بين الرغبة وطاعة الوالدين؟؟
أريد أن أخرج في سبيل الله ثلاثة أيام ولكن والدي ممانع لذلك رغم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ساعة في سبيل الله خير من ليلة القدر".
ماذا أفعل لأجعل أبي يوافق فالساعة في سبيل الله لا يمكن حصر حسناتها فماذا أفعل؟؟
أرجو الرد سريعا جدا لأنه قد تولد مشاكل بالبيت بسبب هذا الموضوع قد تكون هذه المشكلة بالنسبة لك عادية أما بالنسبة لي فهي غير عادية
وهذه المشكلة بدأت من ثلاثة أشهر.
22/11/2006
رد المستشار
ولدي الحبيب "شريف"، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ومرحبا بك، وبعد..
فأحيّي فيك حرصك على الخير واغتنام الثواب بفعلك الطاعات والقربات، وأسأل الله عز وجل أن يبارك فيك ويكثر من أمثالك، فأنت ومن هم على شاكلتك هم عدِّة الأمة وذخرها في مواجهة ما يحيق بها، وأملها للخروج مما هي فيه من تأخر وهوان. ولكن دعني يا ولدي أراجع معك بعض المفاهيم التي قد تكون غائبة عن ذهنك، وأرجو أن تجد كلماتي طريقا إلى قلبك وعقلك.
إن المسلم يا ولدي مطالب بأن تكون حياته كلها في سبيل الله عز وجل، وليس مجرد بضعة أيام أو ليال فقط، يقول سبحانه: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين)، ويكون ذلك بأن يعيش المسلم حياته على منهج الله سبحانه، في معاملاته وعباداته، في حركاته وسكناته، في شغله وفراغه، وفي كل شئون حياته، وذلك بأن يجعل نيته في كل عمل موجهة للّه عز وجل، حتى في الأمور المتعلقة بطبيعة الإنسان، والتي يشبع بها حاجاته الغريزية، من طعام وشراب وشهوة، فتتحول تلك الأمور كلها إلى عبادة له سبحانه وتعالى، يأخذ عليها الأجر كالصلاة والصوم والزكاة والحج والجهاد، وسائر الطاعات والعبادات، ولأضرب لك مثالاً يقرب إليك معنى حديثي هذا:
لو أنك قبل أن تأكل نويت بهذا الطعام أن تتقوى على عبادة الله عز وجل، ولا تكون ضعيفا عاجزا، فأنت تأخذ أجراً على طعامك هذا فوق إشباع شهوة البطن، ولو نويت بمذاكرتك وتفوقك خدمة الإسلام والمسلمين ورفع شأن الأمة بعلمك، فأنت تأخذ الأجر والثواب من الله عز وجل فوق المكانة الدنيوية التي تحوزها بهذا العلم، ويكون سعيك في طلب العلم واجتهادك فيه بمثابة الجهاد في سبيل الله عز وجل، وهكذا يا ولدي، حتى شهوة الفرج لو نوى بها المسلم المتزوج تحصين نفسه وزوجه من الحرام وإخراج نَسَمة مؤمنة تعبد الله عز وجل، فهو يأخذ بهذه النوايا الأجر من الله عز وجل فوق تسكين شهوته واستمتاعه، ومصداق ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"وفي بُضْع أحدكم (أي فرجه) صدقة" فقال الصحابة متعجبين: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرامٍ أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرا" رواه مسلم. وتقول السيدة عائشة رضي الله عنها: "ما تمتع به الفجار تمتع به الأخيار وزاد عليه تقوى الله عز وجل".
إذا استقر هذا المفهوم في ذهنك يا ولدي ستكون حياتك كلها طاعة للّه عز وجل وعبادة له وخروجا في سبيله. وبهذا المعنى نفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أشرت إليه، فالساعة التي في سبيل الله عز وجل، يقصد بها النبي صلى الله عليه وسلم كل عمل صالح تقوم به في حياتك، ويعود نفعه عليك وعلى مجتمعك وأمتك وكل من حولك، وليس معناه أبدا مقصورا على (الخروج في سبيل الله) بمفهومك.
وأرجو ألا تفهم من حديثي هذا أني أعارض رغبتك في (الخروج في سبيل الله) على المعنى الذي تريده، وهو ترك المنزل والإقامة في أحد المساجد هذه المدة مع رفقة صالحة، مع دعوة الناس إلى الخير وفعل الطاعات، فهذا أمر طيب أسأل الله عز وجل أن يتقبله من كل من يقوم به، ولكن ما أريد أن أصل إليه أن يكون لديك فقه للأولويات، بحيث تستطيع ترتيب حياتك وفق أولوية وأهمية كل طاعة تريد أن تقوم بها.
فلا شكَّ أن ما تريد أن تفعله هو طاعة للّه عز وجل، ولا شك أيضا أن طاعة والدك في المعروف وبرك به طاعة للّه عز وجل أيضا، ولكن حين نزن الأمرين بميزان الأولويات، نجد أن بر الوالد وطاعته في المعروف هو فرض عليك، تحاسب من قبل الله عز وجل إن فرطت فيه وضيعته، أما ما تريد أن تقوم به فهو نافلة إن فعلتها فلك الأجر وإن تركتها فليس عليك وزر، وتستطيع أن تأخذ من الفرائض والطَّاعات والنوافل الأخرى ما يسد عنها بل ويفوقها أجرا عند الله.
والله عز وجل يقول في حديثه القدسي: "ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه" فالفريضة أولاً، وهي في هذا المقام تتمثل في بر والدك وطاعته، والله عز وجل يأمر الأبناء بطاعة الوالدين وبرهما، وجعل الإحسان إليهما في المقام التالي مباشرة لعبادته سبحانه، حيث قال: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا"، وقال مخاطبا من يدعوه والديه للشرك باللِّه وهو أكبر الكبائر "وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علمك فلا تطعهما" ولكنه أردف خلفها مباشرة: "وصاحبهما في الدنيا معروفا"، فحتى الأمر بالشرك باللِّه ليس مُسوغا للإساءة إليهما، بل معاملتهم بالمعروف والحسنى لازمة في كل وقت وعلى كل حال.
ولا شك أن أباك لم يطلب منك الشرك باللِّه، بل ربما منعك من هذا العمل لأسباب أخرى، منها الخوف عليك من شيء ما، أو لأنه يرى أن عليك واجبات أخرى أولى من هذا العمل يجب أن تقوم بها، وعلى رأس هذه الواجبات مذاكرة دروسك.
إن هناك ما يسمى عند العلماء بـ (واجب الوقت) وهو العمل الذي إذا حضر وقته الذي لا بد أن يؤدى فيه فلا يجوز أبدا تقديم غيره من الأعمال عليه، وأعتقد أن واجب الوقت بالنسبة لك يا ولدي هو القيام بما افترضه الله عليك في هذه المرحلة العمرية التي تمر بها، وهو أداء الصلوات في أوقاتها، ومذاكرة دروسك والتفوق في دراستك، وبر والديك وطاعتهما في المعروف، ثم تأتي بعد ذلك كل الأعمال الصالحة التي تستطيع أن تقوم بها في حياتك بعد أن تؤدي تلك الواجبات.
وأذكرك بالشاب الذي أتى للنبي صلى الله عليه وسلم متطوعا للجهاد في سبيل الله، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: "أحيُّ والداك؟" فقال الشاب: نعم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ففيهما فجاهد" رواه مسلم. فنرى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أن خدمة هذا الشاب لوالديه والإحسان إليهما وبرهما يعدل الجهاد في سبيل الله، في الأجر والمثوبة.
فلا داعي أبدا يا ولدي أن تَخْلِقَ مشكلة مع والدك، وتؤزم الأمور، وتجعله يغضب منك بسبب عدم طاعتك له، بل استحضر نية بر والدك والإحسان إليه، وعدم رغبتك في إغضابه طاعة الله عز وجل وإن شاء الله ستأخذ الأجر الجزيل والثواب الكبير إن فعلت هذا، بل وسيكتب الله عز وجل أجر الخروج حتى ولو لم تخرج، فالأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.
أسأل الله عز وجل أن يوفقك لما فيه الخير والرشاد، وأن يتقبل منا ومنك صالح العمل، وتابعنا بأخبارك.