السؤال بعد الترجمة:
إخوتي وأخواتي في مجانين، أود أن أرسل إليكم بمشكلة تواجه الكثيرين في البلدان خارج العالم العربي، ألا وهي مشكلة فقد الهوية، خاصة الهوية الإسلامية، والتي أصبحت بالنسبة إليّ نضالا للحفاظ عليها؛ لأن الله وقاني بالتعرف على إخوة صالحين.
الشيء الآخر أننا مسلمون من جميع أنحاء العالم، لكن يؤسفني أن أقول بأننا ما زلنا نعيش في تجمعات منفصلة، فمثلا تجد مسلمين عربا، ومسلمين هنودا، ومسلمين أفارقة، و... إذن متى وكيف يمكننا أن نصبح مجتمعا واحدا حتى نتمكن من تلقي الاحترام في المكان الذي نعيش فيه؟ هذا جزء مما يدور في ذهني، بالإضافة إلى الكثير من المشاكل،
فكيف لنا أن نجعل من أنفسنا أقوياء في الظروف التي نعيشها؟
جزاكم الله خيرا.
26/8/2023
رد المستشار
الأخ الكريم، يبدو أنك زائر جديد لصفحتنا، أهلا بك، تناولنا كثيرا من قبل مسألة الهوية والتحديات التي تواجه العرب المسلمين فيما يخص هذا الجانب، ولكن لا بأس من العودة لهذا الموضوع المهم، وإن كنت أنبهك أننا لا نحب الأسئلة العامة التي لا تتناول جانبا شخصيا أو تنطلق من الخاص إلى العام. أحسب أن مشكلتنا فيما يخص الهوية تكمن -في جزء كبير منها- بإدراكنا للمفهوم وتصورنا؛ فنحن غالبا ما ننظر إلى الهوية بوصفها شيئا ثابتا وواحدا وبسيطا وساكنا، وهي -في تصوري- على النقيض من هذا تماما؛ فهي متحركة ومتعددة ومركبة ومتفاعلة.
الهوية مثل الكائن الحي ينمو ويتطور ويمكن أن ينكص ينكمش، وبالتالي فإن الهوية تنضج بالاحتكاك والتفاعل، وتضمر بالانزواء والعزلة، وهي مثل الإنسان تحمل أصواتا متعددة بداخلها، وتضم تراكمات ثقافية وتاريخية، وطبقات فوق طبقات، وتتسع لتشمل آفاقا وأطيافا مختلفة، وليست لونا واحدا أو مكونا طاردا، والمسلمون في عالم اليوم منعزلون غالبا بدعوى "عدم الذوبان" والحفاظ على الهوية، فإذا بها نتيجة للعزلة والخوف والانغلاق تتآكل وتذوي، وتظهر ضعيفة في تكوين الأجيال الجديدة، وربما لا تظهر البتة، وربما حاولت هذه الأجيال الجديدة تركيب هوية بمفهوم جديد غير القديم، وسيستغرق هذا وقتا أطول وجهدا أكبر بمفهوم جديد غير القديم، وسيستغرق هذا وقتا أطول، وجهدا أكبر طالما بقينا ننظر إلى الهوية على النحو الخاطئ السائد حاليا.
سافرت كثيرا إلى أوروبا، والتقيت مسلمين من طبقات اجتماعية وخلفيات ثقافية وتعليمية مختلفة، وبسبب طبيعة الحياة المادية هناك وصعوبة تدبير الأموال اللازمة للعيش أحيانا، وبسبب هذا المفهوم الشائع لدى المسلمين عن الهوية فإنهم من أشد الطوائف انعزالا، وبالتالي فهم الضحية المرشحة لتنسب إليها كل رذيلة؛ لأن الناس أعداء ما جهلوا، ويزداد الطين بلة بسبب الإعلام الباحث عن الإثارة ولو على حساب الحقيقة، وللأمانة فإن كثيرا من المسلمين هناك لا يبخلون على هذا الإعلام بمادة ساخنة عن تصرفات شاذة بكل معايير العقل أو بالمخالفة لقوانين البلاد هناك بدعوى أنهم غير ملتزمين بها!!!
ويصل الأمر إلى السرقة أحيانا أو التحايل على القوانين للحصول على امتيازات، ولا يقف الأمر عند "استحلال" الأموال، بل والأعراض أيضا، والمظالم والمخازي التي يرتكبها بعض المسلمين في ميدان التلاعب بالزواج من بنات البلد الأصلي للحصول على إقامة أو جواز سفر ثم الغدر بهن أو إساءة معاملتهن، وما يقابل ذلك من تصرفات بعضهن عند حصول خلاف بين الزوجين... هذه كلها قصص أكثر من أن تعد أو تحصى، فعن أي هوية تتحدث؟! من الطبيعي في ظل هذا الفهم للهوية، وتلك الممارسات المصاحبة له من عزلة ونصب واستحلال أن ينغلق كل مسلم أكثر وأكثر؛ لأنه يبحث عن الاختلافات فقط ولا يبحث عن المشتركات، فينكفئ على الدوائر الأضيق فالأضيق كما تفضلت أنت في رسالتك، وهم يعتبرون هذا ملاذا آمنا للحفاظ على "ثوابت الهوية"، ولن يستطيع المسلمون الخروج من هذه الحالة إلا إذا فهموا هويتهم في هذا العالم المتلاطم لن يكون إلا بالانفتاح والتفاعل الكفيل بإعادة اكتشاف العناصر الأصيلة في هويتنا، والعناصر الدخيلة التي ينبغي تغييرها إلى ما يتسق أكثر مع الشرع والعقل والعالم، وفي هذا تفصيل لا أريد الاستطراد فيه.
لن يكون لنا موطئ قدم ثابتة في عالم اليوم إلا إذا تبادلنا التعارف والتثاقف الإيجابي مع الآخرين، باحثين عن الحكمة أنى نجدها فنحن أحق بها، وتجادلنا مع العالمين بالتي هي أحسن، وطلبنا العلم ولو في الصين، وتعلمنا من وحي التجارب الإنسانية المتراكمة قبل أن نطالب الناس أن يتعلموا منا شيئا عمليا؛ لأننا حقيقة لا نملك حاليا الكثير مما نقدمه في هذا الميدان.
لقد انتشر الإسلام عبر موجات متلاحقة ومتلاقحة امتدت في أرجاء الدنيا تحمل هدى الحق، ونور الإيمان عبر سلوكيات البشر العاديين من تجار وطلاب علم وصناع مهرة وفنانين وأطباء وغير ذلك، ولم ينعزل هؤلاء أو أولئك خوفا على هويتهم بل تفاعلوا مع محيطهم فتأثر بهم، وتحول مسار التاريخ، وحين ينفتح المؤمن بهذا المعنى فإن قلبه وعقله يتسعان فلا يصبح بهما مكان لقطرية أو شعوبية أو تعصب لجنس أو لون أو وجهة، أما إذا انغلق فإن الدنيا تضيق عليه حتى يخاصم الدمشقي موطنه الحلبي لما ورثه هذا وذاك من تراث الاعتزاز والتعصب ولو داخل القطر الواحد!!!
إن مواجهتنا للضغوط التي يتعرض لها المسلمون لن تؤتي ثمارها إلا بالتفاعل الإيجابي الجسور، ونحن لا نخشى شيئا إن كنا فعلا نحمل الحق من الله سبحانه؛ لأن ديننا علمنا أن فيه النفع للإنسان كل الإنسان، ولذا فإنه سيمكث في الأرض، ويذهب غيره جفاء. والسؤال هو: من يحمل هذا الحق إلى البشرية، ويقدمه للعالمين؟! فيكون موصلا ومتواصلا جيدا؟! وأخشى أن من بين كل مائة ألف مسلم مغترب ربما يوجد واحد، ويا رب تكون حساباتي خاطئة.
وأختتم بأن مسألة الهوية ينبغي أن تشغلنا بالنسبة للمقيمين منا في أوطانهم، فلم تدع ثورة الاتصالات فرصة لترف الانعزال أو الانغلاق دون أن يصلنا ما يدور في العالم من معلومات ونقاشات، وما يطرحه الآخرون عنا وعلينا من تحديات وشبهات، وفي التعامل مع هذا المشهد يؤسفني أن أقول بأننا ما زلنا نعتقد إمكانية البقاء والمقاومة دون أن تحمل هذه "المقاومة" خطة واضحة وممكنة للتفاعل بقوة وعمق واتساع مع عالم اليوم، ومع البشر على مختلف ألوانهم وأقطارهم... وذلك لعمري وَهْم آخر من أوهامنا وتلك قصة أخرى.