السلام عليكم:
منذ 7 أعوام تعرفت على رجل غير مسلم قدم للعمل في بلدي والتحق بالمكان الذي أعمل به؛ ولأنني كنت أرتدي الحجاب فقد أثار هذا تساؤلاته، وبدأت بيننا المناقشات حول الإسلام وحول حياته التي لم يكن راضيًا عنها وكان متزوجًا.
وبعد فترة صارحني بحبِّه ورغبته في الزواج، وكنت صغيرة وساذجة وبدون خبرة، وظننت أنه يكفي أن ينطق بالشهادتين مبدئيًّا، وظننت أنني يمكنني أن أصنع منه مسلمًا صالحًا مثل الصحابة -رضي الله عنهم- بعد زواجي منه، وقد أعطاني والداي ثقة كبيرة ولم يمنعاني من زواجه.
بعد عامين انتهى عقد العمل في بلدي وذهبنا للعيش في بلده، ونظرًا لسذاجتي وقلة حيلتي فقد خلعت الحجاب لكي نسهِّل على أنفسنا الحياة في هذه البلاد، وأشهد أن زوجي لم يجبرني على ذلك، لكنه أيضًا لم يمنعني من ذلك، والآن أنا أشعر أن هذا كان خطأ عمري، فبخلع الحجاب فقدتُ هويتي وثقتي في نفسي، فأنا لا أخرج من المنزل ولم أعد نشيطة كما كنت في السابق، وصرت مريضة فعلاً نفسيًّا وجسمانيًّا، فظهر حَبُّ الشباب بشكل مزمن، وكذلك ظهرت حساسية في صدري، وصداع وتوتر، وصرت ضعيفة لا أقوى حتى على تنظيف منزلي، ولا أريد أن أرى أحدًا سواء أكان مسلمًا أم غير مسلم، فالمسلمون أشعر أنهم لن يتعاملوا معي؛ لأنني خلعت الحجاب، وغير المسلمين قد يظنون أنني لهذا السبب لم أَعُد متمسكة بديني، وهذا ظنٌّ يقتلني فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
إخواني وأخواتي أرجوكم ساعدوني؛ فأنا أعاني، ورغم ذلك ما زلت أحاول مساعدة زوجي على فهم الكثير من الأمور عن الإسلام، وتمكنت بعون الله من جعله يحب الدين، فهو يؤمن بالله ورسله، وهو يصوم ولا يشرب الخمر ولا يأكل لحم الخنزير، ويدافع عن الإسلام كلما استطاع، لكنني لم أفلح في جعله يصلي؛ إذ يرى أن هذه الطريقة ليست وسيلته للوصول إلى الصلة بالله.
وأنا ضعيفة وعاجزة، وكنت لسذاجتي أظن أنني يمكنني إقناعه لكن للأسف، فقد بدأت أنا الأخرى في عدم الانتظام في الصلاة؛ وذلك لأن فكرة أن الله غير راضٍ عني أصبحت تتملكني، وقد أفلحت في أن أكتم عن زوجي معاناتي لفترة طويلة إلى أن ذهبت للمستشفى للعلاج من إحدى أزماتي الصدرية، فنصحوني باستشارة طبيب نفساني وقد فعلت، ولكنني مقتنعة أن الطبيب النفساني يجب أن يكون مسلمًا كي يفهمني.
والآن تتملكني فكرة وهي أنني كي أستعيد حياتي الإسلامية يجب أن أفارق زوجي، ولكن لا أريد أن أظلمه، ولا أريد أن يتألم بسبب قراري هذا.. لكنني لم أعد أحتمل،
أرجوكم ساعدوني!!
13/7/2024
رد المستشار
الأخت الكريمة، أشعر بما أنت فيه من الألم والتشتت الذي وصل لدرجة أنك طلبت عدم نشر رسالتك، وفاتك في الوقت ذاته أن تتركي لنا عنوان بريدك الإلكتروني!!!
وعلى كل حال، أرجو أن تكون ترجمتنا لسؤالك دقيقة، وإجابتنا على سؤالك شافية بإذن الله.
أختي، تأملت في قصتك التي قمت بروايتها لنا، وأخذت أبحث عن موضع الخلل، ومدخل المتاعب فوجدت بداية الخيط في كلماتك حين تتحدثين - أكثر من مرة - عن قلة الخبرة والسذاجة، وأريدك أن تتأملي معي لنعيد ترتيب أجزاء تماسكك النفسي المتناثرة، مثلما نرتب أجزاء الصورة المكونة من قطع حين توضع بنظام متداخل فتظهر وتتضح معالمها.
أين الخلل إذن؟! تأملي معي...
لقد كنت فتاة عربية متعلمة معرفتها عن العالم وعن الإسلام تكفيها لتعيش وتتحرك في وطنها، وبين أهلها حيث التساؤلات المكررة، والقوالب الذهنية ثابتة، ولا توجد تحديات أو شبهات فكرية واجتماعية جذرية: فالإسلام عظيم، والصواب والخطأ واضح، وببذل بعض الجهد يمكنك أن تجعلي زوجك الذي نطق بالشهادتين "مثل الصحابة" ... هكذا ببساطة مذهلة!! العالم بسيط، والإسلام بسيط، والأمور واضحة المعالم جدًّا، والألوان كلها أبيض ملائكي أو أسود شرير، وربما هناك مساحة رمادية معروفة سلفًا.
هذا يا أختي هو وعي الأغلبية الساحقة، وهذا هو إيمان عموم أهلنا في أمتنا، ولا فارق كبير بين المتعلم وغيره، وهذا الوعي والإيمان يكفي لمن لا يتعرض لتحديات وتساؤلات واحتكاك مباشر بثقافات أخرى، ومجتمعات ذات أنظمة ذهنية وحياتية مختلفة ومتحدية.. وببساطة وتلقائية وافقت على هذه الزيجة، ولعلك كنت عندها تفكرين مثل أختنا التي أجبنا عليها سابقًا تحت عنوان: زواج الثقافات، وتحدثنا عن أن الأسئلة التي تطرح أمام من تريد أن تتزوج أوروبيًّا أسلم ليست هي الأسئلة الأهم، واعتقادها بأنها ستستطيع إدارة أمورها معه لكونه يحبها، وأخلاقه عالية، قلنا إن هذا الاعتقاد في حاجة إلى مراجعة؛ لأن المسألة ليست بهذه البساطة، وقصتك تقول هذا وأكثر.. عندما يقرر أحدنا أن يسافر ليدرس، أو أن يعيش في الغرب، أو يتزوج هناك، عليه أن يدرك أنه يفتح على نفسه بابًا جديدًا ستهب عليه منه رياح عاتية قد تقتلعه إن لم تكن له في الأرض جذور، وإن لم يكن لديه من الوعي السليم العميق، والخلق القويم المتين، والإيمان الواسع العريض رصيد كافٍ لمواجهة التساؤلات اليومية التي ستطرحها عليه الحياة، وسيطرحها الناس.
نحن بسذاجة نعتقد أن الانتقال من هنا إلى هناك هو مجرد سفر جسدي من مكان إلى مكان، وببساطة نعتقد أن علينا أن نصطحب معنا ملابس أثقل، وأدوات تقينا البرد والمطر، وأشياء تذكِّرنا بالأهل والوطن، ونغفل عمَّا هو أهم من هذا كله، وهو الوعي بطبيعة هذه النقلة الثقافية والنفسية والاجتماعية وما تحتاجه من تجديد وتطوير وتنمية للوعي والخلق والإيمان، فنصبح كمن تعلم العوم وأجاده في ترعة قريتهم، ثم سافر - دون تدريب أو إعداد - ليعبر بحر المانش دون التفات للبون الشاسع بين هذا وذاك، فقط هو متأكد أنه يستطيع القيام بالمهمة لأنه يجيد السباحة!!!
هكذا فعلت يا أختي، وهكذا نفعل حين نقفز في بحر الحياة الغربية المتلاطم، دون تدريب أو أطواق نجاة ظانين من فرط سذاجتنا، وسوء تقديرنا للأمور أن المسألة سهلة، والتحديات شكلية، ومن هذه النوايا الحسنة نُؤتَى كل مرة... وانظري حولك لتكتشفي الفارق بين من نشأ في هذه البلدان من المسلمين، وكيف يفهمون الإسلام ويتعاملون معه، وبين من أسلم حديثًا مثل زوجك، ومن جاء من وطنه مثلك - حيث الإيمان بسيط، والتساؤلات ساذجة، والتصورات سطحية - إلى نموذج ثقافي وحضاري يطرح تحديات من نوع مختلف، والإسلام صالح لكل زمان ومكان، ولكن عبر اجتهاد وجهد ذهني وعملي؛ ليتعامل مع الناس على قدر عقولهم، ومع الأوضاع على قدر تركيبها، وعلى اختلاف تحدياتها.
وتختلف يا أختي ردود أفعال الناس في الغربة الأوروبية. وحين تنفجر أسئلة الهوية، وصلاحية الشريعة، ومنطقية أحكام الإسلام ونظمه، ومدى ملاءمتها للحياة "المدنية" الحديثة يهرب المسلمون غالبًا من الإجابة، ليس لأنه لا توجد في الإسلام إجابة، وليس لعدم وجودها لديهم ؛ بل لأنهم ببساطة لم يطرحوا هذه الأسئلة على أنفسهم من قبل، ولم يفكروا في فلسفة أصول الإسلام وأحكامه على عمق يتجاوز ما تعوَّدوا عليه من مستويات وأنظمة، وتساؤلات وتراكيب، وتحديات بدائية وبسيطة جدًّا، في أوطاننا مقارنة بالحياة الغربية.
وكردِّ فعل على هذه التحديات تشيع بين المسلمين أنماط مختلفة من الآليات الدفاعية متنوعة، لكن أغلبها - أو كلها - يستبطن الإعجاب بما يعتقدونه من إيجابيات في هذه الحضارة، وفي نفس الوقت يصرخون اعتراضًا على سلبياتها، وحين تتأملين فيما يظنونه إيجابيًّا، وما يرفضونه بوصفه السلبيات، يمكن أن تصابي بنوبة ضحك أو بكاء و"شر البليَّة ما يضحك"؛ لأنك تكتشفين أنهم يفكرون ويعيشون في تلك الحضارة بنفس المستوى البدائي من التفكير والنقد الذي كانوا يعيشونه في أوطانهم تجاه إسلامهم أو حتى كافة قضايا واقعهم.
أختي الكريمة، الموضوع يطول، وأزعم أنه غائب عن التناول العميق؛ ولذلك تبدو كلماتي محاولات لطرق حقل غير مأهول أو مطروق من قبل، ولا أريد أن أسترسل في هذا الموضوع الهام والمغري؛ لذلك دعيني أخْلُص من هذه المقدمة إلى القول بأن هذا هو موضع الخلل بالتحديد كما أتصوره. أنت قفزت بعقل بسيط، وإيمان بسيط، ووعي بسيط إلى بحر المانش تريدين عبوره؛ فإذا بالأمواج تتقاذفك، ولو كنت تعلمين أصلاً: لماذا الحجاب، ولماذا الصلاة، ولماذا، ولماذا... ولو كنت تعرفين الغرب بعمق أكبر، والإسلام بعمق أكبر لاستطعت مواجهة التحدي: تحدي الإجابة على التساؤلات، وتحدي العيش في ظل ثقافة مغايرة تستحق الرثاء أكثر مما تستحق الإعجاب، ولكن ليس بالطريقة الساذجة التي نعتقدها أو ننتقدها.
ولأن إيمانك كان وما يزال قويًّا - وفارق بين قوة الإيمان البسيط وعمقه وتجذره -دخلت في صراع رهيب بين ما تعتقدين أنه الصواب، وعجزك عن الدفاع عنه وشرحه وتبريره لنفسك وزوجك ومن حولك.
أنت مؤمنة بالله تعالى، والله يأمر بالحجاب، وبالصلاة، ولكن قامت شبهات حول هذا وتلك لم تستطيعي الرد عليها، فاستسلمت لبعض الأطروحات السائدة، وكان هذا الاستسلام ضد ضميرك وإيمانك، وهكذا صار أمامنا صدام مهول بين قلب ما زال يحتفظ بالإيمان البسيط الرائع "من أيام السذاجة وقلة الخبرة"، وبين عقل عاجز مكدود يحاول أن يتماسك ليرد فلا يجد من أو ما يسعفه، والواقع من حولك لا يدعمك بل يزيد من محنتك، ليس لأنه خالٍ مما يفيدك في معركتك هذه، ولكن لأنك غير قادرة على التواصل الإيجابي معه، فأصبح الواقع مُعطى سلبيًا، ورافدًا يمدُّك بإزعاج مستمر، فبدلاً من أن تنزلي إليه لتبحثي عن إجابات أعمق على الأسئلة الجديدة المزعجة من قبيل:
لماذا نصلي؟! لماذا نرتدي الحجاب؟!
بدلاً من هذا الجهد حاولت الانعزال؛ لأنه أقل ألمًا ربما. وما زال التشتت قائمًا، والصدام مستعرًا، وزوجك يقف محايدًا، وربما لا يستطيع غير ذلك، وفاقد الشيء لا يعطيه، وأنا لا ألومه، ولا أظن أن مسلمًا من أوطاننا يمكن أن يقدم أكثر من ذلك غير بعض الدعم المعنوي كونه سيعاني مثل ما تعانين، في مقابل مرونة أكبر أبداها زوجك الكريم.
وأعتقد يا أختي أن زوجك يحبك كثيرًا، وأنكما تحتاجان إلى مصارحة أكبر بشأن حياتكما في جانب هذا الصراع الذي تعيشين فيه، وأنكما تحتاجان إلى بعض الجهد لتجديد الإيمان، ورفع مستوى المعرفة بالإسلام، تحتاجان إلى إعادة اكتشاف الإسلام، والتعرف عليه بشكل أعمق، وهي رحلة رائعة وممتعة أرجو ألا تحرِما أنفسكما منها.
والمشكلة أن الإسلام الشائع في ممارسات المسلمين، ومعظم أدبيات الحديث عن هذا الدين العظيم، الإسلام الشائع هذا... هو صورة مشوهة ومضللة.. وصدق المستشرق الذي قضى عمره يدرس الإسلام، وعندما سألوه: كيف وجدته... قال: "يا له من دين... لو أن له رجالاً"!! يعني وجد الإسلام بناء رائعًا، وتاريخًا ناصعًا، وتشريعًا محكمًا... إلخ، ووجده في الواقع ضائعًا يتيمًا مظلومًا بين كيد أعدائه، وجهل وتخلف أبنائه.
وفي رحلة إعادة الاكتشاف هذه ستحتاجين زوجًا متفهمًا محبًّا مثل هذا الزوج، وينبغي أن تستعيدا أشياء هامة منها رعايته لأولاده "إن كان له منها أولاد"، أو الإحسان إليها وإكرامها، فلم يكن الإسلام يومًا دين تقطيع أرحام، والرحم هي الرحم، وأمرنا بوصلها دون تفريط في ديننا، ولا تعارض بين وصل الرحم والتمسك بالدين، بل هما وجهان لعملة واحدة.
يا أختي.. خلع الحجاب كان مجرد رمز في معركة الصراع بين مشاعر قلبك، وواقع عقليك وممارستك، وهذا الصدام من شأنه مضاعفة معاناتك بالأمراض التي نسميها الأمراض النفسي/ جسمية وقد تكون شدة هذه الأعراض في حاجة إلى علاج بالعقاقير يحدده طبيبك.
أختي الكريمة، صحيح أن الحب هو جوهر المسألة، ولكن لا يكفي أن نحب الإسلام، بل ينبغي أيضًا أن نستوعبه ونفهمه حقًّا، وبعمق يتناسب مع الظروف المحيطة بنا من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان، وبهذا الفهم العميق وحده نستطيع أن نعيش في سلام داخلي، وننتقل من مرحلة التراجع أو الدفاع إلى مرحلة التحدي للعالم بهذا الدين العظيم حين نكون أتباعه فهمًا وممارسة واستيعابًا.
وهكذا يا أختي يرضى الله عنك وعنا.
أختي، إذا كنت تبحثين عن الخلل فهذا هو موضع الخلل، وإن كنت تبحثين عن سبيل العلاج فهذا هو السبيل، وإن كنت تبحثين عن طبيب نفساني مسلم كي يفهمك فقد وجدته هنا بالفعل، وبقي - بعد وضع النقاط على الحروف - أن يصح منك العزم، وقد اتضح الطريق، ونحن معك، والله معنا، ومرة أخرى أشكرك على فتحك لهذا الملف الهام... ودمت سالمة، وسننتظر رسالتك.
- ملاحظتان أخيرتان:
* أرجو ألا يظن أحد أن التحدي الكامن في هذا الصدام بين القلب والعقل، أو بين إيماننا ووعينا البسيط، والواقع المتحدي الضاغط يقتصر على من يعيش في الغرب!!!
الحقيقة أن هذا التحدي أصبح باتساع الكرة الأرضية التي أصبحت كلها مثل القرية الصغيرة كما يقولون، التحدي مطروح علينا أينما كنا، والمطلوب من أختنا هذه هو حاجة ماسة لنا جميعًا لو كنا نعلم ونفقه. فماذا نحن فاعلون؟!!!
* صفحات كثيرة على هذا الموقع تخدم هذا الوعي الجديد الذي نطمح إلى اكتسابه فاطّلعوا عليها، وشاركوا فيها بالتساؤل والرأي... جعلنا الله وإياكم خدمًا لدينه حتى نستريح، وينتصر.