السلام عليكم..
أنا فتاة 23 سنة. أكتب الآن، وقد تملكني الحزن. لا أعلم من أين أبدأ مشكلتي. فهي متعددة الجوانب. وتقريبا أصابتني بالإحباط. فأنا لا أفهم طبيعة العلاقات الإنسانية، وكيف للإنسان أن يكون له شبكة واسعة من العلاقات. فأنا بطبيعتي إنسانة هادئة، لكني أعتقد أن أي شخص مع هدوئه يمكن أن يكون ناجحا في علاقاته، أشعر بالخوف والعجز الشديد أمام تنوع الشخصيات التي أقابلها؛ فلا أستوعب التنوع في ثقافات البشر وطرق تعاملهم وتفكيرهم.
أنا لست خجولة، ولكني أشعر كما لو كان الناس يتحدثون لغة لا أفهمها. هم يستطيعون التواصل مع بعضهم وأنا لا. النتيجة أنني الآن أعيش وحدة مطبقة حتى داخل بيتي. قد يؤدي إلى عدم إحساسي بوجودي أصلا.
أنا أحاول أن أكون أفضل؛ فأنا -والحمد لله- عشت في مستوى اجتماعي ومادي مرتفع، ومتفوقة في الدراسة، لكن أي محاولة مكتوب لها الفشل؛ لأن خبرتي الاجتماعية صفر، أود أن أوضح أن هذه ليست طبيعتي. فأنا ولدت وتربيت في دوله الإمارات؛ فكنت في المدرسة أتحدث بطلاقة مع أصدقائي والمدرسين، كما كانت شخصيتي قيادية ومرحة داخل الفصل، لكن في فترة الجامعة انتقلت لمصر، فوجدت نفسي أصاب بالإحباط وعدم التواصل مع الناس.
ما أريد أن أوضحه أني أؤمن جيدا أن الإنسان بثقته بنفسه وإصراره على النجاح يستطيع أن يكون أفضل. أحاول أن أبث ذلك في نفسي، لكن مجرد التواجد داخل مجتمع يتحطم كل شيء، وأشعر بالتشتت والإحباط. وأفشل في أن يكون لي تأثير على الناس.
كيف أزيد ثقتي بنفسي، وأعود إلى ذاتي، وأظهر بشخصية أقوى في المجتمع؛
فأنا لا أرضى أن أكون على الهامش.
22/10/2023
رد المستشار
الابنة الكريمة.
شكرًا على ثقتك، وأطلب دعائك أنت والقراء أن أكون عند حسن ظنكم وزيادة، اللهم آمين، فلا تنسونا من صالح الدعاء في الخلوة والجلوة.
لا أذكر إن كنت قد كتبت قبل ذلك عن أزمة نفسية يعاني منها أبناء بعض الأقطار العربية الذين يسافر آباؤهم طلبا للرزق في أقطار أخرى عربية، وأحيانًا أوروبية، ويصطحبون معهم الأولاد والبنات لفترة ثم يعودون معًا، أو يعود الأبناء وحدهم للالتحاق بالجامعة.
أنا أتكلم عن فئات الآلاف من شبان وفتيات تحدث لهم هذه الأزمة، ويدركها بعضهم، ويغفل عنها آخرون، ويتأثر بها البعض أكثر من الآخرين، مثل أي مؤثر حين تتدرج ردود الأفعال عليه بين شخص وآخر، وتستحق هذه الظاهرة بحثا علميًّا وميدانيًّا معمقًا لعلنا نقوم به يومًا ما.
وتنشأ هذه الأزمة عن التباين الكبير بين طبيعة مجتمع الأصل ومجتمع النشأة، ولنأخذ مثالا بين مصر والإمارات:
المجتمع المصري قديم وواسع، وبالتالي فهو أكثر تركيبًا، ويزداد التركيب والتعقيد تحت الضغوط الهائلة التي يتعرض لها الناس في المعايش وإدارة الحياة اليومية وسط مشكلات إدارية واجتماعية واقتصادية مزمنة، وبالتالي فإن الاندماج في مجتمع كهذا يبدو أصعب من مجتمع التعايش، وأنت تطمحين إلى ما هو أكثر وأكثر؛ فتتوقين إلى التأثير في الناس.
المجتمع في الإمارات حديث وصغير، ويعاني من مشكلات مختلفة عما يعانيه المجتمع في مصر، وطبيعة الحياة والعلاقات وحتى الأنشطة والهوايات والاهتمامات العامة، والإمكانيات المتاحة للراحة والرفاهية أكبر بكثير، ولهذا سلبياته وإيجابياته دون استطراد.
إن انتقالك من الحياة في الإمارات وكنت هناك طالبة في المدرسة إلى الدراسة الجامعية في مصر يحمل في طياته عدة نقلات في الحقيقة وليس نقلة واحدة؛ ففضلا عما تعرفينه من فوارق بين الدراسة في المدرسة والجامعة ويبدو -إضافة إلى التعقيد- أنك تخرجت، هناك الانتقال الجغرافي والاجتماعي الذي يشبه -للتبسيط والتقريب- انتقالك من الحياة في منتجع للاستجمام إلى الحياة في حي شعبي، مثل: الحسين أو السيدة زينب أو بولاق أو شبرا أو حتى العباسية. ولاحظي أنني لا أقول: إن هذا أفضل، أو ذاك أسوأ، ولكن ألفت نظرك إلى الفارق الهائل بين "هنا" و"هناك" في تفاصيل كثيرة جدًّا. ومن شأن هذه الفوارق أن تصيبك بنوع من الصدمة الاجتماعية الثقافية، ومن المتوقع أن تمر فترة من عدم التوازن، ومشاعر وأفكار ما بعد الصدمة، وأن تستمر محاولاتك للتكيف مع الأوضاع الجديدة، ويعينك في تقليل طول هذه الفترة ما يلي:
أولا: صحبة متشابهة معك في الاهتمامات، ومتقاربة في المستوى الاجتماعي، وفي بحثك عن صديقات ينبغي أن تتحري قليلا؛ فلا تنخدعي بالشكل أو الكلام، إنما دائمًا أعطي فرصة ومسافة ووقتا للاستكشاف، ونمو الثقة تدريجيًّا.
ثانيًا: الانغماس في الأنشطة العامة -قدر المستطاع- ومصر عامرة بمثل هذه الأنشطة، وبخاصة ما يتقارب مع اهتماماتك، مع ملاحظة أن المخالطة في المجال العام ستعطيك فرصة جيدة جدًّا للتعرف على نوعيات مختلفة من البشر والأفكار، وستعطيك أيضا فرصة تدريجية ينبغي أن تغتنميها لتنمية مهاراتك في التواصل الفعال إصغاءً وتحدثا ومشاركة، ولدينا العديد من الأماكن التي تستحق الزيارة، مثل المكتبات العامة، وهذه مجرد مثال غيره كثير.
ثالثًا: تذكري أن الأمر يحتاج وقتًا وجهدًا، وأنه لن يحدث فجأة أو دون ترتيب؛ فلا تستعجلي، ولا تتكاسلي في الوقت ذاته، ويفيدك أن تطوري مشاركتك في إحدى الجهات التي تقبل في صفوف عملها المتطوعين؛ فالتطوع في العمل الاجتماعي والمدني يزود الإنسان بطاقات ومهارات وآفاق لا محدودة.
وتذكري أن ما تقومين به ليس بدءًا من الصفر، ولكنه بمثابة تدريب تحويلي لشحذ مهاراتك الشخصية المتميزة أصلا وتحديثها، وزيادة سعتها وقدرتها على التوائم والتكييف والإنجاز في ظروف مختلفة عن البيئة التي تعودت الحركة فيها والتأثير.
ولا يحول بينك وبين النجاح الذي تنشدين إلا فكرة وهمية بأنك فاشلة وستفشلين، وينبغي استبدال فكرة أخرى بها -وهي الأكثر واقعية- وهي أنك نجحت سابقا، وستنجحين مستقبلا، شريطة الانتظام والتخطيط للتغيير التدريجي، وتابعينا بأخبارك وتواصلي معنا دائمًا.
واقرئي أيضًا:
عائدة من الخليج: العادي والمتوقع والمنتشر
العائدون من الخليج: الملف الساخن يتجدد