وبعد المسؤولية الشرعية للموسوس
السلام عليكم ورحمة الله،
الأستاذة الفاضلة رفيف الصباغ، تحية طيبة أرسلها لك، وتهنئة من القلب على ما حباك الله به من جمع بين علم شرعي وعطاء واقعي يعين الناس على أمور حياتهم ودنياهم كما يعينهم على أمر دينهم.
كنت قد أرسلت لك تعليقاً سابقاً باسم "موسوسة" عبرت فيه عن عميق إعجابي وتقديري بما قمت به من تأصيل منهجي لعلاج الوسواس عند الفقهاء القدامى، كما حدثتك أنني ممن عانوا -وما يزالون- من الوسواس لسنوات تتجاوز الخمس عشرة سنة، وشاء الله لي أن أتعرف على موقعكم وطرحكم المتميز في مجال علاج الوسواس القهري.
لكنني وبمتابعتي لإجاباتك على الاستشارات من الموسوسين وآخرها ما نشر اليوم بعنوان: "مجانين يتحدى: ما له القرين؟ متابعة" أجدك تجيبين الموسوس بالكلام المنطقي وكأن المشكلة التي يعاني منها هي أنه فقط "لا يعرف" أن ما يفعله وما يفكر فيه غير منطقي وغير معقول، فأشعر من الإجابة أنك تحدثينه وكأن الأمر "إرادي" يتحكم فيه الشخص فقط بالتفكير المنطقي، ولا تعرفين كم هي ثقيلة جداً هذه الفكرة أستاذتي على مثلي من الموسوسين الذين "يرون جنونهم ويشعرون به"، ولو كان الأمر بالسهولة التي تطرحينها حينما تقولين له: " ولكن غير الموسوسين يعلمون أنها أفكار مضحكة لن يقوموا بتطبيقها، فيبتسمون منها، ثم يرمونها بعيدًا إلى غير رجعة. أما الموسوس، فيصدقها ويقتنع أنه من الممكن أن يفعلها في يوم من الأيام، فيخاف منها، وتبقى بالتالي شبحًا مخيفًا يسكن في دماغه! ولو نظرت بشيء من التروي والهدوء إلى تلك الأفكار لضحكت منها ومن مضمونها ولعلمت أنها مجرد أفكار".
وأقول لك أستاذتي أن أكثر شخص يعرف كم هي مضحكة وسخيفة تلك الأفكار "هو الموسوس نفسه" ، الذي لا يعرف كيف وصل لهذه الدرجة من السفه التي يستغربه هو قبل أن يستغربها من حوله، هل أراك تحمّلين الموسوس مسؤولية وساوسه وتقولين أنه لو فكر "بالعقل" لما فعل ذلك؟ ولو استعاذ من الشيطان الذي شعرت أحياناً أنك تخالين الموسوس المسكين يستسلم له بكامل إرادته؟ أم أنه حساسية الأمر عندي كموسوسة جعلتني أستقبل كلماتك كذلك؟ الموسوس مريض أم لا؟ وما حجم دوره شرعاً وطبّاً فيما يحدث له؟ وهل للوسواس ارتباط بضعف الإيمان؟ وأسأل الله تعالى ألا تزيد إجاباتك من معاناتي التي لا يعلمها إلا الله.
تحياتي.
18/1/2010
رد المستشار
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،
إليك –أيضاً- مني أجمل تحية أيتها الطبيبة الفاضلة،
أعجبني أدبك الجمّ في طرح أفكارك واعتراضاتك، وأسأل الله تعالى أن يرزقنا جميعاً حسن الأدب معه ومع عباده. وأقدر ما أنت فيه من معاناة، ومن أسباب جعلتك تسألين تلك الأسئلة.
أختي الكريمة، بالنسبة لما أجبت به السائل في استشارة "مجانين يتحدى.."، فإن المقصود منه التهوين من شأن الفكرة لديه ليستطيع التخلص منها بسهولة ودون قلق... لا تحميله مسؤولية ما يأتيه من أفكار، أو تسخيف موقفه منها... فحتى غير الموسوس قد تزعجه فكرة ما -أحيانًا- فإذا قام غيره بالتهوين من شأنها، كان ذلك معينًا له على طردها من ذهنه كليًا مع أنه قد يكون عالمًا بسخفها قبل أن يهون الآخرون من شأنها!!
ولهذا –وإن علم الموسوس بسخف أفكاره- أطلب منه دائمًا أن يحدث نفسه عند -إلحاح الفكرة- ويقول: (آه، تذكرت! هذه فكرة سخيفة كاذبة، ولا داعي لأن أشغل نفسي بها). ومع تكرار تذكير النفس يزول إزعاج الفكرة حتى إن بقيت تدور في الرأس!! ثم ما يلبث العقل أن يرميها مع سائر الأفكار والحوادث التي لا تهمه!!
والموسوس إن علم سخف فكرته بهذه الطريقة استطاع –ولو جزئيًا في الحالات المستعصية- أن يتخلص منها... ولكنه إن قال: (هي فكرة سخيفة، لَكَمْ أنا غاضب إذ تأتي إلى عقلي!.. لماذا لا أستطيع طردها؟ لماذا أنا مختلف عن الجميع؟!...)، فإنه سيبقى يدور في فلكها، وقلقًا منها...، لماذا؟ لأنه –ودون أن يشعر- أعطاها قيمة وقدرة على التسلط عليه!!
فهل لاحظت الفرق؟ العلم بالسخف الذي يثمر العلاج: يجب أن يخلق في نفس الموسوس انطباعًا أنها فكرة غير محزنة، ولا مقلقة، لأنها غير صحيحة!! أما العلم بالسخف الذي لا يثمر علاجًا: فهو يخلق في نفسه قلقًا وحزنًا من كونه يقلق لفكرة سخيفة!! فيبقى في دائرة القلق والوسوسة إلى ما لا نهاية!
حتى رَدُّ الوسواس للشيطان: ما ينبغي أن يخلق عندك شعورًا بثقل المسؤولية، والضعف عن الامتثال! وإنما ينبغي أن يخلق عندك انطباعًا بكذب الفكرة، -إذ الشيطان لا ينصح للإنسان-، وشعورًا بضعفها – إذ إن كيد الشيطان ضعيف-!! وهذا من أجل أن يسهل عليك عدم الاستجابة.
أما بالنسبة للمسؤولية الشرعية:
فالمسؤولية شرعًا مرتبطة بالتكليف، فغير المكلف لا يسأل! والتكليف مرتبط بالقدرة والقصد، وعليه:
الموسوس غير مسؤول عن مضمون أفكاره، لأنه لا يحضرها عن قصد، وهو عاجز عن التحكم بها، لهذا لا يكلف ولا يحاسب عما فيها.
وهو مريض ولا شك، إذا العادة أن الإنسان غير الموسوس لا تستحوذ عليه الفكرة المزعجة هذا الاستحواذ، ويستطيع طردها من ذهنه بعد ورودها بيسر مقارنة مع الموسوس. وأنتم يا أهل الطب أدرى بذلك!
ولكن الموسوس مع هذا مسؤول عن طلب العلاج: فقد ثبت شرعًا وطبًا وجود علاج له،وثبت وجوب العمل بذلك العلاج.... وبعبارة أخرى: إن الموسوس مسؤول في أن يسعى ويبذل ما في وسعه في العلاج، وهذا ما يرفع عنه الإثم والحرج. أما نتيجة العلاج فليس مسؤولاً عنها! فلو أنه سعى وبذل الجهد ثم ضعف أمام إلحاح الوساوس، وكان إهمال اتباعها يفوق قدرته على التحمل، فهنا لا يُسأل ولا يحاسب! ولكنه مع هذا عليه أن يستمر في بذل الجهد المرة تلو الأخرى، إلى أن يكرمه الله تعالى بالشفاء!!
وهذا يقود إلى إجابة سؤالك الأخير: إن ورود الوساوس لا علاقة له بضعف الإيمان. بل قد شهد النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان لمن جاء يشكو الوساوس... ولكن عدم السعي في علاجها، -مع القدرة على ذلك- يتسبب بصدور أفعال تؤثر على الإيمان، حيث يزيد المرض ويستفحل، فيضعف الموسوس تجاه كثير من المنهيات والمعاصي، أو يترك الطاعات. ومن هنا يحق لوم الموسوس حيث فرط في حق نفسه إلى أن وصل إلى هذه الحال.
وبالمختصر المفيد: إنك مريضة، والشيطان يستغل هذا فيك. وما دمت تبذلين جهدك في العلاج فإنك غير مسؤولة عن شيء بعد هذا... أكرمك الله وإيانا بالشفاء من كل داء.