منا وعيه بنفسه وبالعالم من حوله، وبالدين الذي يحمله، وبالدور المنوط به بناء على هذا وذاك، ومطلوب أن يندرج الناس في حركة الفعل الإيجابي بدرجاته البسيطة والمركبة، فيتعلم الإنسان كيف يفكر ويفعل الخير لإصلاح نفسه، ولن يحدث هذا إلا إذا تلقى تدريبا على أن يحترم نفسه، وعلى أن يحترمه الآخرون ويحترمهم منذ الصغر، وعلى أن يحترم الإنجازات البسيطة، وأن يحتفي بالمعرفة الصحيحة، ويحارب في نفسه ومحيطه الأفكار الباطلة والخرافات الشائعة... وهي كثيرة، المطلوب أن نتربى على المسؤولية والفعل؛ فنسأل: كيف نفعل في هذا الأمر أو ذاك؟! ما هو الدور أو الأدوار المتاحة والممكنة بدلا من لوم الآخرين وسب الزمان وتقصير المثقفين أو استبداد الحكام... أو غير ذلك.
إن "الاستقرار" الذي يحظى به التخلف بأنواعه إنما هو نتيجة للفراغ الهائل الناشئ عن الغياب المزمن للناس عن كل مساحات الفعل بل والوجود، ناهيك عن الرفض والاعتراض، وهذا هو واجب الوقت المنشود والممكن في اعتقادي.
تبقى مسألة أشرت أنت إليها في عجالة وفي معرض حديثك عن نقل المعارف أو الاستفادة من الحكمة وبناء النهضة؛ فأنت تذكر "محمد علي" وتتحدث عن إسماعيل باشا وعن جمود الأزهر أو تعصب بعض رجاله في مرحلة معينة، ولن أتورط هنا في رد سريع حول هذه المسألة، ولكنني أقول بأن من أهم الميادين التي تتطلب عملا كثيرا وجهادا مدنيا ملحا ومنتظرا أن نستعيد الوعي بتاريخنا، وقد نعيد التفكير في بعض ما وصل إلينا منه بوضعه مسلمات وحقائق مع أنه مجرد أكاذيب، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصر... شكرًا لك.
ويتبع >>>> أسئلة التغيير: شباب خارج الحظيرة.. مشاركة