الوسواس القهري بين الفقهاء والأطباء! من جديد مشاركة2
بسم الله الرحمن الرحيم،
الأستاذ الدكتور وائل أبو هندي والأستاذ مسعود صبري، وجميع الإخوة الأساتذة الكرام فريق صفحة استشارات مجانين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أرجو المعذرة فقد كان علي أن أقوم بإرسال متابعة لمشاركتي السابقة بين الفقهاء والأطباء.. الوسواس القهري من جديد في وقت مبكر، وكنت مشغولا خلال الشهر الماضي، لكني استعملت هذه الفترة لأجمع أفكاري؛ حيث إن مشاركتي السابقة كتبتها على عجالة من مكتبي، وأعتقد أنها مشكلة أكثر منها مشاركة.
أولا أحب أن أشكركم جزيل الشكر على اهتمامكم بالموضوع وإشراك د. مسعود صبري في الرد على مشاركتي التي يبدو أنها كان الأحرى أن تكون مشكلة لا مشاركة. وإن إحساسي بالجهد الذي تبذلونه في الرد يدفعني لأن أكون أكثر تفصيلاً ووضوحا في طرح ما لدي. كما أشكر أيضا الإخوة الذين شاركوا بالرد على هذا الموضوع.
سأحاول أن أكتب بصراحة ما أمكن، وأرجو من حضراتكم عدم نشر ما ترونه غير مناسب.
عندما وصلت لسن الخامسة عشرة بدأت أتساءل:
لماذا الإسلام هو الدين الصحيح وغيره خطأ؟ أليس الآخرون أيضا يظنون أنهم على صواب ونحن على خطأ؟ لقد درست أن في بعض البلدان (مثل الهند أو في أفريقيا على ما أظن) آلافا من المعتقدات الدينية.. فهل علي أن أدرسها كلها لأعرف ما هو الصحيح؟ أم هل يكفي دراسة الأديان الثلاثة السماوية (اليهودية والمسيحية والإسلام)؟ ولماذا أصلا علي أن أبحث عن الدين الصحيح؟
والجواب أننا نعرف أن من يموت كافرا يخلد في النار، وبالتالي قد يكون الحال كذلك أيضا عند أصحاب الديانات الأخرى؛ أي أننا في معتقدهم سنخلد في النار.
طرحت هذه الأسئلة على أبي وأمي، ولم يكن هذا سهلا علي، لكن الموضوع كان فوق طاقتي. لا أذكر ماذا أجابوني بالضبط، لكني أذكر أني كنت في غاية القلق والاضطراب، وقالت لي أمي: إن هذا من علامات الإيمان، وأخبرتني بأن الصحابة كانوا يأتون للرسول صلى الله عليه وسلم ويشتكون لما يجدونه في صدورهم فيخبرهم أن ذلك صريح الإيمان. لاحظت أن أفكاري كانت مختلفة بعض الشيء، لكن لم أعرف كيف أشرح لها ذلك. وكنت أشعر بأني أسوأ من كل من حولي من أصحابي، سواء منهم الملتزمون أو المهملون؛ فحتى المهملون على الأقل لم يصلوا للتساؤل حول عقيدتهم، وكان يؤلمني أن أكون أحيانا مع بعض الأصدقاء في المسجد ولا أستطيع أن أبوح لهم بذلك حتى لا ينظروا لي نظرة سيئة، وكنت أخشى أيضا أن أنقل هذه الأفكار إلى الآخرين حتى لا يصابوا بمثل حالتي!
وبمرور الوقت تركت موضوع السؤال عن العقيدة، وكما قلت سابقا تكونت عندي قناعة بأني عملت ما أستطيع، وأن الله سيعذرني حتى لو كنت على خطأ، ما دمت لم أكن قاصدا، وأني أتبع تعاليم الدين الذي يغلب على ظني أنه صحيح؛ فهذا يكفي (مع أني لم أجد في الإسلام أن من يتبع دينا آخر سينجو من عذاب الله).
وبعد عدة سنوات عندما اقتربت من التخرج في الجامعة (أي عندما كان عمري حوالي 22 سنة) رجعت أفكر بهذا الموضوع، وربما كان ما دفعني لذلك آية قرأتها في سورة يس {والشمس تجري لمستقر لها} طبعاً الآية نفسها لم تسبب لي مشكلة؛ لأننا نعرف من علم الفلك الحديث أن الشمس تجري، وكل النجوم تجري في المجرة، لكن المشكلة كانت في الحديث الذي فسر تلك الآية، وهو موجود في البخاري ومسلم، وهذا نص البخاري: "حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس: أتدري أين تذهب؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، يقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها؛ فذلك قوله تعالى".
طبعاً سألت عن هذا الحديث، وطبعاً الناس أعطوني تأويلات أن هذا شيء معنوي يدل على خضوع الشمس وكل ما في الكون لإرادة الله. العجيب أني بعد ذلك بمدة قرأت في أحد المواقع الإسلامية على الإنترنت من كاتب ينكر دوران الأرض حول الشمس، ويقول: إن ذلك يناقض حديث سجود الشمس تحت العرش، بل ويحتج في ذلك بأن من قالوا بهذه الحقائق هم علماء أهل الكتاب، ونحن مأمورون بألا نصدقهم ولا نكذبهم! ويدعي أن ذلك لا يقتصر على أمور الدين فقط.
طبعا هذا منطق لم يقنعني، ولكن الذي لاحظته هو أن هناك أناسا يقولون بأن دوران الأرض حول الشمس يناقض الأحاديث، وجاءوا بأحاديث أخرى عن البيت المعمور وأشياء أخرى. أريد أن أوضح هنا أن موضوع دوران الأرض ليس مجرد نظرية تحتمل الصواب أو الخطأ، بل هي أمر مثبت بالتجربة والقياس والحسابات.
وبسبب اهتمامي بموضوع الدين والعقيدة قرأت كتابين للأستاذ سعيد حوى رحمه الله بعنوان "الله جل جلاله"، و"محمد صلى الله عليه وسلم". الكتاب الأول يتحدث عن أدلة وجود الله سبحانه وتعالى، والثاني يثبت أدلة نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
أريد أن أقول هنا:
إن موضوع وجود الله لا يمكن إنكاره، ثم إني لا يمكن أن أتخيل ألا يكون هناك حساب للإنسان على ما فعله في هذه الحياة، وإلا كان في ذلك ظلم مبين. لكن هل صفات الله كما نعرفها في الإسلام (وخاصة الوحدانية) وصفات الثواب والعقاب والجنة والنار هي أشياء يمكن أن ندركها بأنفسنا دون وحي من الله؟
لقد قادني كتاب "الرسول صلى الله عليه وسلم" إلى كتاب آخر هو "إظهار الحق" للشيخ رحمة الله الهندي رحمه الله، وهو كتاب رائع تناول كتب العهد القديم والعهد الجديد، وبيّن بطلان عقيدة التثليث، وتحريف تلك الكتب، وبطلان الأدلة النقلية والعقلية على ألوهية المسيح، كما أنه تطرق بإيجاز لأدلة نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
ولم أكتف بذلك بل ذهبت إلى مكتبة مسيحية، واشتريت نسخة عربية مما يسمونه "الكتاب المقدس"، وبعض الكتيبات التي تتكلم عن التثليث والصلب والفداء، والسبب أني أردت أن أطابق ما يقوله علماؤنا عنهم بما هو موجود في كتبهم فعلا. وقد وجدت أن معتقداتهم لا يمكن أن يقبلها العقل، خصوصا إذا فكرنا فيها بعقلية إنسان مسلم، ولأنهم يصرون على عدم استعمال العقل في الحكم على الأمور العقيدية كقضية التثليث، حتى في أحد الكتيبات قال المؤلف: إنك إذا استعملت عقلك فهو قاصر ومتأثر بالخطيئة، ولكن يجب القبول بهذه العقيدة؛ لأنها ثابتة في الكتب؛ أي أنهم يعتمدون على قبول النصوص دون استعمال العقل. ثم إن الصفات التي يصفون بها الأنبياء والمعاصي التي ينسبونها إليهم تأنف النفس تصديقها.
وخلاصة القول: إنه من خلال كتب إظهار الحق يمكن الحكم على المسيحية واليهودية الحاليتين بالبطلان.
لكن المشكلة أن قراءة هذا الكتاب قد نمّت عندي ملكة النقد واستعمال العقل بالأسلوب الذي يستعمله الكاتب للحكم على الأديان الأخرى، كما أني لا أعرف ماذا يعني التفكير المنطقي أو الـ common sense في مثل هذه الأمور؟ هل هناك أشياء يمكن أن يتفق عليها كل البشر بحيث يحكمون على صحة وبطلان الدين بنفس المعايير التي نتبعها نحن؟ مثلا نحن كمسلمين لا يمكن أن نستسيغ أن نبيا يمكن أن يقترف الزنا (حاشا)، بينما تجد المسيحي لا يجد في ذلك غضاضة. وكذلك نحن لا يمكن أن نقبل أن ينسب لله أنه اتخذ ولدا، بينما تجد المسيحي لا يقبل العكس. وكذلك نحن نستدل بوجود التناقض في كتبهم المقدسة على بطلانها أو تحريفها بينما هم لا يرون في ذلك مشكلة، وهكذا..
وفي المقابل أجد في الإسلام أمورا غيبية لا يمكن إخضاعها للعقل، كتفسير بعض الآيات التي تتعلق بالأمور الكونية مثل السماوات السبع ومثل حديث سجود الشمس الذي ذكرته. كما أن هناك مثلا حديث تكون الجنين فبالرغم من أني درست أن نوع الجنين يتحدد من أول لحظة بعد اتحاد الحيوان المنوي بالبويضة، فإن هذه الفتوى (استناداً على حديث) يقول "ومن ثم فمن أراد أن يكون المولود ذكرا أو أنثى فعليه أن يتوجه إلى الله تعالى بخالص الدعاء قبل أن يؤمر الملك بتشكيل الجنين وكتابة رزقه وأجله؛ فقد يصادف العبد ساعة إجابة فيستجيب الله له، فتضع المرأة يدها على بطنها أو يضع الرجل يده على بطن زوجه ثم يدعو الله بما شاء".
والمعتاد في مثل هذه الأمور أن العلماء يؤولون النصوص حتى تتفق مع الواقع؛ فمثلا يقال بأن تحديد جنس الجنين معناه تشكيله بحيث يكون ذكرا أو أنثى، وليس تحديده من حيث المبدأ مع أنه لا يفهم ذلك من الفتوى المذكورة، وكذلك التأويل الخاص بحديث ذهاب الشمس للسجود كما ذكرت سابقا.
أريد أن أقول:
إنه إذا كان كل نص يمكن أن يقبل بالتأويل فإن النصارى كثيرا ما يدفعون الانتقادات التي تثار على نصوصهم بنفس الطريقة. على سبيل المثال كان لدي زميل مسيحي شبه وجود أربعة أناجيل بالعمود الذي له أربعة جوانب ولكنه عمود واحد! ومثلا يدافعون عن التثليث بقولهم: كما أن الماء يتكون من أكسجين وهيدروجين وهيدروجين ولكن الماء واحد؛ فكذلك ينطبق الأمر على ثالوثهم.. وهكذا. لذلك فإن منطق التأويل المعقد هذا لا يعجبني، وطبعا يمكن أن تقول ذلك بسهولة عندما يتعلق الأمر بنصوص الغير، أما في نصوصك فلا يمكنك إلا أن تؤولها.
لقد تحيرت:
هل الحكم على صحة الدين يخضع للعقل أم أنه يخضع للنص؟ وهل إنكار ما لا يليق بالله يخضع للعقل أم للنص؟ هناك آية في القرآن تقول: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِين}، وفي تفسير هذه الآية يقول ابن كثير: "يَقُول تَعَالَى قُلْ يَا مُحَمَّد إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَد فَأَنَا أَوَّل الْعَابِدِينَ، أَيْ لَوْ فُرِضَ هَذَا لَعَبَدْتُهُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنِّي عَبْد مِنْ عَبِيده مُطِيع لِجَمِيعِ مَا يَأْمُرنِي بِهِ لَيْسَ عِنْدِي اِسْتِكْبَار وَلَا إِبَاء عَنْ عِبَادَته؛ فَلَوْ فُرِضَ هَذَا لَكَانَ هَذَا، وَلَكِنَّ هَذَا مُمْتَنِع فِي حَقّه تَعَالَى وَالشَّرْط لا يَلْزَم مِنْهُ الْوُقُوع وَلا الْجَوَاز أَيْضًا كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {لَوْ أَرَادَ اللَّه أَنْ يَتَّخِذ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُق مَا يَشَاء سُبْحَانه هُوَ اللَّه الْوَاحِد الْقَهَّار}". إذن أفهم من ذلك أن سبب إنكارنا أن الله اتخذ ولدا هو إنكاره ذلك عن نفسه، وليس أن عقلنا يرفض ذلك أو أن ذلك أمر ممتنع لذاته..
مما سبق توصلت إلى أن المحور الذي علي أن أبحث عنه هو ثبوت الرسالة للرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من تركيزي على مدى تطابق المحتوى مع العقل. لقد سمعت الشيخ أحمد ديدات في مناظراته يؤكد على أن النبي الحق يعرف من ثماره، وضرب أمثلة كيف أن المسلمين هم أقل الناس في العالم تعاطيا للخمور، وأكثرهم صدقة، وأقلهم تفككا اجتماعيا وهكذا. في الحقيقة إن وجهة نظره سليمة، لكن لو فكرنا من هذا المنطلق فيمكن أن نرى كيف أن المسلمين اليوم مستضعفون ومغلوبون على أمرهم؛ بل ومكروهون من معظم أمم الأرض، وكيف أصبح الناس اليوم باسم الإسلام يقتلون ويفجرون ويحرقون اليابس والأخضر.
وأريد أن أضرب بعض الأمثلة الأخرى، نحن الآن نستنكر ما تفعله أمريكا من احتلالها العراق والسيطرة على مقدراته، وما فعله اليهود باحتلالهم أرض فلسطين، إذن ماذا لو انعكس الوضع؟ عندما يحتل المسلمون أرضا نقول: "هذا فتح"، وإذا احتل الآخرون أرض المسلمين نقول: "هذا احتلال".
ومثلا عندنا أن المؤمن لا يُقتل بكافر؛ أي أن المسلم إذا قتل كافرا لا يقتص منه بالقتل، مع أني أعتقد أنه لو جاء الآن بلد غربي وأقر قانونا بأن المسيحي لو قتل غير مسلم لا يقتل لأنكرنا عليهم ذلك كما ننكر منع المسلمات في فرنسا من ارتداء الحجاب.
ونحن نقول:
إن الجهاد واجب إذا مُنع المسلمون من نشر الدعوة في بلاد الكفر، ولكن مع ذلك قرأت أن المنصرين يعاقبون بالقتل، عندنا غير المسلم (أي الذمي) يدفع الجزية وهو صاغر، وفي أحد التفاسير قرأت أنه يضرب على قفاه وهو يدفع الجزية. وكذلك قرأت في موقع "الشبكة الإسلامية" أن الرسول صلى الله عليه وسلم "كان إذا غزا قوما لم يغر عليهم حتى يصبح وينتظر، فإن سمع الأذان كف عنهم وإلا أغار عليهم".
فجعل عدم رفع الأذان سببا كافيا للإغارة على القوم، ومعظم العلماء يقولون: إن التخيير يكون بين الإسلام والجزية والقتال (وليس لمجرد منع الدعوة)، وأنا لا أعرف كيف يتفق ذلك مع "لا إكراه في الدين"؟ (ويبدو أن هناك من قال بنسخ هذه الآية!) هل الذي يخير بين الإسلام والجزية هو غير مكره؟ وفي أحد خطب الجمعة سمعت في تفسير آية "ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك..." أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل المنافق الذي لم يقبل بحكم رسول الله، وأراد أن يحتكم إلى رجل يهودي؛ فهل ذلك سبب كاف لقتله؟
وبما أنه في الإسلام الناس كلهم سواء، ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، فلماذا في الحديث "لأن أذكر الله تعالى من طلوع الشمس أكبر وأهلل وأسبح أحب إلي من أن أعتق أربعا من ولد إسماعيل، ولأن أذكر الله من صلاة العصر إلى أن تغيب الشمس أحب إلي من أن أعتق كذا وكذا من ولد إسماعيل".. لماذا خصص ولد إسماعيل؟ وفي موقع الشبكة الإسلامية أيضاً قرأت أن الإمام (أي الخليفة) يجب أن يكون من قريش فهل هذا يتفق مع المساواة بين الناس؟
إن أشياء كهذه وغيرها تسبب لي حيرة شديدة؛ فبينما نكبّر ونضخم التناقض عندما يكون في نصوص الآخرين نبرره أو نؤوله عندما يكون عندنا؛ فيصبح علي أن أصدق أن الشيء وضده لا يتعارضان! أي أن الإكراه في الدين لا يتعارض مع تخيير الناس بين الإسلام والجزية والقتال، وأن تخصيص الإمامة في قريش وحديث ولد إسماعيل لا يتنافى مع المساواة بين الناس وهكذا.. هذا فضلا عن الأحاديث التي تتعلق بالأمور العلمية (وليس النظريات التي تحتمل الخطأ)، ألا ترون أيها الإخوة أن هذا فوق العقل؟ فإذا لم يكن العقل هو السبيل للحكم على العقيدة الصحيحة.. فماذا يكون السبيل؟
لقد قال لي أحد الإخوة:
إنه لو كانت معرفة الدين الصحيح يمكن حسابها بنفس البساطة التي يمكن فيها حساب معادلة رياضية أو كيميائية لما كان هناك معنى للثواب والعقاب لمن آمن ومن كفر. هل حقاً هذا صحيح؟ إن ما أعتقده هو أنه لما كان هذا التغليظ في العقاب على من كفر إذن لا بد أنه جحد أدلة واضحة دامغة لا تقبل الشك.
نعم إن مقارنة الإسلام بالمسيحية دائما تظهر الغلبة للإسلام، لكن هل أسلوب التفضيل بين الأديان هو الذي يجب أن يتبع في معرفة الدين الصحيح؟ وهل يجب الاقتصار على هذه الأديان في المقارنة؟ هل حقا الأمور الثابتة تاريخيا (مثل معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم) كالثابت مشاهدة في إقامة الحجة كما قال الأستاذ سعيد حوى رحمه الله؟ وما هو الثابت تاريخيا أصلا؟ فكثير من المؤرخين كتبوا التاريخ من وجهة نظرهم، وما هو الحد الفاصل بين استعمال العقل وعدم استعماله في الحكم على الأمور العقيدية؟
هناك كثير من أدلة الإعجاز العلمي في القرآن قرأتها أشار إليها الإخوة الذين شاركوا على مشكلتي، وإني دائما أذكر نفسي بها كلما فكرت في تلك الأمور التي ذكرتها لكم وغيرها، لكن قناعتي بأن الدين الحقيقي لا يمكن أن يكون فيه أي خلل أو تناقض هي التي سببت لي الاضطراب والتوتر وما يسمى بالوسواس القهري.
ولا أنكر أني ربما يكون عندي استعداد أكثر للإصابة بهذا الوسواس، ولكن يبقى أن أسئلتي ليست أسئلة سفسطائية، وليست متكلفة؛ بحيث لا تصدر إلا عن مريض بالوسواس؛ لذلك فإني أرى أنه من حقي أن أبحث عن إجابة عنها.
ولدي سؤال آخر مهم أريد أن أسأله: هل الإيمان الحقيقي يجب أن يكون أن نؤمن بأركان الإيمان كما لو كنا نراها رأي العين؟ أم أنه يكون بغلبة الظن؟ أم أنه يكون على قدر الإمكان؟
أما قول الدكتور وائل "فالمشكلة التي تقف وراء معاناة الأخ صاحب المشكلة الأصلية ليست مشكلة عقدية ولا شبهة يحتاج فيها إلى من يصوب له تفكيره مثلما قد يحدث لكل إنسان طبيعي وتنتهي مشكلته حين يستفتي عالمًا بالدين أو يستفهم من فقيه، وإنما مشكلته تقع في أنه قد يكون مقتنعًا تمامًا بما يقوله له العالم أو الفقيه، ولكنه رغم ذلك لا يستطيع كبح جماح أفكاره؛ لهذا السبب لم ندخل مع الأخ صاحب المشكلة في جدل حول ما نؤمن به جميعًا، ويتشكك هو فيه ويجادل؛ لأننا نعرف أن المشكلة ليست في هذا، ونعرف أن تفكيره ليس تفكيرًا طبيعيًّا؛ بحيث ينتهي عذابه إذا اقتنع باعوجاج طريقته في التفكير".. فأظنه غير دقيق؛ فإني يا دكتور لا أحمّل الأمور فوق ما تحتمل، فإذا حصلت على إجابة شافية فإني أكتفي بها، أما إصراركم على تجاهل الأسئلة بحجة أن طريقتي في التفكير فيها اعوجاج؛ فهذا هو الذي يزيد الأمر سوءًا؛ حيث إن الأسئلة التي أسألها طبيعية، ولكن الكثير يصر على تجاهلها أو إجابتها إجابة غير مقنعة (وانظر مثلا الإجابة على سؤال حول آية "والشمس تجري" فقد قال "قد يكون هذا الحديث في بداية خلق الكون، والكون كله بأمر الله سبحانه وتعالى. هل هذه إجابة مقنعة من وجهة نظرك؟ هل تعتبر تفكيري معوجا إذا رأيتها غير مقنعة).
وفي النهاية إني لا أرى المشكلة الحالية بالنسبة لي هي الوسواس القهري؛ لأني وإن كان لدي بعض التساؤلات المحيرة فإنها لا تسيطر على تفكيري؛ لأني بسبب الفترة التي تعبت فيها من التفكير (وقد مرت عليها قرابة 5 سنوات) أصبحت أصرف الفكرة عن ذهني كلما بدأت ولا أسمح لها بالاجترار، وأستعين على ذلك بالابتعاد عن قراءة ما كان يسبب لي التفكير فيها، وأكتفي بقراءة ما أحتاجه في أمور ديني، وأعتقد أن نجاحي في ذلك يدل على أني لست مريضا، وإن كان لدي الاستعداد المرضي كما قلت، وما عجزت عن معرفته فقد أرجعته إلى علم الله.
إن ما أطمح إليه هو الوصول إلى إستراتيجية موحدة، إذا اتبعها إنسان محايد في التفكير فإنها ستوصله إلى الإيمان بالإسلام على أنه الدين الحق، اللهم إلا إذا كان على كل إنسان أن يصنع تجربته الخاصة بنفسه. وفي الختام أقول: "رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا".
28/9/2024
رد المستشار
الأخ العزيز صاحب المشكلة/المشاركة، وسبب المشكلة/المشاركات، وأخيرا أخيرا صاحب المشكلة/المشاركة/المتابعة، وأنا لن أفسر لك معنى هذا الرص للألفاظ، وعليك بمتابعة ما فاتك من صولات وجولات على هذه الصفحة من صفحات مجانين، من تحت رأس مشاركتك المشكلة الأولى؛ فقد أخذتني المشاركات حولها ما بين الفقه الإسلامي والطب النفساني حتى اكتسبت علما أحمد الله عليه جعلني أرفع الرأس، وأقول:
إننا أمة اصطفاها الله بأن تكونَ أمةً علمية عندما وضع علماء أصول الفقه الأسس العلمية في البحث، المهم أنها رحلة أسعدتني قدر ما أرهقتني فلك الثواب من الله.
أما إفادتك اليوم يا أخي فإنها أصعب من كل ما سبق، وأدعى للتأمل في الخلفية المعرفية التي تنطلق منها، وهي قد تكون طبيعية، وقد تصبح مرضية، ولله الأمر من قبل ومن بعد، ولكن لديك مشكلة معرفية؛ فأنت تعبر لنا في آخر إفادتك عما تود الوصول إليه بقولك:
"إن ما أطمح إليه هو الوصول إلى إستراتيجية موحدة، إذا اتبعها إنسان محايد في التفكير فإنها ستوصله إلى الإيمان بالإسلام على أنه الدين الحق".
وهنا أدعوك أولا إلى تذكر قول الله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (الروم: 30).
وكذلك إلى تذكر حديث سيد الخلق عليه أفضل الصلاة والسلام:
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: "كل مولود يولد على الفطرة؛ فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" (رواه مسلم والبخاري).
وروى مسلم أيضًا في الحديث القدسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"قال الله تعالى: خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم، وحرّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرتْهم أن يُشركوا بي ما لم أنزّل به سلطانا".
ولنتساءل بعد ذلك: ما هي الفطرة؟
فأما علماء التفسير فمنهم من فسرها بـ"الحنيفية"؛ أي ملة إبراهيم عليه السلام، ومنهم من فسرها بملة الإسلام، والفطرة هي من ضمن الأمور التي جعلها الله سبحانه لهداية الإنسان، وجعلها ضمن طبيعته، ومن خلالها يرى الإنسان طريق الخير ويستنكر طريق الباطل؛ فالإنسان بفطرته يستطيع أن يتلمس الخطوط الرئيسية لطريق الحق، وإذا طمست هذه الفطرة نتيجة الفكر أو الممارسة؛ فإن الإنسان تختلف عليه الأمور، وإلا فهو يدرك بفطرته أن الصدق أفضل من الكذب، وأن الأمانة أفضل من الخيانة، وغير ذلك من الأمور، وهذه الفطرة هي إعانة من الله سبحانه وتعالى للإنسان لكي يسير على طريق الخير والصلاح.
وإذا تذكرنا حال أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام كما وصفه القرآن الكريم:
(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الأَفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ) (الأنعام 76-78).
إذن فإننا سنجد الفطرة إنما تدفع الإنسان في طريق البحث عن خالق لهذا الكون، وأن الفكرة عن الخالق سبحانه وتعالى ستقدم له من أهله وذويه، وأما ما تطمح إليه أنت من إستراتيجية موحدة ليصل بها المحايد إلى الإسلام تحديدا فأمر مختلف، وعلينا أن نحمد الله سبحانه وتعالى على نعمة الإسلام، وعلى أن جنبنا متاهة الرحلة التي تفترض في أول إفادتك أن عليك أن تقوم بها؛ لأن النتيجة المنطقية لذلك هي كما قلت أن على كل إنسان أن يكابد تجربته الخاصة، ولا تسألني: ولماذا لا تكون الفرص متساوية للجميع لكي يتحقق العدل؟ فمثل هذا السؤال سببه الجهل بحكمة الله تعالى وسنته في خلقه، ومعلوم أنه يستحيل أن تكون الفرص للجميع واحدة مع تعدد وكثرة الديانات البشرية.
ويقول تعالى: (إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَّشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (التكوير:27-29)، أي أن الهداية إلى الإسلام تحصل بمشيئة الإنسان واختياره؛ لأن الله تعالى أعطى الإنسان القدرة على الفرق بين الحق والباطل، والنافع والضار بما ركّب فيهم من العقل، وبما بعث به رسله من البينات، ومع ذلك فمشيئة العبد تابعة لمشيئة الله؛ فإنه الذي يُضلّ من يشاء بعدله وحكمته، ويهدي من يشاء بفضله وحكمته، نسأله الهداية جميعا ونحمده على نعمة الإسلام.
ويقول الأستاذ محمد قطب: "الدين من صميم الفطرة.. ففي صميم الفطرة أن تحس بالله على نحو من الأنحاء.. وقد لا تهتدي دائما إلى الصورة الصحيحة للعقيدة، وقد تمزج بها كثيرا من الأساطير، وقد تتصور الحقيقة الإلهية تصورا منحرفا، بل قد تلحد إلحادا ومع ذلك يظل في صميمها هذا الإدراك لوجود خالق لهذا الكون".
وأما ما يقوله أطباء النفس المسلمون في الفطرة فإنني أستشهد بكلام أخي وزميلي الدكتور محمد المهدي في كتابه "مستويات النفس"؛ حيث يبين قصور نظرية فرويد، الذي بنى نظريته المشهورة على أساس أن الهو Id والذي يمثل مستودع الطاقات الغريزية (الجنسية على وجه الخصوص) هو الجزء الأصلي في تكوين النشاطات النفسانية، وأن أي نشاطات تنمو في الإنسان بعد ذلك إنما هي ردود أفعال لاصطدام الدفعات الغريزية الصادرة عن الهو بالواقع، ويستكمل الدكتور محمد المهدي: وطبقا لهذا المفهوم تصبح الأخلاق والضمير وكل شيء في الإنسان نشاطات ثانوية غير أصيلة، بينما الغرائز هي الجزء الأصيل في الشخصية، وبهذا تحكم نظرية فرويد على الفطرة الإنسانية بالفساد من بدايتها، ثم تحكم على الأنا Ego الذي يتشكل نتيجة لاصطدام الغرائز بالواقع تحكم عليه بالنفاق!
المهم كي لا أطيل عليك أن فرويد نفسه وجد في مرحلة من مراحل تشكل نظريته أن هناك نشاطات أخرى للإنسان، لها جذور أخرى منفصلة عن الصراع المذكور، ولم تكن نشأتها بسببه، وسماها الوظائف الأولية المستقلة Primary Autonomous Functions، فهل تعرف ما هي هذه الوظائف؟ إنها الإدراك والحدس والتفكير والذكاء واللغة؟! أي ما يقترب جدا من مفهوم الفطرة في الإسلام.
وأما ما ورد في إفادتك مما نستطيع تسميته بالشبهات في الدين التي قمت بتجميع روابطها لنا ونشكرك على ذلك، فرغم أن من السهل أن أتركها لأخي مسعود صبري من قسم الفتوى ، فإنني أتخيلك مريضا يجلس أمامي، ويسألني، وعلي أن أكونَ مسلحا بالرد، وهو مهما بلغت من القوة فيه متروك لرفيف، فأما الأمر الأول الذي اشتبه عليك ويتعلق بحديث الشمس والعرش، فإن المعنى الذي فهمته يا أخي هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يبين لنا بقوله يوشك أن القيامة قد اقتربت، وأما فيما يتعلق بالبيت المعمور والفتوى التي أشرت إليها، فإنها ليست المرة الأولى التي نتعرض فيها لمقولة نعرف أن صاحبها رجع عنها، وأنا معك في أن الرد الموجود على الرابط الذي أحلتنا إليه غير منطقي، ولكن عليك أن تتذكر دائما أننا نعرف الرجال بالحق ولا نعرف الحق بالرجال، ونحيلك إلى الرابط التالي لتقرأ ما يرفع عنك الشبهة إن شاء الله فانقر ما يلي:
برجاء سرعة ضبط وإحضار المعلمة!وأما فيما يتعلق بنوع الجنين فإن ما نعرفه هو أن اتحاد حيوان منوي يحمل الكروموسوم إكس بالبويضة الأنثوية سينتج عنه أنثى، بينما اتحاد حيوان منوي يحمل الكروموسوم واي بالبويضة الأنثوية سينتج ذكرا، ويحدث هذا الاتحاد بعد فترة من اللقاء الجنسي في فترة الإخصاب، وأما متى سيحدث ذلك الاتحاد؛ أي في أي لحظة بعد الجماع؛ فأمر مختلف، ومن الممكن للحيوانات المنوية أن تبقى حية في أعضاء الأنثى لفترة بعد الجماع؛ فلا يحدث ذلك الاتحاد إلا بعد يوم أو أكثر على سبيل المثال.
وأما مسألة الملك فحكمها حكم الغيب لا ندري عنه شيئا؛ ففي أي شيء تجادل أنت؟ هل اعتراضك على الدعاء أم على وضع اليد على البطن أم على تفسير العلماء الذين قد يكون بعضهم غير ملم بعلوم الطب الحديثة؟ أنا شخصيا أرى أن دعاء الله سبحانه وتعالى مستحب في كل أمر.
وأما سؤالك عن الآية الكريمة رقم 81 في سورة الزخرف:
"قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ"، فلا أدري أصلا سببا للجدل فيها، إذا كان من المسلم به أن الله سبحانه وتعالى ما اتخذ صاحبةً ولا ولدا بنص القرآن الكريم، فمن قال لك: إننا نحتاج منطقيا إلى إثبات ذلك؟ رغم أن المنطق هنا قابل للتطبيق إذا تذكرت أن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء، وقرأت سورة الإخلاص: (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ).
بقي أن أطلب منك أن تقرأ إفادتك أو مشاركتك الأولى؛ لتعرف منها أنني ما أزال عند قولي فيما يتعلق بأفكارك التسلطية وأفعالك القهرية، وهي تظهر جلية في قولك:
"فأصبحت أبتعد عن قراءة الأحاديث التي تثير في نفسي هذه الأفكار، وأصبحت أحاول وأنا أقرأ القرآن أن أمر سريعا على الآيات التي تثير في نفسي -هي أو تفسيرها- هذه الأفكار"؛ فهذه أفعال قهرية، وأعتقد أنك تعرف معنى الفعل القهري، وعلاقته بالأفكار التسلطية كما ذكرنا في أكثر من إجابة، وأما قولك إنك إذا أعطيت ردا مقنعا فإنك تقتنع فإنني أسأل الله أن تكون كذلك وأن يخيب ظني، ولا أنصحك أبدا بإيقاف العلاج!
ويضيف د. أحمد عبد الله قائلا:
الأخ السائل لم أستطع منع نفسي وأنا أراجع إجابة د.وائل من التعليق على رسالتك، ولم أتابع تفاصيل ما تفضلت به من قبل، ولا ما أثاره من تفاعلات، وأود أن أسلط الضوء على نقاط محددة أراها جديرة بالتفكير والنقاش؛ لعلها تفيدك قبل غيرك، ويهمني الآخرون كذلك:
أما أن لديك وقتا وطاقة ترغب في استثمارها لصالح هذه الرحلة من الاستقصاء والتدقيق وإن طالت يتضمن هذا أن تتخصص في دراسة مقارنة الأديان مثلا، أو أنك مجرد باحث هاو لديه وقت محدود وجهد محدود، وبالتالي يسعك ما يسع غيرك من أمثال أصحاب نفس الظروف الحياتية، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
لا يمكن فصل ما هو تفكير نقدي محمود عما هو وسوسة مرضية مؤلمة إلا بالاستمرار في تعاطي العقاقير بالجرعة المناسبة لتجفيف الرافد والمنبع المرضي؛ فلا تبقى إلا التساؤلات التي أرى أن أغلبها وارد بل وقديم معروف، ولا أرى تعارضًا -على قدر ظروفك- أن تستمر في السؤال والبحث، ولكنك أيضًا مطالب بالاستمرار في العلاج لتصفية ذهنك، وتنقية مسارات ومدارات تفكيرك لصالح المعرفة والحقيقة، واستمع إلي أكثر:
مصادر المعرفة عند المسلم تبدأ بالوحي المسطور في كتاب الله سبحانه، وهو النص الوحيد قطعي الثبوت إيمانًا وبحثًا تاريخيًا؛ وهو ما يشهد ويؤكد أن القرآن هو كلام الله سبحانه، وأنه أصوب وأدق ما وصلنا منه سبحانه يخاطبنا جميعًا به، وعلينا أن نقرأه بهذه النفسانية والذهنية والروح؛ فهو قد نزل للبشر جميعًا.
وألفت نظرك إلى أن الأحاديث النبوية ناهيك عن تفسيراتها أو تفاسير آيات القرآن... إلخ هي مصادر ثانوية بدرجات، وهي ليست بنفس قطعية القرآن في الثبوت طبعًا، فما بالنا بالدلالة والمعنى؟! ففي حين نوقن بأن الله سبحانه وتعالى يقول لنا ما في القرآن دون شك في هذا، فإننا لسنا على نفس الدرجة من اليقين في أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال كذا أو كذا، إنما يغلب على الظن هذا -في حالة الأحاديث الصحيحة مثلاً وبدرجات- لأن الله قد تعهد بحفظ كتابه فقط، ولم يقل لنا إنه سيحفظ لنا "البخاري" أو "مسلم" أو تفسير ابن كثير من الخلط أو التحريف أو عدم الدقة، وأنا أراك تقفز بسهولة غير منهجية من الآية إلى الحديث إلى التفسير إلى ما سمعته في خطبة جمعة أو قرأته على موقع إلكتروني؛ فتجتمع لديك "بانوراما" من الخلط في المستويات تسبب لك المزيد من التشويش.
تبقى مسألة أخيرة، ولا أريد الاسترسال، وإن كانت رسالتك مليئة بالنقاط الموحية التي تستدعي التعقيب:
لا تعرف أنت ولا أعرف أنا، ولا يعرف أحد كيف سيحاسب الله سبحانه وتعالى البشر تحديدًا، أو كيف ستكون موازين الكفر والإيمان والعمل الصالح أو الفاسد، أو حسابات النوايا والسرائر التي لا يعلمها إلا الله، أو تسويات الفرص المتاحة لكل إنسان ليهتدي وهي مختلفة من إنسان لآخر، وفكرت وأنا في مثل سنك أن الله سبحانه سيحاسب الناس على قدر ما بذلوا رجاء وجهه الكريم وفي سبيله كدحًا بالإيمان والعمل الصالح، ولاحظ أن الفرق في جدليات وشبهات العقيدة يعطلك عن الكثير من الأعمال الصالحة التي تفيد الناس، وتنفع البشر، وتعمر الأرض بأكثر من تفاصيل كثيرة بعضها لا يؤثر إثباته، ولا يجدي نفيه، ولا يترتب على هذا أو ذاك أي عمل.فكرت أن الله سيحاسب الناس على قدر ما ساروا أو بذلوا بغض النظر عن النقطة التي وضعهم فيها ابتداء أو التي وصلوا إليها انتهاء، الحساب سيكون في تصوري المتواضع على قدر المسافة بين النقطتين التي تساوي مقدار الكدح؛ فهذا أهم.. من أين بدأ وأين انتهى؟
والمؤمن يسعى حثيثا، والكافر ينشغل بذاته وملذاته؛ فلا يسعى إلا وراءهما، ويترك كدحه في سبيل الله وعيا ومعرفة وعمارة الأرض، فحذار لأنك مستغرق في تفاصيل باحث ونظريات وفلسفات الإيمان، ومنشغل بها عن النهوض بمقتضياته.
وخذ عندك مقياسا لعله يفيدك: إذا كانت تساؤلاتك هذه تجعلك أكثر حساسية تجاه الناس، وأكثر مشاركة في تغيير الواقع إلى ما تعتقد أنه الأفضل وأكثر نفعا لكل من حولك فنعمت الأفكار هي، أما إذا كانت جزءا من عبوة فشل أو قعود أو كسل أو نقمة على الفساد أو الشر من بعيد لبعيد، وأصبحت حجابا بينك وبين النهوض بواجباتك الشخصية والعامة؛ فهي عندئذ جزء من عبوة أقرب على المرض النفساني وتحتاج إلى علاج.
أخي كان رسول لله صلى الله عليه وسلم ينقطع عن الناس، ويتحنث في غار حراء الليالي ذات العدد كما تذكر كتب السيرة، وفي روايات أنه كان ينقطع شهورا كاملة أحيانا، ثم لما جاءه الأمر من ربه قام فلم ينم إلا قليلا، وسار فجاهد وتزوج وعاش معلما وهاديا وسط الناس، ولم ينفق كثيرا من وقته في التفكير بالإيمان، ولكن في أعماله وهي كثيرة.سألت نفسي وأسألها دائما: لماذا أنا مسلم؟!
وأجدني أقول: لأنني عرفت الإسلام عقيدة أفهمتني عن الله، فاستقر بداخلي الشعور أنه حاضر في الوعي الإنساني وفي كل ذرة من الكيان والوجود دون حلول أو تجسد، ومن يريد أن ينفي هذا الوجود فعليه أن يدلل على النفي لا أن يكون مطلوبا منى أنا أن أدلل أنا على وجود يملأ بفيضه كل ذرة وخلية وكيان وحدث، ثم إنني مطمئن إلى أن المسلمين وأعداءهم قد شوهوا الإسلام في مسيرته بالجهل والعداوات، ولكن وحي الله ظل محفوظا غضا معجزا يصلني فيهزني، وكل من له فؤاد أو عقل أو ضمير، فمالي أنا وغيري ممن ليسوا كذلك؟! وما شأني كيف سيحاسبهم الله؟ وهل أنا الله حتى أنشغل بشئونهم سبحانه وتعالى؟!أما شئوني فهي كثيرة.
أرى ظلما وتخلفا أرى سقوطا وحقوقا ضائعة، وباطلا منتفشا يدق صدره، ويقول: هل من منازل؟!
أرى أولياء الله وهم قليل يضلون ويجاهدون وهم يصارعون أهواءهم وأعداءهم، وأرى أعداء الله يريدون علوا في الأرض وفسادا؛ فأجد نفسي ومهمتي وحقي وواجبي وهدفي وغايتي أن أكون ممن يعملون لتكون كلمة الله هي العليا على هذه الأرض، ولا يهمني والله هل هي التي تدور حول الشمس أو الشمس التي تدور!!إنقاذ أمتنا المسكينة من سوء العاقبة الذي ينتظرها في الدنيا بسبب واقعها الملموس الذي أراه وتراه بعينك والذي أستطيع وتستطيع بجهودك أن تساهم في تغييره، هذا الإنقاذ أهم عندي وربما عند الله من إثبات فساد عقيدة التثليث وهو ما قام به غيري، ولا أظنني سأضيف كثيرا خارقا إذا تفرغت لهذه "المهمة" بعد ما تفضلوا به.
قد تكون مريضا بالوسواس أو طالب حقيقة مستغرقا في تفاصيل الشبهات والردود أو تكون خليطا من هذا وذاك، ولكن الأخطر من حالتك أن جموعا كثيرة من أمتنا تصرف جهودا كبيرة جدا وتدخل معارك طاحنة من أجل قضايا ليست هي واجب الوقت، وأنت حيث تضع نفسك بعد ذلك.
وكذلك كل مسلم ومسلمة يختار المعركة الصواب أو الخطأ.
فقد تختار التخصص في هذا المجال لتنتج فيه ما ينفع الناس ويخدم الحقيقة، ولك عندئذ جزيل الشكر ويتقبل الله منك.
وقد تختار أن تكتفي بالقدر الذي تطمئن إليه وبه في أن الله سبحانه قد خلقنا لنعمر الأرض وأن القرآن كلامه وأوامره... إلخ.
وقد تختار أن تظل كما أنت مجاهدا في معركة ليست هي "أم المعارك" ولا أولاها بالخوض والتشمير، ولن تنتهي الشبهات والتساؤلات وبخاصة مع وجود الإنترنت وحجم المعلومات والمواد التي يحملها؛ فاختر لنفسك ما يحلو لك، والمرء حيث يضع نفسه.