قبل أن أبدأ عرض مشكلتي التي تؤرقني، أجد أنه لزامًا عليّ أن أشكركم على جهدكم الرائع في دراسة مشكلات هذا الجيل، ضمن إطار يجمع بين ضوابط الدين، وتطور العلوم النفسية والاجتماعية، وهذا ما كدنا نفتقده مع موجة تفضيل العلم على الدين فهنيئا لكم.
مشكلتي تكمن فيما يلي:
أنا فتاة ملتزمة ومحجبة، ومن أسرة ترى الدين والعلم ضروريين لكل إنسان، وقد تخرجت في إحدى الكليات -والحمد لله كباقي إخوتي- وكنت في المرتبة الثانية على دفعتي، بعد ذلك تقدم لي شاب لخطبتي، أعجبت به، وبحبه للعلم، وهو طبيب درس في أميركا، وقبل أن تتم الخطبة حدثني عن رغبته في أن أتنازل عن حجابي فقط في أميركا، وأنه مؤمن بضرورة الحجاب وأهميته، ولكن غاية الحجاب في أميركا لن تتحقق؛ لأنه سيؤدي إلى لفت الأنظار إلي بدلًا من غرض الستر!! رفضت أنا الموضوع رفضًا باتا، وأخبرته أنه يستطيع إيجاد فتاة غير متحجبة، ولكنه أصر على أنني الفتاة الوحيدة التي يشعر أنها ستسعده في حياته، وتم الزواج وسافرت مع زوجي إلى أميركا،
والحمد لله وجدته رائعا في كل شيء في ذكائه وعلمه وثقافته في كل شيء حتى إن لغته الإنجليزية كانت ممتازة، وطبعا هو عاش في أميركا ما يزيد عن خمسة عشر عاما، المشكلة هي أنني باعتباري محجبة سيعرف الجميع أننا عرب، وسيعاملوننا على هذا الأساس، وبالتالي سيعتقدون أنني أضع متفجرات في محفظتي، وأننا أناس متخلفون، وعندما سيرون السيارة الفاخرة التي نركبها؛ ستزداد نقمتهم علينا؛ لأننا نسرق خيراتهم، هذه هي الكلمات التي كنت أسمعها من أول يوم لي في أميركا، وغيرها وغيرها من الحجج عن صعوبات الحجاب في أميركا، وأنني بحجابي أفوت على نفسي فكرة الدعوة للإسلام؛ لأنهم سيتخذون موقفا تجاهي فقط لأني متحجبة.
ورغم كل حججه، ورغم كل ضغوطات الوحدة والغربة؛ إلا أنني حافظت على حجابي، ونحن نعيش في مدينة صغيرة لا وجود للعرب فيها، ولما بدأت بالتعرف على أصدقائه من الأميركان؛ فوجئت بالمسافة الشاسعة بيني وبينه، فهو بلهجته الأميركية وثقافته الواسعة جدًّا ومنصبه العلمي والمادي يجعله محط الأنظار، وأنا بلغتي الركيكة، وبغربتي عن هذا الجو الغريب الذي كنت أشعر أنه يكاد يخنقني؛ لم يكد أحد يسألني سوى بعض الأسئلة وعندما كانوا يرون إجاباتي بلغة ركيكة كانوا ينهون الحديث ببساطة، وعندما نعود للمنزل كانت تحليلاته حول الأسباب كلها تدور حول الحجاب، وأنه السبب في ارتباكي وابتعادهم عني، وكنت أقتنع أن الحجاب هو السبب، ولكني لم أفكر للحظة واحدة أن أتنازل عنه، واستمر الحال هكذا وصرت بعد عام ونصف من الزواج انطوائية لا أرى أحدًا، ولا يراني أحد، أكتفي بالذهاب لشراء حاجيات البيت وبنزهاتي مع زوجي،
لغتي لم تتحسن، وأشعر أن سكينا تطعن صدري كلما تذكرت ما كنت عليه في وطني: فتاة نشيطة جدًّا (حتى إن والدي ووالدتي كانا يشتكيان من كثرة حركتي ونشاطاتي) من فتاة تفوقت في دراستها، وكانت تشعر بإعجاب الجميع بها إلى فتاة خاملة، غبية، وجبانة، وانطوائية، ضاعت أحلام إكمال دراستي فكيف سأدرس، وقد صرت أعيش بإحساس الدونية والنقصان بسبب حجابي، ولكن هذا النقصان عندي أفضل من أن أتخلى عن حجابي، أعلم أنه يحبني، حتى إنه ترك الكثير والكثير من أجلي، وأنا أحبه بكل ما أملكه من نبض قلبي، ولكن ليس أكثر من ديني. أصبح كل أملي أن يرزقني الله بطفل يشعرني أنني ما زال عندي أمل في الحياة، ويخرجني من وحدتي وإلى الآن لم يتحقق حلمي الذي أنام وأصحو عليه، دلوني على درب الخروج من هذا السجن الذي بت أعشقه، بل أعشق وجعه وأراه أرحم من المجتمع المحيط بي،
جزاكم الله عني وعن كل موجوع كل خير،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
31/5/2025
رد المستشار
أختي المتألمة، نفترض جدلاً أنك خلعت الحجاب؛ لتكون فرصتك أفضل في الدعوة إلى الإسلام "كما يقال" ثم سألك سائل - وأنت سافرة - عن حكم اللباس الشرعي، وعورة المسلمة بالنسبة للأجنبي عنها.. فبماذا ستجيبين؟! هل ستكذبين؟ أم ستقولين الحقيقة، وعندها تخسرين احترامه؛ لأنك خالفت ما تعتقدين، وإليه تدعين!!
أخطأ زوجك "التشخيص" هذه المرة، ربما بسبب رغبته في الاندماج الكامل مع المجتمع الذي يعيش فيه منذ سنوات طويلة، ويحتل فيه مكانة مرموقة، وهذه الرغبة في الاندماج إذا لم تنضبط بحدود الممكن والمعقول، والمباح والمشروع، فإنها تنتهي بالذوبان كما في حالات كثيرة مشابهة.
وقد يكون الدافع وراء هذه الرغبة في التخلص من الحجاب هو الهروب من النظرة السلبية التي خلّفها الإعلام المعادي للإسلام، والصورة النمطية الشائعة عن المسلمين، وعلاج هذا المناخ لا يكون بإلغاء الهوية، أو إسقاط الخصوصية، والتخلي عن المظاهر الثقافية من الدين الحنيف، أو من الحضارة الأصيلة، ولكن يكون بالحوار المستمر، وحسن التعامل والتفاعل حتى يعلم الناس في أمريكا أو غيرها أن المسلمين - مثل كل البشر - فيهم الصالح والطالح، الطيب والشرير، المتحضر والمتخلف، وأن الصلاح والطيبة والتحضر - في ديننا - أوامر وأخلاق مأمور بها الجميع، وليست مجرد سجايا محمودة يتحلى بها أبناء الطبقات الراقية، أو المتعلمون المثقفون بينما يفتقدها الآخرون في ثقافات وحضارات أخرى.
هذا عن المناخ المحيط بك، ومحاولة لفهم منطق وموقف زوجك، أما حالتك أنت فهي عادية ومتكررة؛ ليس تقليلاً من شأنها لكن لكي نطمئنك أنها تحدث لكل من يغير وطنه، ويتوجه إلى مكان جديد خاصة إذا كان هناك اختلاف ثقافي شديد بين البيئتين.. كل ما في الأمر أن زوجك بدلاً من أن يساعدك في تجاوز هذه المرحلة الصعبة خاصة وأنه ولا بد أنه مر بها في بداية عهده بهذه البلدة فإنه يحاول استغلال هذه الحالة الطبيعية من القلق للضغط عليك في تحقيق رغبته من أجل التخلص من الحجاب فزادت الضغوط عليك ضغطاً إضافياً..
ليس للأمر أي علاقة بالحجاب من قريب أو بعيد.. وأفراد كثيرون من جنسيات مختلفة وديانات مختلفة بهذا الاضطراب، والمسجل عندنا في الطب النفسي باسم "قلق الاغتراب"، فاطردي عن نفسك هذا الصراع الوهمي الذي جعلك زوجك تعيشين فيه بين الرغبة في التأقلم مع المجتمع الجديد، والرغبة في الاحتفاظ بالحجاب، فليست هذه المشكلة،
ولكن المشكلة أن تبدئي في التكيف مع أوضاعك الجديدة، ولا تتعجلي الأمور، فمع الوقت وبعض الجهد ستتعلمين اللغة، وستتواصلين مع الناس بسهولة، وستجدين نفسك تستطعين تكوين صداقات حتى مع غير العرب، وستنجحين في إيجاد مساحات مشتركة للتفاهم مع الآخرين، فليس مطلوباً منا أن نتعامل فقط مع من يماثلوننا خاصة في مجتمع يجمع كل هذه الثقافات المختلفة، حاولي أيضاً أن تجدي مجالا للتفاعل والتواصل سواء بإحياء هواية، أو وضع برنامج لتعلم اللغة مثلاً أو تعلم شيء جديد، وسيعود لك نشاطك مثلما كنت في وطنك،
ولكن أعط لنفسك وللزمن الفرصة، ونحن في انتظار تواصلك المستمر معنا وفي انتظار سماع خطوات إيجابية في هذا الاتجاه، خاصة في جوانب تعلم اللغة وإجادتها، وليكن دعاؤك المفضل: رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني… والله معك.