القاهرة – الشام – نواكشوط نحن والصـوفية! م
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
إلى الدكتور أحمد عبد الله، أنا صاحب مشكلة" القاهرة – الشام – نواكشوط نحن والصـوفية! م "ويسعدني جدا أن حضرتك رحبت بفكرتي، وسأبدأ الآن بسرد بعض المبادئ التي يعلموننا إياها، والتي تتنافى تماما مع روح الشرع الحنيف ومع قواعد الصحة النفسية..
ولكن أولا أقدم اعتذاري لتأخري في الكتابة؛ وذلك لأن الظروف التي مررت بها في الفترة السابقة حالت دون سرعتي في الجواب.. فأرجو المعذرة.
وكل ما سأذكره الآن هو غير مدعم بالنقولات عن كتبهم، وإنما هو خلاصة ما خرجت به من صحبتهم، وقد أرجأت إحضار الشواهد من كتبهم إلى مرحلة قادمة أي حين تقررون الاستمرار في هذا المشروع..
ويمكن الاستفادة أيضا من كتب الشيخ الغزالي رحمه الله؛ فقد رد عليهم وفضحهم في كل ما يفعلونه:
1- تعزيز النظرة السلبية للذات عند الفرد؛ فهم يرون أن الإنسان لا يجوز أن يرى نفسه شيئا أصلا، وإذا رآها فقد وقع في إثم كبير.. وهم في هذه القاعدة يهربون من أقصى الشمال؛ فلا يتوقفون إلا وقد بلغوا أقصى اليمين، وكلا طرفي الأمور مذموم، صحيح أن الإنسان لا يجوز أن يرى نفسه كما كان فرعون يرى نفسه: "أنا ربكم الأعلى" فهذا الأمر هو الغرور المرفوض، ولكن أن يشتطوا في ذلك إلى درجة أن يرى الإنسان أنه لا يساوي في هذه الدنيا "قشرة بصلة"، وأنه مهين، و... و... و... إلخ، فهذا هو ما يؤدي إلى تكريس هذه النظرة السلبية للذات التي تفقد الإنسان شيئا فشيئا إحساسه بنفسه وبكرامته الإنسانية، بل إنهم يرون الطامة الكبرى حين يرى الإنسان ما فعله من حسنات، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن المؤمن يرى حسناته فتسرّه، أما هم فيرون أن الإنسان بمجرد أن يرى حسناته فقد هلك.
2- مبدأ إماتة النفس؛ بحيث لا يعود الإنسان يشتهي أي شيء، مع أن المطلوب في الدين هو مجاهدة النفس للتحكم فيها لا تمويتها، بدليل أن الصحابة بقوا إلى أواخر حياتهم يشتهون أشياء معينة، ولكنهم كانوا يجاهدون أنفسهم؛ فمثلا حين رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ابنه عبد الله يأكل اللحم أنكر عليه ذلك، فتعلل الابن بأنه اشتهى أن يأكل اللحم، فوبخه والده قائلا: "أوكلما قدمت إلى شيء أكلته؟! كفى بالمرء سرفا أن يأكل كل ما يشتهي". وهذه الحادثة تدل على أن أصل الرغبة في الأشياء بقيت موجودة في نفوسهم، ولست بحاجة يا سيدي الفاضل إلى من يخبرك ببشاعة الحال التي يصل إليها الإنسان حين لا يشتهي أي شيء لا طعام ولا شراب ولا حتى الهواء.
3- تكريس الخضوع والخنوع دائما لسلطة الوالدين وسلطة الزوج؛ وهو ما يؤدي إلى أن تتربى النفس على الذل والهوان، ويبررون ذلك بأنه البر والطاعة التي أمر بها الله عز وجل، مع أن الطاعة التي أمرنا الله بها هي غير ذلك، ولعل الهدف من وراء هذا المبدأ هو أن يعتاد الناس الذل والتبعية؛ وهو ما يسهل عمل الاستعمار وتقبل الناس له.
4- تنمية التبعية وعدم الاستقلال من خلال فكرة "من لم يكن له شيخ فشيخه الشيطان"، ويدعمون فكرتهم هذه بأن الإنسان لا بد أن يلتزم شيخا ما؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الذئب لا يأكل من الغنم إلا القاصية".
5- السعي وراء المحال والسراب؛ وهو ما يورث اليأس والقنوط في النفس، وهذا المحال هو الرقي في العبادة إلى درجة عبادة الله تعالى لا خوفا من ناره ولا طمعا في جنته، ولكن لأنه إله يستحق العبادة، وهذا -بحد ذاته- فيه سوء أدب مع الله عز وجل، وكأننا نقول له: لسنا بحاجة لثوابك وعقابك كحوافز للعبادة والطاعة، والسعي وراء هذه الصورة من العبادة هو سعي وراء المحال، أنا شخصيا حاولت ذلك كثيرا، ولكنني كنت أفشل دائما؛ فأصاب بالإحباط، ويتملكني شعور أنني لا فائدة مني.
6- الشك دائما في أننا لن نكون من أصحاب الجنة؛ مما يورث الشك بكل شيء حتى في الله عز وجل، مع أن الله عز وجل يقول: "أنا عند ظن عبدي بي...".
7- النظر إلى علاقة الرجل بالمرأة على أنها شر لا بد منه، وأنها علاقة قذرة ممتهنة، وأتى من ذلك امتهان جنس النساء كله.
8- الفصل التام بين الجنسين وفي كل مراحل الحياة؛ وهو ما يولد الوحشة والنفور في نفس كل جنس بالنسبة للجنس الآخر، وهذا يسبب مشكلة كبيرة حين الزواج، ويدعمون ذلك بالأحاديث الواهية التي تكاد تكون مكذوبة من مثل أن خير شيء للمرأة ألا ترى رجلا ولا يراها رجل، وهذا كله يجعل تفكير كل من الجنسين منحصرا في الجنس فقط عندما يرون بعضهم.. وهذا مصيبة كبيرة.
9- إيقاع الناس في شرَك الوسواس القهري لشدة ما يتشددون في أمور الطهارة.
10- توريث العزلة والانطواء بحجة أننا قد صرنا في آخر الزمان الذي يكون أفضل شيء فيه أن يدخل الإنسان بيته ويغلق عليه بابه.
11- زرع اللامبالاة والإهمال في النفوس بدعوى أن كل شيء نتنازل عنه سيعوضنا الله عز وجل خيرا منه، وهذا منافٍ لما كان عليه الصحابة؛ فقد كانوا لا يتنازلون عن حقوقهم إلا بعد أن يثبتوا أنها لهم، ثم يتنازلون عنها عن طيب خاطر، أما هؤلاء القوم فهم بمبدئهم هذا يشجعون الاستسلام للظلم.
12- المزاج العسر والكآبة؛ بحجة أن الإنسان يجب أن يكون دائم الحزن؛ لأنه دائم الخوف من الآخرة، ويستدلون بأن رسول الله كان دائم الحزن، ولم يضحك في حياته إلا مرتين، مع أن الحقيقة كانت أنه كان دائما هاشًّا باشًّا، ولا يلقى الناس إلا مبتسما، أما حزنه وتفكره صلى الله عليه وسلم فلم يكن في حال لقائه بالناس.
هذا ما أسعفتني به ذاكرتي حتى الآن من كل ما مر بي، ويبدو لي أن مروّجي هذه الأمور هم من الخبراء النفسيين الذين يعلمون تماما ما تفعله هذه الأفكار في نفوس المسلمين، وما تورثه لهم من ضعف وتهالك، ولا أجد إلا أن هذا هو أحد ألوان ألوية المعارك ضد الإسلام التي لن تنتهي حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ولكن مهمتي وقد فطنت إلى ذلك أن أنقذ من بقي فيهم رمق من الحياة، وأخلصهم من شرك هذه الأفكار بعد أن منّ الله تعالى علي أنا أولا بالخلاص.
أشكركم وأنتظر رأيكم
جزاكم الله كل الخير
27/4/2025
رد المستشار
الأخت الكريمة، أهلاً بك من جديد، ولعل المانع الذي حال بينك وبين سرعة الرد يكون خيراً.. ما تطرحينه يبدو مهماً وخطيراً، ويحتاج إلى تعميق ومواصلة بحث، وما خرجت أنت به من خبرتك يتلاقى مع بعض الأعراض التي أراها في حالات مرضى، أقوم بعلاجهم من أصحاب الالتزام الديني؛ فهناك ترسانة من الأفكار الخاطئة والتصورات الملتبسة تعشش في الخطاب والتفكير والممارسة عند جموع المتدينين، أو أغلبهم إن شئنا الدقة.
• ومن المدهش أنه على رغم الاختلاف الظاهر في المواقف السياسية والفكرية من بعض القضايا بين جماعة إسلامية وأخرى؛ فإن التراث الصوفي السلبي الذي تذكرين في رسالتك جانباً منه يبدو قاسماً مشتركاً عند الجميع!!
وبرامج التكوين الروحي والتربوي في كل هذه الجماعات تحتاج إلى غربلة شاملة، وإلى إعادة فحص وتقييم؛ لأنها تخلق نماذج سهلة الانقياد وقابلة للمرض النفسي أو للانفجار عند أول اختلاف في وجهات النظر؛ لأن الملتزم (أو الملتزمة) ليس لديه (أو لديها) العقلية المرنة أو النفسية الواسعة، أو الذهنية القادرة على تحمل الضغوط أو استيعاب الاختلاف المتوقع بين البشر في شئون الدنيا أو الدين وتطبيقاته.
ولذلك فإن التصوف بمعنى الإحسان الوارد في حديث جبريل عندما جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في صورة رجل ليسأله ويصدقه عن الإسلام، والإيمان، والإحسان، وعلامات الساعة… إلخ.. التصوف بهذا المعنى هو علم له مصادره وله آثاره وله مسائله، وله أدلته من الكتاب والسنة، ويمكن مناقشة هذا التراث والاستفادة منه في مناهج التربية والإرشاد النفسي المعاصرة، ولكن هذا النور ضائع وسط ركام من الظلمات والالتباسات؛ لأنه اختلط بالكثير من الخرافات والأساطير، والنقول الضعيفة، والتصورات المريضة، والنتيجة أن التصوف بمعناه الأصيل قد ضاع تقريباً بسبب أدعيائه الذين أضافوا إليه ما ليس منه، وحولوه إلى شيء فظيع كاتم للملكات، وأقرب إلى رهبانية النصارى في احتقارها للجسد، ومحاولتها لتعذيب الذات أو إلغاء الرغبات والشهوات قربى إلى عالم الغيب، وإرضاء لله بما لم يفرضه على الإنسان أو يريده منه!! وفي مقابل الأدعياء فإن هناك أعداء التصوف الذين يردون الأمر كله..
لما فيه من خلط وخطر، والحق ضائع بين هؤلاء وأولئك، وقليل من الناس يدركون هذا التمييز الدقيق بين تراث روحي صحيح ونافع وركام خرافات يضر، ومن هؤلاء القلة شيخنا "محمد الغزالي" رحمه الله.
• وقد أشرت مراراً من قبل إلى أن المسلمين يعيشون التباساً كبيراً بين الروح والمادة، الغيب والشهادة، وأنهم أسرى لهذا الالتباس تائهون متخبطون، ولا نهضة لهم، ولا خلاص إلا بمعالجة عميقة لهذا الشأن، وأرجو أن يستمر جهدك في هذا الصدد توضيحاً للحقائق الغائبة وسط الخرافات الشائعة؛ لأن هذا التخبط يبدو مسؤولاً عن تقليل العائد من موجات الالتزام الديني المتلاحقة منذ عقود، فما إن يلتزم الشاب أو تلتزم الفتاة حتى يحدث نوع من التعرض لتراث عريض من الكتابات والتسجيلات والمفاهيم تلعب على وتر شعور "الملتزم الجديد" بالذنب والتقصير، ووجود طاقة كبيرة بداخله تريد أن تبلغ مرضاة الله بأي ثمن، وربما تختار من الآراء ما يبدو الأكثر تشدداً، وتعتبره الأنقى والأطهر؛ فتندفع في مسارات مهلكة، وتسعى في دروب مضللة، وهي تحسب أنها في طريق الهداية تسير!!
وما زالت هذه المأساة تتكرر دون وقف لهذا النزيف المهدر للعقول والطاقات. ومصادر العلم والمعرفة عند المسلم قراءتان: قراءة للوحي المنزل من الله، وقراءة الواقع المعيش؛ لأن الوحي والكون كليهما قد صدر من الله سبحانه وتعالى، وقراءة الوجود لا تكون إلا بمنهج منضبط، وكذلك تحصيل المعرفة من الوحي، وفي قضايا النفس والصحة النفسية فإن المهتمين بالشرع والوحي قد عزلوا أو انعزلوا عن الواقع ومناهج النظر فيه.
وبالمقابل فإن المهتمين بالوجود قد أهملوا رافد الوحي؛ لأنهم لا يؤمنون به، أو لا يريدونه، أو لا يجيدون مناهج النظر فيه، ومما زاد الطين بلة محاولات بناء معرفة على أسس من معلومات هشة أو ناقصة أو مبتسرة دون تدقيق أو توثيق؛ فوصلنا إلى هذه الحيرة والتخبط بين مناهج عرجاء كسيحة، ونصائح مدمرة ومخالفة لبديهيات العلم والشرع، وكثير مما يقال في شأن التوجيه والإرشاد الروحي والنفسي المعاصر في أوساط الملتزمين هو مجرد خرافات لا علاقة لها بالعلم ولا بأصول الوحي قرآنًا وسنة، ولكنها محض ترتيب خيال أو خلل عقلي، وربطه ببعض مكونات الواقع وفيها من الإسرائيليات والأساطير القديمة لثقافات أخرى ما فيها، وهي تمتلئ بالمرويات المنسوبة إلى الرسول أو بعض الصحابة، بينما هي غير ثابتة عنهم وغير صحيحة؛ لأنها تعارض وتخالف أصول الدين الشرعية المرعية المستقرة في إجماع الأمة عليها، والحجية في ديننا أصلا إنما هي للكتاب والسنة فقط، ونأخذ من غيرهما ونرد.
ومن شأن هذا الركام المضلل أن يبتعد بالمسلمين -وهذا هو الحال- عن الخط السليم، وعن الحياة الدنيا بجادتها وقضاياها؛ فتتعثر خطاهم، وتختل أنفسهم وذهنيتهم، ويصبح العائد من موجات الالتزام بالدين إما عائداً زهيداً أو انحرافاً وعقداً نفسية ومزيدًا من تكريس التخلف وغياب الجهاد بمعناه الشامل الواسع العميق.
• والمهمة المطلوبة ليست مستحيلة، ولكنها صعبة ودقيقة؛ فنحن نحتاج إلى الصوفية الصحيحة التي حفظت الإسلام في مراحل ومناطق هائلة، ونشرته وما زالت في بقاع بعيدة ونائية، ونحتاج إلى الصوفية المجاهدة التي ربطت بين الجهاد السليم للنفس والجهاد بالسعي لعمارة الأرض، وإقامة العلم والدين، والذود عن الأوطان، وترقية الإنسان، حتى يكون بذاته وسلوكه آية من آيات الله سبحانه وتعالى تمشي على الأرض.
في نفس الوقت فإن علينا التقاط شظايا هذه الصوفية المطلوبة بشدة في عصر المادة، من وسط ركام هائل، والسير بها في حقل ألغام مما اختلط بها من نواحي خلل وخبل؛ فكما أن هذا الخبل يؤدي إلى الجنون كما تفضلتِ أنتِ بذكر بعض الأمثلة؛ فإن الجهود العلمية الناصعة للعديد من الرواد المجهولين لدينا ولدى أدعياء التصوف أنفسهم يمكنها أن تقدم لنا زادًا كبيرًا في سبيل تركيب معرفة علمية إيمانية معاصرة، وخطابًا إسلاميًّا عقلانيًّا ناقدًا ومؤمنًا، وتزداد الصعوبة؛ لأن كثيراً من المسلمين اليوم يرسم للناس صورة لديننا لا تصلح فعلاً إلا لزمن مضى أو لقوم محصورين محدودين في ثقافة وواقع اجتماعي بعينه، بينما خطاب الله موجه إلى العالمين جميعاً في كل عصر ومصر، وكثير من جوانب الصورة السلبية المشوهة التي أصبحت السائدة عن الإسلام مردها إلى معارك مفتعلة، وأفهام مغلوطة يحمل لواءها الكثيرون من المتحمسين للدين، وبعضهم دارس له أو ملتزم به، ولكن دون أن يقوم بفريضة التفكر والتدبر في نصوص الوحي أو سنن الوجود، وهذه الأوضاع المضطربة هي السبب في إعراض الكثيرين من المسلمين وغيرهم عن دين الله؛ لأنه إذا كان دين الإسلام كما يرسم صورته هؤلاء فإن العاقل الذي يحترم نفسه وحريته لا يقبل أن يدين به، ولا يشرف بالانتساب إليه!!
فهل نستطيع إنقاذ الإسلام وسط كل هذه الأخطار؟ أدعو الله أن يوفقنا لذلك، وأشكرك على متابعتك. وفي انتظار رسالتك القادمة.