التوازن المفقود+جحود النعم..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ جزاكم الله كل خير على هذا الموقع وعلى هذه الخدمة الرائعة.. وشكرا للدكتور محمد المهدي الذي أجابني عن استشارتي السابقة التي كانت بعنوان: احتضان الأطفال.. هل يثيرهم جنسيا؟؟ فقد كان رده كما أردت تماما، إذ أعطاني القواعد التي أتعامل على أساسها مع من حولي من صغار.. فشكرا ك يا سيدي الفاضل.. وجزاك الله كل خير..
اليوم لدي سؤالان:
1- تقبل النقد.. أنا أتقبل النقد ممن حولي بشكل زائد عن اللزوم.. كيف؟ طبعا عندما يكبر المرء تكون نفسه وشخصيته غالية عليه، وبالتالي فهو يدافع عن نفسه ضد أي هجوم خارجي سواء كان هذا الهجوم بحق أو بغير وجه حق.. ولكن علّمنا الإسلام أننا يجب أن نتقبل النقد من الآخرين ونعتبره غنيمة، إذ إننا وعلى ضوء هذا النقد نتلافى العيوب الموجودة فينا ..وقد قال عمر رضي الله عنه: رحم الله امرؤا أهدى إليّ عيوبي.. حتى الآن كلام رائع جدا.. ولكن بالنسبة لي تكمن المشكلة في أنني أتقبل النقد بشكل زائد عن اللزوم، أي أن كل من وجه لي نقدا أصدقه، وأعمل على تلافي هذا الشيء المنتقد في شخصيتي، ولم أعد قادرة على التفريق بين النقد الذي يتناول الجوانب السيئة مني أو الجوانب الحسنة ..إذ أن هناك أمورا أعتبرها أنا حسنة تعتبرها أختي مثلا غاية في السوء ..
مثال: أنا أعتبر أن سؤال الآخرين عن أمورهم الخاصة هو تدخل في خصوصياتهم، ولكن أختي تعتبر ذلك مني عدم اهتمام بها.. وتنشأ المشاكل من جراء ذلك.. فماذا أفعل؟؟ وكيف أحكم على الأمور بشكل سليم؟؟
وعلى فكرة.. لقد شكّل لي تصديقي لكل ما يقال لي الكثير من الألم في حياتي حتى الآن.. وفي النهاية – منذ 6 أشهر تقريبا – قررت أن لا أصدق أحدا إلا بعد أن أحكم بنفسي على هذا النقد، وأرى هل هو موجود فيّ فعلا أم لا.. وفي الحقيقة ارتحت كثيرا.. وبدأت أحس بثقتي بنفسي تعود لي.. ولكن.. ألن أعود من حيث بدأت؟؟ أقصد.. ألن – تنقح عليّ – كرامتي ورغبتي في حماية ذاتي ضد الأخطار الخارجية، ألن أعود لهذه الحالة من جديد، وبالتالي أكون مغرورة بنفسي وأفقد الصفة التي عانيت كثيرا لاكتسابها وهي: تقبل النقد من الآخر؟؟ وهذه الحالة تقودني إلى سؤال شامل: هل أنا من الناس الذين لا يعرفون كيف يقفون في الوسط بتوازن، فإما أن ينزلقوا إلى أقصى اليمين أو إلى أقصى اليسار؟ كيف أعرف نفسي؟؟ أما من قواعد تعينني على هذا التوازن؟؟
2- الزهد فيما أحصل عليه.. كيف؟ كلما أردت شيئا ما ثم رزقني الله تعالى إياه.. أزهد فيه.. وأرى أنه شيء عادي.. ولا تعود له في نظري نفس القيمة السابقة التي كانت له قبل أن أحصل عليه.. هذه صفة خطيرة لأنني أخشى أن تقودني إلى جحود نعم الله تعالى عليّ وعدم شكرها.. ما العمل؟؟ وكيف أغير هذا الشعور في نفسي تجاه ما ينعم به الله عز وجل عليّ ؟؟ وجزاكم الله كل خير..
20/8/2003
رد المستشار
الأخت الفاضلة، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.... وشكرا على متابعتك للموقع.. ونسأل الله أن نكون عند حسن ظنك دائما، وسوف أقسم ردي عليك إلى قسمين كما قسمت أنت استشارتك إلى جزأين:
أولاً: التوازن في الدفاعات النفسية كما تعلمين، فإن أي جسد صحيح لابد له من جهاز مناعة يحميه من أي غزو ميكروبي أو فيروسي، وهذه وظيفة حيوية هامة لا غنى عنها للكائن الحي حين تتم في هذا النطاق، ولكن أحيانا تختل هذه الوظيفة فتضعف إلى الدرجة التي تعجز فيها عن حماية الجسد من الغزو الخارجي فيمرض الجسد، وأحيانا أخرى يقوى جهاز المناعة ويتوحش لدرجة أنه يبدأ في مهاجمة خلايا الجسد ذاتها بلا تمييز، وهنا أيضا يمرض الجسد.
يقابل هذا على المستوى النفسي ما يسمى بالدفاعات النفسية، وقد تحدث عنها فرويد وأتمتها ابنته "أنا فرويد" وزاد عليها بعض تلاميذه وهى تعتبر الجزء الموضوعي من نظرية فرويد لأن لها وجود حقيقي ملموس في الحياة اليومية، ولها أيضا تطبيقات علاجية مهمة.
ومن هذه الدفاعات مثلا الكبت، وهو وسيلة دفاعية نفسية تلقى بالذكريات المؤلمة أو الرغبات المرفوضة اجتماعيا أو أخلاقيا أو دينيا في غياهب اللا شعور حتى لا تهدد استقرار الجهاز النفسي، فإذا ضعفت هذه الوسيلة الدفاعية فإن الإنسان يصبح معرضا لآلام كثيرة بسبب المواجهة الصريحة والمستمرة مع أشياء لا يتحملها وعيه، وهنا يمكن أن يكتئب أو يقلق،
أما إذا كان الكبت أقوى مما يجب فهنا تحدث حالة أشبه بالعمى النفسي، حيث يصبح الإنسان غير قادر على رؤية الأمور بوضوح كاف نظرا لسرعة تغييبها في اللا شعور، وهذا يجعله بعيدا عن الواقع، ويجعله في حالة بلادة انفعالية. ومن الدفاعات النفسية الإزاحة Displacement والإسقاط Projectionوالتكوين العكسي أو الرديد Reaction Formation والاستدماج Introjection والإنكار Denial والتسامي Sublimation والعزل Isolation..... وغيرها مما وصف بالتفصيل في كتب علم النفس.
وكل وسيلة من هذه الوسائل الدفاعية تؤدى وظيفة هامة للحفاظ على توازن الجهاز النفسي من خلال ضبط جرعة الرؤية وضبط جرعة الاستقبال والاستدماج أو الطرد أو الإنكار. وهذه الدفاعات حين تزيد عن الحد ( في حالات العصاب أو اضطرابات الشخصية) فإنها تؤدى إلى حالة من التصلب النفسي وانحسار الرؤية وتجمد المشاعر، أما حين تنقص فإنها تؤدى إلى حالة من التعري النفسي والمواجهة المؤلمة للواقع وللناس.
وإذا طبقنا هذه المبادئ النفسية الهامة على وضعك الشخصي، فأنت تحاولين الوصول إلى حالة من التوازن بين القبول الزائد للنقد وما يتبعه من حالة تعرى، وانجراح، وبين الرفض الزائد للنقد وما يتبعه من حالة تصلب وغرور. والصحة النفسية دائما تعنى التوازن، وهذه الحالة نصل إليها بالوعي وبالمحاولات المستمرة والمثابرة، وأنا أعتقد أنك تسيرين على هذا الطريق وربما تكون مسألة وقت، فسؤالك نفسه دليل على وعيك بهذا الأمر.
ثانيا: الزهد فيما تحقق نحن نسعى في حياتنا سعيا حثيثا لتحقيق أهداف نتمناها، حتى إذا تم ذلك زهدنا فيما حققناه، ورأيناه أقل مما كنا نتوقع، وهذا الزهد فيما بين أيدينا يؤدى وظيفة نفسية تطورية هامة حيث يجعلنا نبحث عن المزيد ولا نتوقف عند نقطة واحدة حيث يدفعنا إلى تحقيق المزيد من الإنجاز، ولولا هذا الشعور ما ارتقت البشرية ولا عمرت الحياة، ومع هذا فنحن نحتاج إلى وعى حاد بنعم الله في كل مرحلة نقطعها وكل إنجاز نحققه فلا يشغلنا ما نصبو إليه عما بين أيدينا فعلا وإلا قضينا حياتنا بعيدين عن الشكر حيث أن أطماع الإنسان لا تنتهي، ولهذا نتعود أن نشكر الله على كل شئ أنعم به علينا "وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها"،
وفى نفس الوقت لا نخشى من سعينا الدائب نحو الأفضل والأرفع والأسمى في أمور الدنيا والآخرة، فهذه طبيعة مركبة فينا كي ترتقى الحياة وتعمر الأرض، ولو تخيلنا أننا قنعنا بما بين أيدينا لتوقفت حركة الحياة وتجمدت عجلات التطور وهناك خيط رفيع بين الرضا والتوقف، وخيط رفيع بين الطمع والتطور، وهذه الخيوط الرفيعة هي سبب انزعاجك، وهذا الانزعاج مطلوب بقدر وهو دليل على حساسية نفسك ومراقبتها للخلجات الدقيقة ومحاسبتها على الهنات.
والإنسان مبتلى بالحركة بين الأقطاب بحثا عن التوازن وهذا الابتلاء يلازمه طيلة حياته وهو حين يصل في بعض الأوقات إلي حالة التوازن ينعم بحالة الطمأنينة "النفس المطمئنة" ثم يعود مرة أخرى إلى مستويات النفس اللوامة أو حتى النفس الأمارة بالسوء. وهو يتأرجح بين هذه المستويات بنسب مختلفة طبقا لتطلعاته واحتياجاته ومجاهداته، فإذا نجح في الاختبار لقي الله راضيا مرضيا،
وأشكرك على متابعتك وأهلا بك دائما.
*ويضيف الدكتور وائل أبو هندي: ما أود الإشارة إليه هنا بعد الإجابة المستفيضة للزميل الدكتور محمد المهدي هو فقط أن كثيرًا من علمائنا المسلمين كانوا قد تكلموا عن الحيل والدفاعات النفسية Mental Mechanisms سابقين بها فرويد ومنهم على سبيل المثال لا الحصر أبو زيد البلخي في مصالح الأبدان والأنفس، والجاحظ في البخلاء، والمحاسبي في المسائل في أعمال القلوب والجوارح، وهناك غيرهم ولكن الإشارات كانت تجيء متفرقةً ولا تجمع الحيل الدفاعية كلها تحت باب واحد، وأما اللا شعور أو العقل الباطن Unconscious Mind فقد أشار إليهما ابن سينا حين تكلم عن التبول اللا إرادي الليلي، وأن الفضل الراجع إلى فرويد لم يكن في حقيقة الأمر أكثر من تجميع وتصنيف إبداعات سابقيه ووضعها في شكل يناسب التوجه الفكري الطبي الفلسفي السائد في عصره، وأهلا بك أيتها الأخت السائلة وندعوك إلى مشاركتنا دائما.