حواء العربية....عندما تكون بركة ماء
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
عندما قرأت مشكلة أختي الحائرة صاحبة مشكلة "حواء العربية....عندما تكون بركة ماء"، وددت أن أرسل لكم بهذه المشاركة. فقد ذكرتني الأخت الحائرة بنفسي في فترة خطوبتي والسنة الأولى من زواجي، فقد كنت نسخة طبق الأصل من أختي الحائرة أمضي يومي أتحدث مع خطيبي في التليفون، وأنتهي من الحديث معه لكي أنتظر مجيئه إلي، وإذا لم يأت لأي سبب تصيبني الكآبة، ويقلّ تناولي للطعام ورغبتي فيه؛ حتى إنني في أقل من 4 شهور -مدة خطوبتي- فقدت من وزني 10 كيلوجرامات، حتى إن الجميع لاحظوا هذا يوم زفافي. لن أستطرد في سرد تفاصيل هذه الفترة فهي والله مثل حال أختي بحذافيرها.
أما رد أمي الحبيبة د. سحر طلعت عليك فقد أعجبني مثل كل ردودها المتميزة دائما، وأرسلت بمشاركتي هذه لكي أخبرها بما كنت عليه وما أنا عليه الآن.
أختي الغالية:
لقد سافرت منذ عامين ونصف مع زوجي إلى إحدى الدول الأوربية؛ لأنه يقوم بإعداد رسالة الدكتوراة، وكنت قبل سفري قد أنهيت دراستي الجامعية، بعد وصولي كنت أجلس بالبيت أنتظر رجوع زوجي من المعمل الذي يجري أبحاثه فيه آخر اليوم وأنا أعد ساعات النهار والملل يغرقني أشاهد التلفزيون ثم أملُّ، أذهب لأنام وأيضا أمل من النوم، لدرجة أنني كنت آتي بالملابس من دولابي لأرتبها وأرتب سريري، ثم ما ألبث أن أبعثره مرة أخرى لأعيد ترتيبه، وهكذا كنت أبحث عن أي وسيلة لقتل الوقت والملل، لكن دون جدوى.
فأنا لا أستطيع أن ألوم زوجي أو أتهمه بالتقصير في حقي فهذا مستقبله ودراسته، ولا يستطيع أن يترك عمله لكي يظل بجانبي ليدفع عني الملل، بل كان التقصير مني في حق نفسي، فكرت في أن أكمل دراستي لكن واجهتني عقبات عدة، منها أنني قد حملت طفلي الأول، وأن باب التسجيل في هذا العام الدراسي بالجامعة انتهى، والأهم من هذا أنني كان من المستحيل أن أكمل دراستي في بلد لا أتحدث لغته.
لكن مع كل هذا لم أيأس، قررت أن أنتظر للعام التالي حتى أكون قد وضعت ابني وقمت باستغلال هده الفترة بدراسة اللغة في البيت وساعدني زوجي كثيرا، حيث أحضر لي الكتب اللازمة والأشرطة، وكان أيضا يقوم بشرح ما لا أفهمه. وبعد أن وضعت ابني كنت قد وصلت لمستوًى جيد في اللغة ذهبت إلى الجامعة، وقدمت ملفا وطلبا للالتحاق بالجامعة وراسلت أستاذا من كبار أساتذة الجامعة، وطلبت منه الإشراف على دراستي وقابلته ورحب بشدة عندما اطلع على تقديراتي في الجامعة، وعرف أنني أتحدث لغتين أجنبيتين بجانب لغتي العربية، وطلب مني إجراء بحث في الموضوع الذي سأعمل فيه للتأكد من مستواي العلمي ففعلت وأعجبه ذلك بشدة.
المهم لن أطيل عليكم قمت والحمد لله وبمساعدة زوجي لي بإتمام إجراءات التسجيل. لكن ما لم أكن أتوقعه هو أنني حملت للمرة الثانية وعمر ابني 4 شهور فقط، في بداية الأمر حزنت، حيث إنني لم أكن قد استعدت صحتي بعد الولادة الأولى، وكنت أشعر بأني دائما منهكة وأيضا شعرت بأن هذا سيحول دون تحقيق أمنيتي في إكمال دراستي. أشار علي بعض أصدقائي هنا بأن أقوم بعملية إجهاض حتى لا يسبب لي الحمل الثاني مشاكل صحية ومشاكل في دراستي، لكني خفت من عقاب الله الذي وقف بجانبي كثيرا، وكان ملازما لي في كل شيء أقوم به.
والنتيجة ولكي لا أطيل عليكم أنني الآن أم لطفل وطفلة مثل البدر، وأقوم بكل متطلبات بيتي وأطفالي حيث لا أم ولا أخت هنا معي لتساعدني وأقوم بمساعدة زوجي في عمله وترجمة ما يحتاج من أبحاث، خصوصا أنني قد فهمت كل إطار دراسته ومحاورها، وعندما يطلب رأيي في شيء يعمله أتناقش معه ويقتنع برأيي.
أما عني أنا فأنا الآن أقوم بدراسة دبلوم دراسات متعمقة وهو هنا درجة تمهيدية للدكتوراة ويعادل في مصر درجة الماجستير وعمري 24 عاما فقط. هل ستصدقينني إذا قلت لك الآن إنني أحتاج لأن يكون اليوم لا 24 ساعة بل 48 لكي أستطيع إنجاز كل ما أرغب في إنجازه. والحمد لله هذا بفضله علي ووقوفه بجانبي دائما، وعدم معصيتي له، ولا أنسى أبدا بأي حال من الأحوال زوجي ووقوفه بجانبي ودعمه المعنوي لي وأيضا إصراري على الوصول لكل ما أرغب في الوصول إليه مهما واجهتني العقبات.
هل فكرت يا أختاه في أن ترتقي بنفسك لتصبحي كما قالت أمي الحبيبة بحرا كله أمواج وحركة وحيوية، متجدد ينمو دائما وتنمو معه كائنات مفيدة.
أمي الحبيبة: أرجو أن تعذريني على الإطالة فكل ما رغبت فيه أن أنقل لأختي ولغيرها تجربة حية تحولت فيها من امرأة كانت تعد الساعات حتى يعود زوجها إلى امرأة تمتلئ حيوية ونشاطا،
مع العلم أن هذا لم يجعلني أفقد شيئا من اهتمامي بنفسي فزوجي يعود في نهاية اليوم ليجدني أنتظره بكامل زينتي، وبيتي نظيف وكذلك طفلي وطفلتي.
أنا لا أنكر أنه طريق مجهد لكن وجود هدف يسعى الإنسان للوصول إليه يجعله يتحمل كل شيء.
شكرا للجميع السائلة والمستشار والموقع
31/10/2024
رد المستشار
الأخت الكريمة:
أشكرك على أنك قررت أن تشاركينا بتجربتك الحية الرائعة التي تحولت فيها من إنسانة لا تجد ما يشغلها وتقضي ساعات النهار والليل في ملل وكآبة بين التلفزيون والسرير إلى إنسانة أخرى مختلفة تماما تضع لحياتها أهدافا محددة وتبذل من وقتها وجهدها الكثير لتحقيق هذه الغايات، ومع كل نجاح وتقدم ومع كل خطوة تخطوها للأمام تبيت قريرة العين؛ لأنها أنجزت أحد الأهداف المرجوة.
والحقيقة أن رسالتك ورسالة الأخت صاحبة المشكلة الأساسية وغيرها من الرسائل وكذلك ما ننظره من مشاكل على أرض الواقع يلفت النظر لقضية هامة من الضروري أن نلتفت لها؛ لأنها سبب كثير من المشاكل في حياتنا المعاصرة، وتؤدي إلى إهدار الكثير من الطاقات أو إساءة استخدامها بدون عائد يذكر، فقصتك تشير بوضوح لطاقة النساء الضائعة والمهدرة التي يمكن لو أُحسن استغلالها وتوظيفها أن تعين على صنع المعجزات.
لكن مجتمعاتنا العربية في مجملها -وبالذات المجتمعات المنغلقة منها- تفرض على المرأة تبعات غريبة لوصمة مفتعلة هي: نقصان العقل؛ وبالتالي هشاشة التكوين وغياب الدور المأمول، وقد يحتج قائل بأن النساء "ناقصات عقل" فعلا كما وصفهن الرسول الكريم، لكنني أحسب أن الحديث الشريف يفسر نفسه، فالرسول صلى الله عليه وسلم أوضح أن ما يعنيه بنقص العقل هو أن شهادة المرأة هي نصف شهادة الرجل.
المهم وما يعنينا في هذا الأمر هو ضرورة أن ندرك أن مهارات العقل وقدراته لها شقان: جزء فطري متوارث مع الجينات الوراثية، لكن هذا الجزء الفطري لا ينمو ويتطور إلا إذا توافرت له الظروف المجتمعية المعينة على تطويره وإنضاجه.
ونظرة سريعة إلى مجتمعاتنا تجدنا لا نهتم إطلاقا بتطوير هذه النعمة التي ميزنا الله بها سبحانه على سائر خلقه، فمناهجنا التعليمية وأسلوب تعليمنا يكرس عادة الاستظهار بدون فقه ووعي وبدون إعمال للعقل.
وكل ما حولنا يضغط على الفتاة مركزا على أنها فقط أنثى لها جسد جميل، بدءا من وسائل الإعلام المختلفة التي جعلت جسد المرأة سلعة رائجة في كل مناحيها، ومرورا بكل مسلك من مسالك حياتنا. وحتى إذا قررت الفتاة أن تعود إلى ربها فإن الجسد هو أيضا قضيتها ومحور حياتها، ومنتهى أملها وغاية المراد من رب العباد أن يعينها على أن تستره بطبقات من الثياب، وتدعو غيرها من النساء أن يسترن أجسادهن. والحجاب على أهميته هو مظهر وصورة خارجية، وكما قال رسول الله "إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"، لذلك فلا بد أن يوضع الحجاب في حجمه وأن يظل مظهرا خارجيا وانعكاسا وتجليا لجوهر أكثر نقاء وأكثر صلابة، فلا معنى لأن تكون الفتاة محجبة وهي تافهة لا تهتم ولا تشغل بالها بتكوين وإنضاج عقلها ورسم معالم شخصيتها، ولا معنى لأن تكون الفتاة محجبة وهي خاوية روحيا، ولا معنى لأن تكون الفتاة محجبة وهي لاهية ومغيبة عن هموم أمتها ومجتمعاتها.
كل هذه العوامل مجتمعة ومتضافرة مع هشاشة التكوين وغياب المناهج والمناخ المساعد على الإنضاج عند الجنسين يضاعف من هشاشة تكوين المرأة، ويجعلها مرشحة للقيام بالدور الذي تقوم به حاليا عن جدارة ولا تحسن غيره حتى بعد الزواج وإنجاب الأطفال، فتارة نراها مشغولة بالجري واللهث وراء الموضات وأحدث موديلات الأزياء والديكورات والموبيليات، وتارة نراها لا تجيد إلا الثرثرة الفارغة وتفاهات التليفونات والصالونات، وتارة أخرى نراها تختلق المشاكل مع الزوج والأولاد أو مع الجيران والأهل، وأحيانا أخرى نراها تنفق الوقت والجهد والمال وجل الطاقة في أمور مظهرية شكلية واستهلاكية، وفي معظم الأحوال نراها تجاهد بالريموت كنترول متنقلة بين القنوات المختلفة بحثا عن تفاهات يسمونها فنا، ويحاولون إقناعنا أن هذا هو الإبداع، والفن الجاد والهادف منها براء، تضع يدها على خدها في انتظار عودة الزوج لتلاحقه بالأسئلة والطلبات التي لا تنتهي، أو تركز كل جهدها في قتل أي إبداع عند أطفالها بحجة الحفاظ على النظام وحسن التربية، وتتصور أنها بهذا تحسن التبعُّل للزوج وتجيد فن تربية الأبناء.
ورغم أن أجيالنا والأجيال التي تلينا قد توافرت لها فرص وإمكانات لم تتوافر لأجيال الأمهات والجدات فإننا لا نحسن استغلال هذه الإمكانات، ومن هذه الإمكانات غزو الميكنة للمنزل بحيث أصبح ممكنا بقليل من التنظيم إنجاز معظم الأعمال المنزلية في وقت محدود جدا مقارنة بما كانت تحتاجه هذه الأعمال في الماضي وهو ما يوفر الكثير من وقت وجهد سيدة المنزل، ونتج عن هذا فراغ في الوقت وفائض من الصحة والذهن يحتاج أن يشغل بالنافع المفيد "ونفسك التي بين جنبيك إن لم تشغلها بالخير شغلتك بالشر".
ومع ثورة الاتصالات أصبح ممكنا أن تطلع النساء على كل معطيات العلم الحديث بضغطة زر، والدراسة عن بعد والدراسة الإلكترونية و"الكورسات" التعليمية والدورات التدريبية متوافرة جدا على هذه الشبكة العنكبوتية، وعائق اللغة يمكن التغلب عليه ببعض الجهد، فهل منا من تسخر جهدها وطاقتها في أن تبحث وتتعلم وتدرس طرق تربية الأطفال وتنمية إبداعهم، وتجود وتطور تقنيات ومهارات تناسب مجتمعاتنا والإمكانات المتاحة عندنا، ثم تنقل هذه الخبرات لمجموعة من الأمهات، سواء عبر اللقاء المباشر للأهل والجارات والصديقات، أو عبر مجموعة إلكترونية متخصصة، أو تستخدم علمها هذا وما اكتسبته من خبرة لتربية ومتابعة أولادها ومعهم مجموعة صغيرة من الأبناء، فوالله ما أسعد الإنسان وهو يضع رأسه على الوسادة وهو راضٍ عن عمله، قرير العين برضا ربه عنه بعد يوم حافل بالإنجازات، وما أسعده حين يلقى ربه بعد حياة طويلة مليئة بالتعب والجهد ليجد الراحة بعد الشقاء وهناء البال بعد تعب العقل والجسد، ما أسعد الإنسان يوم يلقى ربه ويبشره بالقبول.
الإنترنت يا أخواتي تتيح لنا الكثير والكثير من مجالات الفعل البسيط المتراكب والمؤثر، وبدون هذه الجهود الصغيرة والمتراكبة لن نكون، والأفضل لنا ساعتها أن نبحث عن قبور تواري أجسادنا فهذا أفضل من حياة بلا هدف ولا معنى ولا قيمة، فهل من مجيب؟!!! وهل من قائلة: أنا لها؛ أنا لها؟!!!