هموم ثقيلة: ثقيلة الدم... خفيفة الدم م
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
الإخوة الأفاضل في استشارات مجانين... كنت قد بعثت إليكم بمشكلتي من قبل مرتين وما لاحظته في إجابتكم ـ ليس فقط على سؤالي وإنما على أسئلة بقية أصحاب المشاكل ـ هو أنكم عندما تزنون الأمور بين الأبناء والآباء دائمًا تفترضون أن الآباء على حق، وأن الأبناء لم يحاولوا حل مشاكلهم مع آبائهم، أو لم يحاولوا حتى مجرد التفكير فيها، والناظر إلى إجاباتكم يرى بوضوح أنكم لم تمروا بمرحلة الشباب أبدًا، وإنما كنتم آباء طوال الوقت ..
ولا أعتقد حقًّا أنكم تضعون حلولا جدية في هذه المشكلة بالذات، أنا أعلم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- جاء بدعوة غريبة على قومه فاستنكرها معظمهم، ولأقرب وجهة نظري استنكرها من أهله الكثيرون، ولكن هل معنى هذا أنه جاء بشيء خاطئ؟! طبعًا لا، وإنما جاء بدعوة الإسلام التي يستنكرها آباؤنا الآن علينا بدعوى أن الزمن قد تغير، وعندما شرحت لكم مشكلتي مع أهلي التي هي مشكلة فتاة جاهدت للحصول على صحبة الأخيار في الدنيا فقوبلت بالشتم والعنف …إلخ، كان آخر ما قوبلت به من طرفكم كلمة ذكرتني بالقرآن، فالحمد لله على نعمة الإسلام والإيمان، والكلمة كانت: نحن ننصحك باستشارة طبيب نفساني، فهل الإسلام يا سادتي، أبى إلا أن يكون تصرفًا لغير العاقلين؟! بل إن هذه هي الكلمة التي استخدمها المشركون لوصف الرسول –صلى الله عليه وسلم: مجنون، فهل من يريد تطبيق الإسلام، ويرفض أهله ذلك، يوضع مع المجانين أو حتى مع ذوي العقد النفسية.
ربما ستقولون: إن الاعتماد يجب أن يكون على أسلوب مخاطبة الأهل، وهذا ما فعلته بالحكمة والموعظة الحسنة، وترفقت فيه لدرجة أنني نسيت أن إبراهيم -عليه السلام- قد قال لأبيه: "يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطًا سويًّا".
بربكم هل يستطيع أحدنا أن يخاطب أباه بهذه الطريقة في عصرنا ...الإجابة ستكون كما قال فرعون لموسى -عليه السلام: "ألم نربك فينا وليدًا ولبثت فينا من عمرك سنين"
أي: أسلوب المن.
12/9/2024
رد المستشار
أختي العزيزة، أرسلت لنا من قبل وأجبنا عليك في "ثقيلة الدم ... خفيفة الدم" ثم متابعتها "هموم ثقيلة" فشكراً على مداومة الاتصال بنا، وهو ما نطمح أن يحدث عبر هذا الباب، وهو أن يكون جسراً بيننا نستمع إليكم، ونحاول أن نشير عليكم بما نراه الأصلح والأفضل والأحكم، والحوار المتواصل هو السبيل للوصول إلى الصواب وتحريه.
يا أختي، كنا وما زلنا في مرحلة الشباب لم نغادرها تماماً بعد، وكنا في مطلع الشباب مشاغبين، وربما ما نزال، وأصبحنا آباء لأطفال صغار، وأصبحنا نرى وجاهة أكثر لمواقف الآباء والأمهات دون تبرير للخطأ، أو التعسف في ممارسة الأدوار الأبوية المنوطة بهم، ونظرة واحدة إلى إجابات كثيرة سابقة لنا ستبين لك أن الأحكام التي تصدرينها علينا في هذا الشأن متسرعة وغير دقيقة في أحسن الأحوال، ومن جانب آخر فإننا نتوجه دائماً بالنصح أو العتاب إلى الطرف الذي يراسلنا أباً كان أو ابناً فهو – بحكم التواصل معنا – الطرف الذي نملك معاونته في تحسين أدائه، وحل مشكلاته دون إغفال مسؤولية الآخرين، ودون تعليق الأمور على شماعة أخطائهم في الوقت ذاته.
أرجو أن تكون هذه هي روح إجاباتنا عامة، وأرجو أن تراجعي إجابتنا السابقة عليك لتري أننا لم نفردك باللوم أو المسؤولية عما أنت فيه من أوضاع.
لكن الجانب الأهم في رسالتك هذه المرة هو استمرار الخلط بين الأخطاء البشرية، وفيها تتوزع المسؤوليات، وتتنوع ضروب التقصير، وبين الرسالة الربانية ومسيرتها في حياة الأنبياء والرسل.
إن اتباع الحق لا يسبغ على تصرفات المتبع أي نوع من القداسة، بل تظل قابلة للنقد والتحليل بوصفها تصرفات بشرية تحتمل الخطأ والصواب، وبعض المتدينين يقع في فخ الخلط بين ذاته وأخطائه، وبين ما يحاول الالتزام به من قيم؛ فينقلب الخطأ الشخصي نفسيًّا كان أم اجتماعيًّا إلى جهاد في سبيل الله، وتنقلب ردود الأفعال الأسرية والاجتماعية الخاطئة أو الصائبة إلى "مواجهة" لدعوة الإسلام، وحرب على الله ورسوله.
هكذا في ضربة واحدة نصبح بصدد معركة مفتعلة بين "الإسلام والجاهلية" أو "أهل الله وأعدائه" وكأننا نستعيد سيرة من قالوا: "نحن أبناء الله وأحباؤه".
وهذا المنهاج الشائع في تصرفات الكثير من المتدينين هو منهاج مريح جدًّا، ولكنه خطير وخيم العواقب، وبنظرة ثانية إلى كلامنا السابق ستجدين وضوحاً، وتحديداً فيما قلنا: إنه يستدعي مراجعة طبيب نفساني.
وللخلط مثال في كلامك فقد سبق لك وصف علاقتك بأهلك والصدام المكتوم حول هذا الشاب الذي تقدم إليك، ورفضهم له لأسباب بدا من كلامك أنها مادية بحتة، ثم تركه وعزوفه عن مواصلة السعي لإتمام الأمر.. إلخ مما جاء في كلامك خاصًّا بمسلك أهلك، ومسلك الشاب فإننا رأينا وما زلنا نرى أن هذا كله انطوى على إساءة تقدير وتدبير من أهلك، ومنك، وربما من الشاب إن كان بالفعل يحبك كما يبدو من حاله.
إساءة التقدير هذه ارتدت في إدراكك سرابيل براقة ومريحة – كما قلت – فأصبحت ترين نفسك مجاهدة تحاول تطبيق الإسلام، وترين في أهلك فريقًا يعاديه، وفي فتاك مضيعًا لحقوق الله وبدون أقنعة تتضح الأمور أكثر مما يقدمنا خطوات إلى الأمام:
1- قد يكون أهلك أصحاب طموحات عالية ماديًّا من وراء تزويجك، وقد يكونون معترضين على الشاب أصلاً، ويحاولون تعجيزه ليكون الرفض من جانبه هو، وسيظهر هذا إذا تقدم لك آخر غيره.
2- لا يبرر موقف أهلك جميعاً منك هذه المشاعر التي تحدثت عنها في رسالتك السابقة تجاههم، ـ والتي قمت أنا بحذفها لقسوة ألفاظها من ناحية وللحفاظ على سرية شخصيتك من ناحية أخرى، وتحاولين إلباسها سرابيل الدين هذه المرة.
3- أؤكد لك أن الحوار الملح المؤدب دون استعلاء أو خلط له أبلغ الأثر في تغيير مواقف الناس تجاه مختلف القضايا، وتملكين أن تكوني أكثر إيجابية في تعاملك معهم: حوارًا، وتفاوضًا، وإقناعًا، واعتراضًا.. إلخ بدلاً من مركب السلبية المتضمن لتبرير مواقفهم العدائية منك بأنك أفضل منهم، أو بأنهم أعداء للإسلام يحاولون منعك من تطبيقه.
4- تفاقم المشاعر السلبية إذا ترافق مع عدم وجود اهتمامات وأنشطة حقيقية تستثمر طاقتك الذهنية والروحية والاجتماعية من شأنه أن يفتك بسلامك النفسي، الأمر الذي قد يحتاج فعلاً إلى مراجعة طبيب متخصص، ليس لأنك "مجنونة" لا سمح الله، ولكن لأن توازنك النفسي في خطر، وتحتاجين إلى عون متخصص لضبطه.
وأخيراً في قفزاتك المدهشة تستدعين شأن إبراهيم مع أبيه، وموسى مع فرعون، وتقولين عن سيدنا إبراهيم قوله لأبيه: "يا أبت اتبعني أهدك صراطاً سويّا.... الآيات".
وتتساءلين: بربكم هل يستطيع أحدنا أن يخاطب أباه بهذه الطريقة في عصرنا هذا؟!، وأنا أرد عليك: نعم، يستطيع أحدنا أن يخاطب أباه بهذه الطريقة، فقط إذا كان من يخاطب أباه هكذا نبيًّا مثلما كان إبراهيم عليه السلام، ولا تحرمينا من تواصلك معنا.