بورك في ابنة صفحتنا الطموحة
المشاركة الأولى:
السلام عليكم، مستشارينا الكرام، في البداية أحب أن أذكر أنني في زحمة امتحانات السنة الأولى للجامعة، وبما أنكم تنسون كثيرا فدراستي هندسة فيزياء وأراها صعبة أو لنقل ثقيلة... هذه المقدمة القصيرة لتعرفوني فقد كتبت لكم من قبل، قد تكونون الآن تذكرتم يا كرام طلبي الذي وعدتموني منذ أكثر من شهر أن تنفذوه لي؟ ولم تفعلوا بعد!!
أعرف أنكم نسيتم، لكني لا أنساكم أبدا ولا أنسى صفحتكم التي أحبها وتكرهني، ولا أنسى أنها وصلت في وقت إلى القمة ثم بدأت بالهبوط تدريجيا وأنا أرقبها بحذر وألم أيضا، وأتذكر مع الترقب إحدى مدرساتي التي قالت لي يوما: "ليس صعبا أن تصلي القمة، لكن الصعب فعلا أن تثبتي على القمة التي وصلتها".
ولا أنسى أيضا أني تذكرتكم وأنا أذاكر لأول امتحاناتي وكانت مادة الفيزيا النسبية، وتذكرتكم وأنا أقرأ عن الوقت الذي يمشي ببطء في المركبة الفضائية عنه في الأرض، وقلت في نفسي: لو نرسل فريق المستشارين إلى الفضاء في رحلة فله فائدتان: أولاهما تعرفونها، والأخرى أن تأخذوا راحتكم في الرد دون أن نشعر على الأرض بثقل تأخركم، ولكني بعد أن أكملت المذاكرة تنبهت أننا نحن قراء صفحتكم من عليه الذهاب إلى الفضاء، وربما بلا عودة، وفهمكم كاف.
كم يا ترى من القراء وعدتموهم برد أو تعليق أو تصحيح أو متابعه ولم تفعلوا؟ ألستم أنتم أنفسكم الذين كتبت لكم (وتحديدا الدكتور أحمد) أن تدعو لي في أول مرة أكتب لكم فيها، وظهر طلبي هذا مع أنه لم يكن مشكلة تحت عنوان "بورك في ابنة صفحتنا الطموحة "... فهل هكذا تعامل صفحتكم أبناءها، خاصة الطموحين منهم؟ وأنا قد كتبت متابعة لمشكلتي منذ أكثر من شهر، وفقط قبل يومين أراها تظهر على الصفحة تشير إلى مشكلتي الأولى التي رجوتكم أن تغيروا معالمها، بل وحددت لكم أيضا ما يعينكم على ذلك.
المهم متابعتي كانت عديمة الأهمية كما يبدو (يؤكد ذلك إهمالها كل هذا الوقت... فمن المسؤول يا ترى؟) أولا لأن السنة انتهت والمدارس بدأت تغلق أبوابها. ثانيا لأن مسألة العقيدة كما يبدو ليست بكل هذه الأهمية أو ليست أساسية كما فهمت من تعليق الدكتور أحمد. وأنت تقول يا دكتور: "إنني أعتقد أن المعركة في مساحة العقيدة أسهل بالنسبة لنا منها في مساحة الثقافة؛ فالمجتمع الأوروبي الحديث لا يأخذ -في أغلبه- مسألة العقيدة والدين مأخذ الجد كما نفعل نحن، وكثيرون يعيشون هناك بلا عقيدة محددة، وآخرون يخلطون عقيدة بأخرى على هواهم، وفريق ثالث ينتقل من دين إلى دين من باب التجريب!! مسألة الدين والعقيدة أصبحت من الشكليات عند الأغلبية، ولا تبقى إلا مجموعات تحاول التمسك بما تعتقد صوابه".
أقصد ما دخل هذا بمشكلتي؟ يعني إذا كان الغرب هكذا لا تهمهم العقيدة بشكل أساسي فهل يعني أن نتهاون مثلا؟ على العكس لهذا يجب أن تكون العقيدة أكبر وأول همومنا واهتماماتنا وحتى لا يجرب الجيل المسلم ما يفعل الغرب... يتنقل بين الأديان أو يخلط بينها فلا هو إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، والعقيدة والله أعلم مرتبطة بالروح والعاطفة... أيما ارتباط.
ولولا أني ألاحظ قسوتك في تعليقاتك ومداخلاتك الأخيرة... لقلت ربما يتعمد (ولا أعرف تفسيرا لذلك) الدكتور أحمد أن يقسو عليّ، ويقول: "ولا أحسب أن لديك الكثير من المعرفة بتقديم الإسلام عبر الثقافة والحضارة وأساليب الحياة، ومثلك في هذا مثل الأغلبية منا ممن ورثوا الإسلام ولم يعرفوه حتى الآن حق المعرفة"!!
فما أدراك يا سيدي أن معرفتي قليلة إلى هذا الحد، وإذا كان فعلا... فهل تسعى لتحبطني هكذا؟ ولماذا أقرأ ردودك وردود المستشارين وأتابع هذه الصفحة وغيرها؟ أليس لكي أتعلم وأستفيد؟ والله يحب جهد الفقير ولو كان قليلا.
ولا تنس يا سيدي أن كلا ميسر لما خلق له، وأنا لست طبيبة نفسية مثلا وحضرتك لن تكون عالما فيزيائيا إلا أن يشاء الله شيئا، وصدقني... من الأوروبيين من يحتاج للعقيدة أولا ويسأل عنها أولا، وعندها أوضح له أن العقيدة ليست فكرة أو فكرًا بحتا فقط ولكنها أيضا روح وعاطفة، وأنه أروع ما لدينا وأجمل ما أهدانا الإسلام، وإن كان كل ما أهدانا جميلا.
فادع الله إذن أن أكون من خدمة دينه سواء عن طريق تبيين العقيدة (التي هي بلا شك أساس للحضارة السليمة المتميزة غير الناقصة كحضارة الغرب) أو عبر الثقافة والحضارة التي لا تحسب أن لدي الكثير من المعرفة لتقديم الإسلام عبرها... كأنك يا دكتور شخص آخر غير الذي عرفته وكنت أدعو له كوالدي.
وأعي ماذا يعني أن يكبر الصغير في هذا الجو والخطر القادم الذي تحدثت عنه نعيشه مع أخي المراهق، والله المستعان ولعلها دعوة لفتح صفحة خاصة بالغرباء، فلنا حق عليكم.
وأخيرا، أشكر د. سحر طلعت ، والله يعلم كم لكلماتها وروائعها على الصفحة من تأثير كبير،
أشعر معه بعزة المسلم، وما أجمل الشعور بالعزة بين غير المسلمين، فجزاها الله وجزاكم خيرا.
2/9/2025
المشاركة الثانية:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أستاذي الفاضل د.أحمد، لي تعليق على قولك: "أعتقد أن المعركة في مساحة العقيدة أسهل بالنسبة لنا منها في مساحة الثقافة" في استشارة "بورك في ابنة صفحتنا الطموحة...".
صحيح أن العقيدة لم تعد الشغل الشاغل لأبناء الغرب غير المسلمين، ولكن ما يزال هناك تيار نخشى منه، وهو تيار الشكوك والمادية. فلماذا تزعزعت عقائد كثيرين هنا في الغرب (غير المسلمين) بسبب سيطرة القيم المادية وتهميش دور الدين؟
لي صديقة نصرانية يرثى لحالها؛ فمرة من المرات تقول لي: أحس أنه لا يوجد إله لهذا الكون (مع أنها نصرانية)، وذكرت بعض أفكارها في ذلك، من ضمنها أنه لماذا كل هذه الآلام والمآسي في العالم؟ كيف يكون هناك إله ويكون هناك هذا التخبط والظلم؟ وأين السبيل في مجتمع مليء بالأفكار والمعتقدات والأديان والأيدلوجيات.
ومرة جاءتني تقول هناك جماعة جديدة ظهرت تقول بأن الذين خلقونا هم "آلهة" من الفضاء (في إشارة إلى جماعة الرائيليين)، وتقول لي: أين السبيل بين كل هذا؟
إنها ببساطة تتخبط في هذا المجتمع، رغم كل محاولاتي في توضيح الأمور لها، وفي آخر لقاء بيننا سألتها بالعكس؛ فبدلا من سؤالي إياها عما لم تقتنع به بعد، وما لا يعجبها لأشرح وأوضح لها الأمور حسب ما أوتيت، سألتها ماذا يعجبك في الإسلام؟ قالت كلاما رائعا أدهشني أن أسمعه من فم من كانت دائما تنتقد، وقلت لها إذن لماذا لا تسلمين؟ فقالت كيف ستواجه مجتمعها وأهلها؟ وصديقاتها سيسخرن منها، خاصة من مسألة الحجاب.
ورغم أنني أخبرتها أن مسألة الحجاب ليست هي الأهم، فإنها ما زالت على ما هي عليه، تحليلي أنه لم تتغلغل العقيدة في قلبها بعد؛ فهي من النوع الذي إذا اقتنع بشيء تنفذه على أنوف الجميع.
وأنا أنقل هذا في إشارة إلى أن العقيدة الإسلامية ليست فقط في قضية وحدانية الله تعالى، ونقاش النصارى في عقيدتهم، وهل المسيح رسول أم إله أم ابن الإله؟ إن مسألة العقيدة أعم وأشمل وأعمق من ذلك بكثير.
العقيدة ليست أفكارا يسهل علينا حشو رؤوس أبنائنا بها لتحل محل الفراغ العقدي الذي يتركه المجتمع الغربي، بل العقيدة روح الإنسان، ومسكنها أعماق أعماق القلب، تحتاج إلى جهد في الإيصال ووقت، وتحتاج إلى جهد في التربية على العمل بمقتضاها، وأن تكون واقعا حيا في حياة أبنائنا، ولا عجب... فقد قضى الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة في مكة لغرس العقيدة في نفوس الفئة التي آمنت به.
فالعقيدة بأركانها الستة وتفصيلات كل منها مهدد من تيارات كثيرة في المجتمع الذي أخطر ما فيه عدم الاهتمام بالعقيدة، وكما قلت فهم يعتبرونها من الشكليات؛ ولذا يسخرون ممن يهتم بها، فالساحة ليست خالية من المواجهة.
حوار سمعته في التلفاز الإنجليزي بين مجموعة من الشباب، يقول أحدهم: ابتكر الدين في العصور القديمة ليفسر للناس ما يعجزون عن تفسيره وليسد فراغات قصور فهمهم لما حولهم، فيقول له الآخر مؤيدا: ولهذا فعندما تطور العلم، وأصبح الناس يعرفون الكثير عن الكون أصبح دور الدين يقل تدريجيا... ماذا يعلمون أبناءنا عن فكرة الدين بشكل عام؟
قالت لي إحدى الطالبات العربيات المسلمات: إنهم يقصون عليهم قصة ذاك الرجل الذي طلب من أبنائه أن يغطوا أعينهم، ثم أحضر لهم فيلا وطلب منهم وصف هذا الشيء لهم، وكل واحد منهم وصفه حسب الجزء الذي لمسه من الفيل، وهكذا الأديان.
أليست مثل هذه الأفكار عندما ترن في أسماع أبنائنا تحدث زعزعة لعقيدتهم، إذا لم تجابَه بوعي متيقظ لما يدور حوله، وقادر على تقديم الإجابات البسيطة والعميقة في نفس الوقت لأبنائنا؟ أليس الواجب على الوالدين أن يكونا دائما متيقظين لما يسمعه الأولاد ويلاقونه في المدرسة والمجتمع، وناقدين دائما لما هو خطأ على الصعيد العقدي والأخلاقي، وبدون ذلك كيف لنا حفظهم ورعايتهم من مجتمع تخلى عن الله لكنه ما يزال له معبود، متمثلا في ماديات هذا المجتمع وإغراءاته التي لا يسلم منها الصغار؛ فلكل عمر مغرياته. وقد صدق فيهم قول الحق جل وعلا: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه}. فليست المعركة سهلة في رأيي، خاصة على صعيد أبناء المجتمع غير المسلمين الذين نريد دعوتهم.
هذا من ناحية مفهوم العقيدة، أما من ناحية أثرها، فكيف نواجه المعركة الثقافية بدون رصيد من العقيدة السليمة الصافية (ولا أدعي أنك قصدت هذا، فقط أحاول التأكيد على أهمية معركة العقيدة وخطرها وتوجيه العناية لها). إنني أدرس طالبات هنا في سن المراهقة، ومن أهم الأشياء التي كنت أركز وأرتكز عليها في آن واحد هي العقيدة؛ بتعميق الإيمان في القلوب، وري شجرة حب الله تعالى ونبيه، ومنه ننطلق.
وإذا لم يعلم الأبناء ويدركوا أننا نختلف عن هذا المجتمع الذي يعيشون فيه في شيء عظيم جدا وهو العقيدة؛ فلن يدركوا سبب دعوتك إياهم ترك مغريات هذا المجتمع وما يبهرهم به كل يوم مما يتناقض مع شرع الله، بل لن يستجيبوا لك. قد تكون المعركة سهلة في ناحية، ولكنها صعبة من ناحية أخرى، وهي ناحية الغرس العميق لهذه العقيدة والتفعيل لها.
وإذا أردنا أن نتحدث عن العقيدة بشكل عام ولكل الفئات والمراحل بما فيها غير المسلمين أحب أن أذكر بشيء واحد، وهو ألا ننسى أن الغرب بحريته أصبح مرتعا للفرق الإسلامية الضالة، وهو تحد آخر في مجال العقيدة؛ فالمسلمون من غير العرب -وخصوصا الآسيويين والداخلين الجدد في الإسلام- معرضون لمثل هذه المصيدة العقائدية، بل كثير منهم واقع فيها بسبب الجهل.
دعوة غير المسلمين تكون من مداخل عدة، ويصعب أن نحددها في مدخل واحد، ورأيي أنه يعتمد على الشخص أو الأشخاص المدعوين؛ فقبل أيام أخبرتني امرأة مسلمة من بنجلاديش أن زميلة لها تتذمر من وضع المجتمع هنا وانحلاله، وتحدثت عن عدة أمور اجتماعية، وسألتني ماذا يمكن أن تقدم لهذه المرأة؟ فهي تحس أنها من الذين فيهم حياة ونبض، ومن الذين يبحثون عن شيء ما، عن إجابات على الكثير من التساؤلات.
فقلت لها: لا تتحدثي معها عن العقيدة وما شابه، ابحثي عن الكتب التي تتناول المشاكل الاجتماعية التي سألت عنها وطرقت بابها، ولكن لكُتاب مسلمين، من وجهة نظر الإسلام، دون أن تتعرضي لموضوع العقيدة، ادخلي من باب بيان النظام الإسلامي الاجتماعي، ما دام هذا همها.
لكن في نهاية المطاف كل شيء سيعود إلى العقيدة بطريقة أو بأخرى؛ فهي أساس الدين، والشرط لقبول العمل الصواب، وإذا أقنعنا غير المسلمين بقيمة الإسلام كحضارة وثقافة ونظام اجتماعي دون أن نقنعهم بالعقيدة الإسلامية؛ فلن نكون قد أنجزنا الكثير برأيي. وهناك الكثيرون ممن يعترفون بالإسلام كحضارة راقية، بل يكنون له كل احترام، وهذا جميل ومفرح، لكن إذا كنا نتحدث عن مجال الدعوة؛ فهذا لا يكفي.
أنا أعرف أنك لا تقصد أبدا التقليل من أهمية العقيدة، ولا تقصد أن تكون الدعوة بمعزل عن العقيدة، لكن أنت تقول بأنها معركة سهلة، وأردت أن أنقل لك بعض ما أشعر به من قلق، ليس لأن العقيدة الإسلامية صعبة الفهم والتقبل، ولكن لقلة الجهود.
وفي رأيي أن أمر العقيدة سيختلف من شخص لآخر، لكن الأهم أن معركة العقيدة لن تكون بحال واحد عندما نتحدث عن مسلمين عرب قدموا من بلادهم إلى الغرب في سن كبيرة ووعي عميق بعقيدتهم، وآخرين ولدوا هنا لأبوين مسلمين وأحسنوا تربيتهم أو أساءوها، وآخرين دخلوا في الإسلام حديثا، وآخرين ما زالوا يبحثون، أو لنقل الفئة التي تُدعى إلى الإسلام وما زالوا متأثرين بما عاشوا معه من أفكار طوال حياتهم؛ فعلى طرفي النقيض الأول والأخير.
هذه أفكار، شعوري أنها مبعثرة وغير مرتبة، لكن كتبتها لعل فيها ما ينفع، أو يسهم في رسم الصورة الكاملة إن أصبت.
وبارك الله فيكم وتقبل منكم.
30/9/2025
رد المستشار
أختي الكريمتين، أعرف أنه على قدر القرب تكون المحاسبة، وأن الثقة الغالية التي في صدوركما تجاه صفحتنا ونحو شخصي الضعيف هي كنز ثمين يستحق عناء الاهتمام بكل كلمة تصدر عنكما ولو كانت عتابا.
وأنتهز الفرصة لأذكر لكما ولكل الأحباب والأصدقاء أنني لست متفرغا لعمل الصفحة كل الوقت، ورغم اعتزازي الشديد بكم جميعا فردا فردا فإن لي أعمالا كثيرة أخرى تتطلب جهدا ووقتا، وأكتفي هنا بذكر عملين: التدريس بالجامعة، ومتابعة الحالات التي تشرفني بالزيارة في عيادتي الخاصة.
وبالتالي فإن ما يصلني من رسائل أو مشكلات فإنه يحتل مكانا متميزا ومكانة كبيرة ومهمة في قلبي ووقتي، ولكنه ليس وحده، وصدق من قال: الواجبات أكثر من الأوقات، ولا تحرمونا من الدعاء لعل الله يبارك في الوقت والجهد.
وأرجو أن تلتمسوا لي العذر إذا تأخرت عليكم أحيانا أو صدر عني تجاهكم أي نوع آخر من التقصير، والكمال لله وحده، وأرجو أن يصل اعتذاري هذا لكل من أسأت فهمه أو أساء فهمي، والله وحده يعلم ما في قلبي تجاهكم جميعا، وأكرر "جميعا" دون أن ينفي هذا اهتماما أكبر بمن يهتم أكثر فيتابع أو يشارك.
وأرجو أن أقرأ قريبا لمن انقطع عن هذا أو ذاك مثل أختنا المصرية الأمريكية أو أخينا المحامي الأردني وغيرهما ممن يضيق المجال عن ذكرهم، ولكن القلب يحفظ لهم أماكنهم الأخوية، وأرجو أن تعتبروا هذا بمثابة اعتذار جماعي أيضا.
ولو أنكم شرفتمونا بالزيارة لمكتبنا بالقاهرة لرأيتم أختكم سمر عبده غارقة في مهام إدارية فنية، وأختكم د. سحر طلعت موزعة بين عملها الجامعي وبيتها ومتابعة المشاكل التي تقوم بحلها على الصفحة، وحالات أخرى تحاول مساعدتها على أرض الواقع، ومنيرة عثمان مسافرة في إجازتها السنوية عند أخوالها بالشام، ومن قبل ومن بعد د. سداد جواد التميمي، وكذلك د. وائل أبو هندي في الزقازيق، وهذه أحوالنا فنحب أن تعذرونا كما تعاتبوننا، ولا تكره صفحتنا أحدا منكم أبدا "ويبقى الود ما بقي العتاب" كما قال الشاعر.
أمامنا مشاركتان: إحداهما من الابنة الكريمة في هولندا، والأخرى من ابنتنا الفاضلة في بريطانيا، ورغم أن الوالد قد يقسو أحيانا بدافع من حبه وحرصه فإنني لا أحسب نقدي للمسلمين وقصورهم في جانب الثقافة والحضارة يمكن أن يكون موجهًا لشخص بعينه أو أنه نقد يهدف إلى التثبيط أو الإحباط، ومجرد التفكير في هذا يفزعني؛ لأنني أعرفني كثير النقد لنفسي ولمن حولي، وعلى قدر اعتزازي وحرصي على علاقتي بإنسان يكون نقدي له متكررا وقاسيا؛ فيا للهول هل أنا بصدد اعتذار آخر لكل من انتقدته على هذه الصفحة يوما ما؟! لا بأس، ولكن أخشى أن برودة النصح تنفي أحيانا صدق المودة والاهتمام، وربما يكون الجمع بين هذا وذاك واردًا..... لماذا لا نجرب مرة جديدة؟ دعوني أحاول.
وإلى ابنتي في هولندا أقول: لعلك في المرات القادمة بمشيئة الله تكتبين لنا ما تريدين قوله في القلب، وترفقين به في رسالة منفصلة أو ملف ملحق الصيغة التي ترينها مناسبة للنشر كما فعلت الابنة في بريطانيا، وهي دعوة للجميع ممن يحبون أن يفصلوا بين البلاد العربية Arab Countriesهذه لكم" و"هذه للنشر"، وهذا أفضل وأتقن؛ لأن تغيير معالم رسالة ما ليس بالمهمة السهلة، وربما لا ترضى كاتبة الرسالة عنها بعد التعديل أو الاختصار، وهو ما تم بالفعل؛ فلتفعل هذا بيدها حتى تقول مع القائل: "بيدي لا بيد عمرو"، وهكذا المثل العربي.
إذن هذه قاعدة جديدة مستندة إلى خبرتكم معنا وخبرتنا معكم، وهى أن يقوم الكاتب أو الكاتبة صاحب أو صاحبة المشكلة بكتابة التفصيل المفيد لمشكلته بكل تضاريسها، وفي نص آخر يكتب الصيغة التي يرضاها للنشر إذا كان لا يحب نشر الرسالة الأصلية برمتها.
وقبل أن أنسى يبدو أن وضع الأقواس حول بعض الجمل في كتابة النص يفسد ترتيب الكلمات، فلا داعي للأقواس، ويمكن استبدال ترك مسافة أو وضع نقاط على السطر أو فاصلات للتمييز بين معنى وآخر بها.
والآن إلى "مربط الفرس" وحجر الزاوية في المشاركتين، ورغم أن نص إجابتي السابقة ليس أمامي الآن فإن المقتطف الذي أوردته بنتاي يبدو كافيا.
وهذه مناسبة لأقول بأن القراءة الدقيقة يمكن أن تخرج بنتائج مختلفة عن القراءة المعتادة، ونحن لم نتعود على الأولى ونحتاج إلى تدريب. ويا رب لا تعتبر ابنتي في هولندا أن هذا يحمل نقدا جديدا محبطا لها، إنما هو إرشاد لنا جميعا.
قلت أنا في إجابتي السابقة: أعتقد أن المعركة في مساحة العقيدة أسهل بالنسبة لنا منها في مساحة الثقافة.... إلخ.
فما علاقة هذا بمشكلتك يا ابنتي الهولندية كما تسألين؟! العلاقة ببساطة تكمن في شكواك الأصلية فيما يخص أوضاع المدرسة التي يدرس بها إخوتك، ولعلك إذا أكملت نص إجابتي السابقة نفسه فستجدين إشارة إلى أن خوضك لمواجهة مع المدرسة في شأن تدريس الدين المسيحي للمسلمين بالإجبار، هذه المواجهة ستنتهي لصالحك غالبا، وبخاصة إذا كان هناك نص قانوني واضح بهذا في قانون البلاد، ونص لائحي واضح في النظام المعمول به في المدرسة، وهذا في الشق الخاص بأسرتك أو مشكلة مدرسة إخوتك.
أما الشق العام الذي أردت التطرق إليه مستفيدا من قصتك بوصفها مدخلا إليه فهو حديثي عن معركة أو قائمة اهتمامات أو خطة عمل المسلمين المقيمين في الغرب بل والمسلمين جميعا، وفي هذا الجانب قلت ما قلت، وأخشى إما أن كلامي لم يكن بالتفصيل أو الوضوح الكامل، أو أنني وقعت ضحية للقراءة المعتادة، ولا أقول المتسرعة، حتى لا أُتهم بالقسوة.
ابنتي في بريطانيا تذكر في أكثر من موضع بمشاركتها أنني قلت: "إن معركة العقيدة سهلة"، ونصي واضح بالنسبة لى على الأقل؛ فأنا أقول بأنها "أسهل بالنسبة لنا منه في مساحة الثقافة"، إذن السهولة هنا ليست عامة ولا مطلقة، ولكنها مقيدة بقيدين يجعلانها نسبية؛ فهي أسهل بالنسبة لنا؛ لأننا أكثر دراية بها وأكثر اهتماما، ولأن عقيدتنا واضحة وبسيطة لا طلاسم فيها ولا ألغاز ولا أسرار مقدسة يحتفظ بها الكهان لأنفسهم..... إلخ.
وهي أسهل بالنسبة لنا مقارنة بالثقافة؛ لأننا نعرف عقيدتنا أكثر مما نعرف ثقافتنا، ولا يكاد أغلبنا -وهذا أيضا في نصي السابق- يعلم العلاقة بين التوحيد كعقيدة وتجلياته في نواحي الحياة المختلفة، ولكن السواد الأعظم منا يعرف جوهر التوحيد ويمارسه غالبا، ويستطيع الحديث عنه وعن معالمه وانعكاساته في ناحية الإيمان.
هذا ما قصدت إليه، وأرجو أن يكون واضحا، والرائع بل الأروع مما قلته أنا هو ما تقوله ابنتي في بريطانيا، وأختها ابنتي التي في هولندا، وأعتقد أن الاحتكاك بالمجتمع الغربي قد أتاح لهذه، وتلك إعادة اكتشاف الإسلام عقيدة ونظاما وحياة، والعلاقة بين هذا وذاك، وقد لفت نظري كيف التقطت ابنتي الهولندية الأمر التقاطا خاطفا، والزمن في دراستها له اعتبار كبير، وأتوقع لها مستقبلا لامعا بمشيئة الله، كما لفت انتباهي إحاطة ابنتي البريطانية الواسعة بجوانب الأمر، والأولى فتاة لم تتخط العشرين كما أحسب، والثانية زوجة وأم تخطتها بقليل كما أعلم؛ فما أسعدنا بكما نجمتين في سماء "الغرب المؤمن" بجهودكما وأمثالكما إن شاء الله.
وأعود لبعض النقاط التي تثيرها رسالة البريطانية بعد أن أوضحت فيما سبق مقصدي من سهولة المعركة في مساحة العقيدة لأقول:
إننا بالملايين في العالم العربي والإسلامي نكاد لا ندرك العقيدة على النحو الذي ينبغي أن ندركه، ولا العلاقة بينها وبين شؤون وأنظمة الحياة جميعا، ولدينا كتب ومجلدات تفيض في الحديث عن عقيدة السلف واجتهادات الخلف وعن الأسماء والصفات والاستواء، وتفسير حديث "أين الله؟"، إلى غير ذلك من الأدبيات التي يغني المسلم العادي منها القليل، بينما يفتقد شرحا جديدا لهذه الأصول يربط بينها وبين تجلياتها في الآفاق والأنفس ونظرة الإسلام وفلسفته في نواحي الحياة المختلفة، ولا أنفي بكلامي هذا جهود الكثيرين، ولكننا نحتاج إلى ما هو أكثر، ولعل من أنجزوا في هذا الميدان الراحل الدكتور إسماعيل الفاروقي، ولعل بعضكم يعرف غيره فيدلنا.
ومرة أخرى فإن الاحتكاك بثقافات أخرى يفيد المسلم المتحمس الواعي لدينه فيعيد اكتشافه، ويرى ما كان غائبا عنه في الدين وفي الواقع معا، وكنت أحب لو ذكرت ابنتي البريطانية ما قالته جارتها عن الإسلام؛ لأن من مزايا الاحتكاك بالغير ومن مصادر إعادة الاكتشاف للدين هو ما يراه الآخرون من غير المسلمين فيه من جوانب عظيمة، والفضل ما شهدت به الأعداء كما يقول الشاعر.
وهذه النقاط تكون مهمة لمن يريد تقديم الإسلام على حقيقته بما يلفت انتباههم هناك مخاطبا لهم باللسان الذي يفهمون، ومن مدخل النقاط التي شدت أنظار البعض منهم بالفعل.
بات من الواضح للجميع أن صورة الإسلام مختلة، ودور المسلمين في إحداث وتكريس هذا الخلل كبير، وهذا الدور البائس يقوم به المسلمون عبر تخلفهم في بلدانهم وجهلهم بما لديهم وعجزهم عن تقديمه للآخرين، وفاقد الشيء لا يعطيه.
وأنا هنا لا أتهم المسلمين بالكفر أو الشرك كما يحلو للبعض أن يفعل -لا سمح الله- ولكنني أقول بأن معرفة أغلبهم بالدين والدنيا ما تزال قاصرة، وممارستهم لهذا في تلك غالبا ما تكون منفرة إن لم تكن مستفزة وموغرة للصدور أحيانا، ولو أن جهودًا واسعة مخلصة انصرفت لتحسين أحوال فهمهم وممارستهم لكان هذا أكبر مدخل فعال لتحسين صورتهم بتعديل واقعهم؛ لأن صورة هذا الواقع بائسة وسلبية، فما بالنا وأعداؤنا يزيدونها ويبالغون وكثيرا ما يكذبون للمزيد من التشويه؟!
وأخشى أن تظل هذه الصورة السلبية حائلا دون إعلان الكثيرين لإسلامهم؛ لأن هذا الإعلان يتضمن انتماء ومسؤولية، والكثير من العقلاء لن يحبوا الانتماء إلى أمة مثل أمتنا أو أن يتحملوا مسؤولية النهوض بأعباء هذا الانتماء، إلا إذا استقر في قلوبهم إيمان يغلب كل هذه المخاوف التي ينبغي أن نعترف أنها حقيقية، وأن لنا دورا كبيرا فيها، وبالتالي في الصد عن سبيل الله، ولا حول لا وقوة إلا بك يا رحيم.
لم أقل أبدا إن عقيدتنا -مثل أرضنا وعرضنا- ليست موضع تهديد في ظل ما تقدم، بل أؤكد أننا بسبب جهلنا وتخلفنا نبدو لقمة سائغة داخل أوطاننا وخارجها لكل من يحلو أن يستعرض عضلاته العسكرية أو فحولته الحضارية والثقافية، فيعتبر أرضنا مسرحًا لاستعراض قواته وبلادنا سوقا لترويج منتجاته الثقافية، ونحن نشتري ونغري بالمزيد، ولا أعمم، ولا أنا متشائم، ولكنني أحلم باليوم الذي نغزوهم فيه حضاريا وفكريا كما فعلنا من قبل، ولا يشبع طموحي أننا نكسب كل يوم أرضا جديدة وأنصارًا جددا؛ فالإسلام وحده أثبت أنه يستحق إدارة دفة الإنسانية بعدله وسعة أفقه، وقبوله للغير، وكل ما يحمله من معان وقيم، وهكذا كان، وهكذا ينبغي أن يكون لولا أحوالنا التي آن لها أن تنصلح.
وإذا كانت لدينا مساحات فراغ في فهم وممارسة العقيدة وارتباطها بالحياة وأنظمتها وتجلياته في الأنشطة الإنسانية وطريقة الدعوة إليها والحركة بها بين العالمين في هذا العصر، إذا كان لدينا هذا الفراغ؛ فنحن مهددون في عقيدتنا، والتهديد أكبر في الخارج، وفي حياة الجيل الناشئ، وهو في مساحة العقيدة، وفي بقية المساحات أشد؛ لأنها المداخل المطروقة أكثر في تلك المجتمعات.
إذن التهديد قائم في كل المساحات، ولكن المعركة في مساحة العقيدة ستكون أسهل إذا فهمنا وقررنا أن نخوضها أصلا للاعتبارات التي ذكرتها.
وتتحدثين -يا ابنتي البريطانية- عن عبادة المادة وسيطرة القيم المادية وتهميش دور الدين في الحياةالغربية، وعندنا في أوطاننا تشيع هذه الكوراث، ولكن على نحو مختلف؛ فيبقى الدين مجرد شكليات ومظاهر لتصدر كتب مطولة عن الزي ولونه وصفة الصلاة وأوضاعها ونبوءات الساعة وعلامات اليوم الآخر، وتنطلق حناجر الواعظين في مجالات تعرفينها، بينما المساحات الأخطر مسكوت عنها، والناس تغط في نوم عميق وتخلف ثقيل تحمد الله أنها تحج وتعتمر وتلبس الحجاب والنقاب ولا تشرب الخمر أو تأكل الخنزير، وتنفق من أموالها في كسوة عار أو كفالة يتيم، ولكنها لا تعرف للخير غير هذه الأبواب، ولا تعرف للخطر غير أشكاله البدائية البسيطة وتنام لتحلم بمستقبل هذا الدين.
ولا يكفي أن يستقر الإيمان في أعماق القلب بل لا بد أن يعرف الإنسان كيف ينطلق تعبيرًا عنه في أنشطة الحياة وتعميرًا به في أرض الله وبين خلقه أجمعين؟
فمن منا يعرف الموسيقى الصوفية التي أبدعها المسلمون في الأندلس وتركيا وغيرها التي يستخدمها اليوم غيرهم للاستشفاء والاسترخاء؟ ومن منا يعرف فن التلوين والزخرفة والخط بأنواعه، وهي إبداعات فنية استحدثها المسلمون وطوروها أحيانا أخرى ليبدعوا فنا مؤمنا لا تشبيه فيه ولا تجسيد؟
ومن منا يعرف رقصات الحرب بالخيل والرماح أو يعرف فنون الأزياء الإسلامية على مر العصور وفي مختلف الأصقاع والأجواء أو أنواع الأكلات من الشرق إلى الغرب المسلم، أو الألعاب التي كان يسمر بها الصغار والكبار، أو الفكاهات التي كان الناس يقضون بها وقت الترفيه فيما يفيد ويمتع؟
وبشكل أعمق من يعرف ترتيب الإسلام وفلسفته في تقسيم وتوزيع مساحة الفراغ المعماري والاجتماعي، وترتيبه للأدوار المتداخلة والمتكاملة بين الرجال والنساء، بين الأسرة والعائلة والجماعة، وطرقه في التواصل اللغوي وغير اللغوي، ونظرته لمفهوم الذات والغير، وموزانته بين قيمة التعاون ورغبة التنافس، ووجهة نظره فيما يخص المجالين العام والخاص، وكيفية صناعة القرار وتنفيذه، وإدارة الحوار والعلاقات والأوقات.
هذه بعض مستويات الثقافة والحضارة وللإسلام فيها نظرات وتجليات، ويسعدني أن أكون الأكثر جهلا بها بين المسلمين، وأن يكونوا جميعا عالمين بها أو ببعضها، حاملين لها حيثما حلوا أو ارتحلوا.
لا يوجد عند المسلم الحقيقي أي انفصال بين الإيمان كعقيدة وفكرة وتجلياته في كل شأن وناحية ودراسة وفعل، ولكن هذا الاتصال الموجود في أصل الدين مفتقد في واقع المسلمين ونحتاج إلى استعادة المنظومة كلها.
فالإيمان يزيد الطاعات، ومنها عمارة الأرض، ودعوة الناس بالكلمة والقصة والفكاهة الهادفة والترفية النافع، وغير ذلك مما يغيب عن ممارسة المسلم العادي اليومية، والجهود فيه قليلة وأنظمة العيش في الفن والطبخ والاتصال والسلوك في العلاقات والخصومات... هذه الأنظمة عندما تكون متولدة من تفكير سليم واجتهاد يفقه الدنيا والدين؛ فإن ممارسة هذه الحياة عندئذ تقود إلى تعميق الإيمان وجذوره في القلب وينطلق لى آفاقه في الحياة... هذه بعض أفكاري على هامش الرسالتين الكريمتين، وأحسب أنني أطلت فأكتفي.