أمي لم تعد كافية
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
بداية أقدم شكري واحترامي لكل القائمين على الموقع، وأتمنى أن يجيب الدكتور وائل أبو هندي على استشارتي. سأحاول الكتابة بلغة سليمة وأتمنى سيدي أن تكون صبوراً معي في قراءتها وألا تمل مني.
كنا نعيش في دولة خليجية، كانت البلد التي أعيش فيها أقرب إلى المدينة الفاضلة؛ كل شيء فيها منظم وهادئ وجميل، حتى حياتي فيها كانت كذلك، ثم جاءت المرحلة الجامعية وذهبت إلى الجامعة في مصر وأعتقد أن مشكلتي تبدأ من هنا.
صدمت بالوضع السيئ في كل شيء؛ غش، وخداع، وواسطة، وتدنٍ أخلاقي مرعب، وانعدام النظام، حتى المنظر الجميل التي كانت تطل عليه غرفتي هناك، تبدل هنا إلى آخر مثير للإشمئزاز، كل شيء صدمني. حتى لا أطيل عليك، مرت السنتان الماضيتان بصعوبة بالغة -إن صح التعبير-، أبكي وأنا قادمة إلى مصر، أهدأ قليلاً على أمل أنه لم يبق إلا أشهر قليلة وأعود لأهلي، أذهب في إجازة نصف العام أسبوعين أو ثلاثة ثم أعود إلى مصر أبكي -بعد عودتي من أول إجازة كانت تأتيني نوبات أشعر فيها بالقلق العارم والخوف الشديد من دون سبب، ولا أطمئن إلا بعد أن أتحدث مع أمي، وذهبت هذه النوبات بعد ثلاثة أسابيع-، ثم أسافر.
وهكذا مرت السنتان الماضيتان، كانتا مليئتين بالمشاكل الشديدة؛ مشاكل مع جدتي التي أقيم معها، ومشاكل أخرى لا يوجد مجال لذكرها الآن ولكن لم أكن أشعر بأي من الأعراض التي سأذكرها الآن. منذ بداية هذه السنة وأنا أشعر بأني أصبحت كالمجنونة، بل مجنونة فعلاً! عصبية جداً ولأتفه الأسباب، بل أحياناُ لا توجد أسباب، أشعر بالضيق الشديد أحياناً وبالسعادة العارمة أحياناً أخرى، ودون سبب في الحالتين!! أشعر بالوحدة الشديدة والفراغ الشديد، بطبعي لست ممن يستطيع تكوين صداقات بسهولة، لا يوجد في عائلتنا من هو في عمري أو من أستطيع التحدث معه إطلاقاً، أبحث كثيراً عمن يعوضني حنان أمي المفقود فجأة، أو عن الأسرة الغائبة، عن أخي الصغير (وهو ابني الذي ولدته أمي)، فلا أجد.
مررت بحالات كثيرة لا أجد لها مبرراً، حتى أمي التي أحبها كثيراً كانت تأتي فترات لا أطيق فيها مجرد سماع صوتها. أشعر كثيراً بالخوف الشديد دون مبرر، وبزيادة ضربات قلبي وزيادة تنفسي، كما كان يحدث في الماضي، ولكن لم يعد صوت أمي يريحني كما كان يحدث سابقاً! كنت قد قررت أن أكتب لك قبل شهر، ولكن كان باب استقبال الاستشارات قد أغلق، ثم سافرت بعدها إلى أمي. قبل السفر بيومين توفي طالب في دفعتنا، شعرت بالخوف الشديد وبأنه من الممكن أن يحدث هذا لي، أخذت أحاول جاهدة التركيز في صلاتي بعد أن كنت أصلي ولكن لا أعلم حتى كم ركعة صليت.
يوم السفر أحسست بأني سأموت يومها، وسيطرت هذه الفكرة على ذهني، كنت على متن الطائرة أفكر بأنها ستسقط، لن تصل ولو وصلت سأموت قبل أن أراهم، وأخذت أدعو الله أن أراهم قبل أن أموت (مع العلم أني ركبت الطائرة كثيراً جداً ولا أخاف منها إطلاقاً). بعد أن ذهبت إلى هناك اختفت فجأة ولمدة أسبوعين كل أعراض الحزن، لم يبق إلا الخوف بلا سبب، وفي ثالث أسبوع ومع بدايته شعرت بالضيق الشديد وبالبكاء دون سبب ورغماً عني، وهنا حدثت المواجهة بيني وبين أبي، وكنت قد طلبت منهم سابقاً أن أقوم بتغيير الكلية لأني لا أحبها -مع العلم أني نجحت في السنتين الماضيتين بتقدير جيد جداً-، لم أحكِ له أي شيء، فقط قلت له أني متضايقة لبعدهم عني، وهذا هو ما قاله لي: أني إنسانة هشة ضعيفة وغبية، متشائمة فلا أرى إلا النظرة السلبية للأمور، جحودة حقودة لا أحمد الله على شيء ولا أنظر لمن هو أقل مني، أبحث عن المشاكل لأعيش فيها، نكدية، ونتيجة لكل هذا سأصبح فاشلة طوال عمري، مع العلم أن أبي يحبني كثيراً. اليوم هو أول يوم لي بعد عودتي إلى مصر، أشعر أني في حالة غريبة؛ لم أبك مثل كل مرة، فقط الدقائق التي ودعتهم فيها ثم كنت بعدها كالمذهولة لا أشعر بأي شيء، وكنت أبتسم وأضحك مع صديقاتي بصورة طبيعية.
الآن بدأت اشعر بما حدث، بدأت أبكي، أشعر أني أختنق، أني في كابوس لا يريد لأن ينتهي، لا أعلم ماذا أفعل؟ عندي امتحانات ولا أستطيع فتح كتاب، لم أدرس جيداً وطوال السنة كان أدائي سيئاً جداً في الامتحانات التي كانت عندي قبل السفر، أشعر بأني سأرسب هذه السنة، كل ما أخافه هو ردة فعل أبي وحزن أمي. أشعر بأني أختنق، أعلم أني أطلت كثيراً، ولكني أخشي ألا ترد على رسالتي إذا لم أجب على أسئلة الإرشادات كاملة.
ما يضايقني ويزيد اكتئابي أشياء غريبة، مثلاً: الآن ما أبكاني هو سماع صوت الأذان على الكمبيوتر المحمول لأنه كان مضبوطاً على مواعيد الأذان عندهم عندما كنت هناك. أي شيء كنت أحبه سابقاً مثل أن أستيقظ في الصباح الباكر وأقف عند الشباك منتعشة بنسمة الصباح الباردة، الآن هذا الموقف يخنقني كثيراً، وهكذا. كثرة لوم النفس وتأنيب الضمير؛ نعم أعتقد أنها موجودة. طبيعة نومي، هناك أنام قليلاً فقط، أنام حينما تكون أمي نائمة لأني لا أريد أن أضيع لحظة واحدة دون الجلوس معها، هنا أنام كثيراً للهروب من التفكير ومن كل شيء.
الرغبة في الموت أو الانتحار؛ قبل موت الطالب الذي كان معنا كنت أتمنى الموت ولكني الآن أتمنى أن أختفي، لا أعني ب"أختفي" الهرب، ولكن أعني أن أختفي من الدنيا كأني لم أولد -وهذا مستحيل طبعاً- لذا فالدخول في غيبوبة طويلة جداً من الممكن أن يحل الموقف. أما الانتحار فلا؛ لأني أخشي من عذاب الله. لا أتعاطى المخدرات والحمد لله. نوبات هلع؛ نعم كما ذكرت سابقاً. تصوري لنوعية المساعدة؛ لا أعلم، نعم أرغب في وصف دوائي إن كان هذا ممكناً أحياناً، أسعد حينما أمرض أو أتخيل أني مريضة (بعض الأمراض فقط: مثل المزمنة غير المعدية ولا مميتة) ولا أعلم لماذا؟! وأحياناً أتوهم أني مريضة وأخاف جداً وأجزع ولا أطمئن، وتنتابني شكوك وتوهمات ولا أرتاح حتى أذهب للطبيب وأطمئن أنه لا يوجد شيء أو أن الموضوع أبسط مما كنت أتصور. أحياناً أتمنى أن يغمى عليّ قليلاً من باب تجربة الشعور بالهدوء وعدم الإحساس بشيء (لم يغم عليّ من قبل). أما بالنسبة لأحلام اليقظة؛ فأنا أعيش فيها منذ سنوات لدرجة أنها تمنعني من الدراسة، وأحياناً بعد فترة لا أستطيع التفريق إن كان هذا الأمر قد حدث فعلاً أو أنه كان من وحي خيالي.
سيدي، أعلم أني قد أطلت عليك كثيراً وأني إنسانة مملة كثيرة الشكوى، ولكن أتمنى منك أن تساعدني، وأن أتلق رداً سريعاً قبل أن أضيع تماماً.
شكراً لسعة صدرك، شكراً لك.
22/02/2009
رد المستشار
أختي الفاضلة،
أقدر ما تعانيه من ألم ووحشة، وكل من درس خارج الوطن شعر بما تشعرين به من قلق وتوتر وحنين للوطن، أقصد هنا بالوطن الذي نشأت وترعرعت فيه لا الموطن الأصلي، وهذا ما يسمى home sickness. إلا أن هذه الأعراض قد زادت إلى الحد الذي يفسر أن ما تعانيه ناتج عن اضطرابات في التكيف أو اضطرابات التأقلم adjustment disorder، وهذه الأعراض متمثلة في القلق الشديد والخوف اللا مبرر. إن استمرار هذه الأعراض طيلة هذه الفترة دون اللجوء إلى من يساعدك تصاحبت بأعراض اكتئابية: كالخوف والتوتر والعصبية والشعور بالضيق الشديد والوحدة والفراغ وفقدان المتعة بالحياة والحزن الشديد وتمني الموت، وهذا ما يسمى بنوبة اكتئابية. ولكي تتخلصي من هذه الأعراض عليك أولاً أن تقتنعي بأنك في بلدك الأم وأن تبعدي الأفكار السلبية عن رأسك، وأن تعيدي برمجة عقلك بأفكار إيجابية كالحصول على الشهادة الجامعية، وأن هذه الأيام ستمر سريعاً، وأنك فعلاً سعيدة، وأن تشعري بالتفاؤل، وأن تعيشي بالأمل، فإن وصلت حقيقة إلى هذا الاعتقاد فإنني متأكد من أنك ستتخلصين من مشكلتك، وإلا فيمكنك استخدام بعض مضادات القلق والاكتئاب عن طريق استشاري أمراض نفسية.
اضطرابات التكيف:
مشاكل العمل، الزواج، السفر البعيد للدراسة، بعض الأمراض، تغييرات عديدة في نمط الحياة.. كلها تؤدي أو تسبب الإجهاد العصبي. في معظم الأحيان يتكيف الناس مع هذه التغيرات خلال أشهر قليلة، لكن إذا استمر الشعور بالإجهاد وفقدان الأمل والقلق فإن هذا يعني أنك تعانين من اضطراب في التكيف.
واضطرابات التكيف هي ردة فعل عاطفية شديدة تجاه أحداث صعبة في الحياة، وهب نوع من الاضطرابات النفسية المتعلقة بالإجهاد والتي تؤثر في الشعور والأفكار والسلوك. يشعر المريض بالكرب الشديد والحزن وقد تراوده أفكار انتحارية، وربما تعيق هذه الأعراض الشخص عن المشاركة في النشاطات اليومية كالعمل والدراسة أو رؤية الأصدقاء. مما قد يخلف عواقب وخيمة في حالة عدم تلقي العلاج المناسب. وهذه الاضطرابات في التكيف تكون أكثر استجابة للعلاج عند الراشدين منه عند المراهقين.
تختلف إعراض اضطرابات التكيف من شخص إلى آخر، وتبدأ بالظهور خلال ثلاثة أشهر من مسببات الإجهاد، وهذه الأعراض تنقسم إلى أعراض عاطفية (انفعالية)، وأعراض سلوكية.
الأعراض الانفعالية أو العاطفية: تؤثر على كيفية الشعور وتفكير الشخص حول حياته وتشمل؛ الحزن، واليأس، وفقدان المتعة بالحياة، والبكاء، والعصبية، والقلق، والانزعاج والاكتئاب، ومشاكل في النوم وصعوبات في التركيز.
أما الأعراض السلوكية لاضطرابات التكيف: تشتمل على المشاكل مثل المشاجرات، الابتعاد أو تجنب الأصدقاء والأقارب، سوء وضعف الأداء المهني أو الأكاديميين وتخريب الممتلكات العامة. وإذا استمرت هذه الأعراض إلى فترة أقل من ستة أشهر تعتبر الحالة حادة، وإذا ازدادت عن ستة أشهر تعتبر الحالة مزمنة وتتطلب ضرورة العلاج الدقيق لمنع تدهور الحالة.
*) يحدث اضطراب التكيف في جميع الأعمار دون استثناء، كما أنه يحدث في الجنسين على حد السواء، لكن عند البالغين فإن النساء أكثر عرضة للإصابة بإضرابات التكيف.
*) لا يوجد سبب معين للإصابة باضطرابات سوء التكيف، إلا أن الأبحاث تشير إلى أن الأسباب وراثية كما هو معروف في معظم الاضطرابات النفسية. لكن هناك عوامل مساعدة وهي توتر وإجهادات الحياة مثل الإصابة بالأمراض، والطلاق، وعدم الحصول على وظيفة، ومشاكل مادية، والناجين من الكوارث، وموت شخص عزيز، والسفر بعيداً للدراسة.
العلاج:
هناك نوعان أساسيان لعلاج اضطرابات التكيف وهما العلاج النفسي والدوائي.
العلاج النفسي: وهو العلاج الأساسي لاضطرابات التكيف، ويسمى أيضاً العلاج الاستشاري أو العلاج الكلامي، ويشمل العلاج الفردي والعلاج الجماعي أو العلاج الأسري، عن طريق توفير الدعم العاطفي والمساعدة يمكن للمريض أن يتغلب على ظروف الحياة الصعبة، كذالك عن طريق تعليم وإفهام المريض لماذا تؤثر الأحداث المجهدة في حياة الشخص. هذه المهارات تنمي في الشخص القدرة على التغلب على أحداث الحياة المجهدة.
العلاج الدوائي: ويستخدم في علاج بعض الحالات مثل حالات القلق والاكتئاب المصحوبة بأعراض انتحارية، وهنا تستخدم مضادات القلق والاكتئاب لفترة بضعة أشهر.