أخي العزيز.. أنا طالب في كلية الطب في سنتي الدراسية الأخيرة. ولكنني لم أدخل هذا المجال عن اقتناع، ولكن إرضاءً لرغبة الأهل. الآن وأنا على وشك الانتهاء.. اكتشفت أني أنفر من مجال دراستي ولا أستطيع أن أتعمّق في دراسته. مع أني كنت من الطلبة المتفوقين، وهذا يسبب لي اضطرابات نفسية؛ فلا أنا قادر على ترك هذا المجال، ولا أنا قادر على إجبار نفسي على قراءة الكتب وحفظها لكي أكمل مشواري.. فما السبيل للتخلص من الندم؟؟ وما الوسيلة لتجديد الذات والعودة لجدّ العمل كما كنت في مبكر حياتي؟؟..
أرجو أن تكون المشكلة واضحة..
ولكم جزيل الشكر.
10/10/2024
رد المستشار
أشكر لك البوح بأمر قد يستغربه البعض، فمعظم الشباب في مثل سنك يعتبرون كلية الطب هي غاية الطموح، وقمة القمم، وهي كذلك إذا كانت هدفًا للتنافس الشريف، ومدخلاً لتخفيف آلام الناس، وحل مشكلاتهم في أعز ما يملكون، ألا وهو الصحة.
أتصوّر أن الأغلبية الساحقة من طلاب كلية الطب قد فكروا ولو لمرة واحدة في ترك الكلية إلى أخرى أسهل وأقصر، وذلك لأن ضغط الدراسة، والامتحانات المتوالية، وحجم الموادّ المطلوب استيعابها، والعلوم التي من المفترض الإلمام بها يحتاج إلى عون كبير من فريق التدريس، وتفرغ كامل من طالب يجيد مهارات كثيرة، وليس مجرد متفوق عادي، ولكن هذا ليس حاصلاً يا أخي العزيز: تدريس الطب في كثير من الجامعات لا يأخذ حقه، والضغط الأسري والاجتماعي يدفع بالبعض في اتجاه كلية تحتاج إلى قدرات خاصة.. إلخ.
ودعني هنا أتوقف لأسأل: هل هذا يقتصر على كلية الطب فقط؟! أعتقد أنك تعرف الإجابة، وهي متعلقة بنظامنا التعليمي، والاجتماعي، وأتصور أن قدراتنا -أنا وأنت- أقل من حل مشكلات النظامين.
وكل هذه المعاني دارت في ذهن الكثير من طلاب الطب بالتأكيد، و"التفكير العلمي" يقتضي إدراك الحقائق التالية:
أولاً: في ظل غياب التعليم المنشود في جامعاتنا تظل كلية الطب متميزة بالمنهاج العلمي الذي يتكون لدى الطالب فيها من كثرة ترديد هيكل معين في تغطية أي موضوع.. وسترى بعد ذلك، بل ومن الآن إذا دققت ستجد أن القدرة الذهنية لدى خريج الطب تفوق غيره، إذا تساوت بقية روافد المعرفية بينه وبين خريج أية كلية أخرى في ظل النظام التعليمي القائم.
ثانيًا: الضغط الدراسي الذي يواجهه طالب الطب، ويسبب لك أنت ما أسميته بالاضطرابات النفسانية هي مشكلة في ظل النظام الحالي، ولكنه ميزة من جانب آخر تتدرب فيها -إجباريًا - على التعامل مع الضغوط والمشكلات بما يمثل نضجًا وخبرة لا تتاح في كليات أسهل لا تحتاج إلى مذاكرة آخر شهرٍ كل عام.
ثالثاً: إن الحب والاقتناع ليس كل شيء إذا تحدثنا عن مواجهة مسؤوليات الحياة العملية، وستمر عليك في حياتك يا أخي أشياء كثيرة ستقوم بها -في طريقك للنجاح- رغم أنك غير مقتنع بها في ذاتها، ولكنها تبقى وسائل هامة لتحقيق الغاية المنشودة.
رابعًا: إن حشو الرأس بحفظ المعلومات الكثيرة ليس هو المهارة الأهم في الطب أو غيره، ولكن حسن استيعاب هذه المعلومات والقدرة على توظيفها في الممارسة العملية بعد التخرج هو المهم ، وأنبهك إلى أن كثيرًا من الموازين تنقلب على محك هذه الممارسة فيظهر أن محترفي "الحفظ والترديد" ربما يكونون من أفشل الأطباء ممارسة إذا لم يمتلكوا القدرة على التواصل مع المريض، وفهم أبعاد المرضى جميعًا، والانتباه إلى الخفي منها قبل الظاهر.
خامسًا: إذا كانت لك هواية محددة لا بأس أن تخدمها باطلاع بل ودراسة منهجية بما يتسع وقت ترويحك عن نفسك، وليس من الضروري أن تكون هوايتك هي مجال كسبك وعملك؛ فكم من المجالات التي نهواها تبدو أحلامًا لطيفة، لكنها في الواقع لا تصلح عملاً نحترفه، أو دورًا نقوم به في الحياة.
سادسًا: مجال الطب في ممارسته يتضمّن فروعًا متنوعة تتناسب مع الملكات والقدرات المختلفة كمًا وكيفًا فالجراحة تختلف عن التحاليل، والطب النفساني غير الأشعة العلاجية أو التشخصية فلا تجعل من تصور معين للطبيب الممارس يتسلط على ذهنك فترفضه لأن الاختيار بالفعل واسع ومتنوع، وهذه من مميزات الطب كدراسة وممارسة.
سابعاً: تحتاج إلى تغيير نظرتك التي يشوبها الكثير من الجوانب السالبة لنفسك ودراستك وثقتك بنفسك، والتي لا أساس لأغلب مفرداتها، هذا التغيير بيدك أنت، وهو ضروري إلى جانب ممارسة هواية تحبها، وإشباع الجوانب غير الدراسية في شخصيتك هو السبيل إلى تحديد روحك، والعودة لجد العمل.
ثامناً: هل أضيف لك ما تعرفه عن أهمية التوكل على الله، والالتجاء إليه في هذه وغيرها ليشرح لك الصدر، وييسر لك كل عسير في أي أمر، ويمد عزمك بمدد من عنده، ويجمع عليك ما تفرق من أمرك، ويتجاوز بك هذا الشعور بالندم، والنفور.
تاسعاً: هناك دور كبير للصحبة في التشجيع أو التنشيط، وأنت تختار الأصدقاء طاقات تدفع للنجاح، أو عقبات وعوائق في الطريق، و"المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل".
عاشرًا: التركيز الآن هام للغاية، وتجاهل الوساوس والهواجس، والتبريرات والهروب، والنهوض بالواجبات والمسؤوليات هو الأصل اللازم القيام به، وتستطيع في نهاية المطاف إن لم تعجبك ممارسة الطب أن تتحول عنه إلى غيره، ولكن متى تستطيع اتخاذ مثل هذا القرار إلا بعد خبرة وتجربة عملية تحكم من خلالها بفشل أو نجاح، ومن خلال وجود بديل واضح ومحدد وأفضل وأنفع، ولن يتوافر هذا قبل تخرجك وممارسة الطب بجدية لبعض الوقت، أما الآن فالهدف هو الحصول على البكالوريوس بأعلى تقدير ممكن لأن هذا التقدير سيلازمك مثل اسمك، ولون بشرتك من وقت تخرجك إلى أن يتوفاك الله، فهل يصلح أن تترك ما بين يديك من مسؤولية وفرصة لأنك وصلت إليها على غير رغبتك، أو لأنك متشكك في قدراتك - وقد اجتزت أغلب المسيرة - أو لأنك تدور أسيراً لهواجس أطلقتها ضغوط السنوات النهائية، وموادها الأصعب؟!
يا أخي دعك من كل هذه العوارض، وتخرج أولاً بالتفوق الذي اعتدته، وعندما تتخرج يكون لنا "كلام آخر" وفقك الله.
أعرف نماذج كثيرة لطلاب تركوا الطب بحثاً عن هواية أو اهتمام آخر ليخدموه عبر دراسته في الكلية المختصة، وبسبب قصور النظام التعليمي من ناحية، وقصور تصورهم عن قدراتهم ورغباتهم من ناحية أخرى وجدوا أنهم لم يحصدوا إلا الهشيم، ولم يلحقوا إلا بالسراب، وكانت هذه هي نتيجة تغليب "الفكر العاطفي".
واقرأ أيضًا:
حلم الطب ووجع القلب والنصيحة الصريحة!
طالب الطب: الوحدة والشعور بالذنب!
النفس والطب..