بداية أخشى أن الكلام عن العنف الفئوي في مجتمعاتنا كعنف المرأة ضد الرجل أو الرجل ضد المرأة إنما يحتل مكانة أهم مما يستحق في وجود العنف الهيكلي الذي ينتج العنف عند الجميع، بكلمات أخرى فإن تعريف الظواهر بشكل جزئي غالبًا ما يحرمنا من رؤية المشكلات في سياقاتها الكاملة، فكلنا في المجتمع الحديث نتعرض للعنف رجالاً ونساء وأطفالاً ولابد لذلك أن تكون له ردة فعل.
عنفُ الرجل ضد المرأة، قديم ومعروف، وما يزال يسجل ويحارب ويعاقبُ ويتمُّ التعايش معه وكلنا يعرفُ معنى العنف الرجالي الأسري;
كذلك عنف المرأة ضد الرجل معروف تقليديًا بأنه عنفٌ نسائي أي بطريقة أنثوية كالسحر أو الخيانة مثلا وهي طرق مستترة، كما أن العنف ضد الزوج لا يقتصر على الضرب وإن كان الضرب أوضح وأفدح صوره، ولكن هناك العنف اللفظي والمعنوي تمارسه الزوجات منذ عقود، وهناك الحرمان من الرعاية ومن العلاقة الزوجية وكلها أساليب نسوية لعقاب الرجل، ولكن عديدًا من الشواهد الآن في مجتمعاتنا العربية.
ومنذُ فترة في المجتمعات الغربية- يشيرُ إلى عنفٍ نسائي جديد يعتمدُ الأسلوب الرجالي في توجيه وإحداث العنف ضد الرجل، باختصارٍ أصبح عندنا عنفٌ نسائي أسري على الطريقة الرجولية، وإن كانت نتائج الدراسات العلمية تشير أحيانًا إلى أن العنف الأنثوي ضد الرجل ما يزال أقلَّ دموية من عنف الرجل، وأحيانًا أخرى تشير إلى عنفٍ أنثوي أكثر دموية وأمضى كارثية من عنف الرجل ضد المرأة، والحمد لله أن حوادث قتل الأزواج في مجتمعاتنا ما تزال أقل كثيرا من مثيلاتها في البلدان الغربية.
وكنتُ منذ سنوات خلال بحثي عن العنف الأسري قد قرأت عن متلازمة الزوج المضروب على غرار متلازمة الطفل المضروب في الأدبيات الطبية النفسية الاجتماعية، وأيامها هالني ما قرأت عن المرأة التي تضربُ زوجها، وعرفت أن في بريطانيا يتعرض (17%) من الرجال للاعتداء من زوجاتهم، وهذه النسبة ترتفع في الولايات المتحدة الأمريكية لتصل إلى(23%)، وفي الهند تبلغ (11%)، وتصل إلى أقل معدلاتها في الصين، فلا تتجاوز واحدًا في المائة ولعل هذا من أسباب تقدمهم.
ولا مجال لديَّ ولا لدى غيري لإنكار الشواهد التالية على أن بعض الأزواج يضربون في مجتمعاتنا، فهناك أكثر من دراسة للمعهد القومي للبحوث، خلاصتها أن نسبة تقارب الربع من المصريات المتزوجات يضربن أزواجهن، وهناك مئات الصفحات العربية على الإنترنت فيها حكايات ومانشيتات مثل الله يرحمك يا سي السيد، وهناك نتائج دراسات وآراءُ أستاذة زملاء وخبراء، وجاء في إحدى الدراسات أن معظم الأزواج المضروبين يحمد الله على تلطف زوجته به الذي يجعلها تضربه داخل البيت وبين جدران أربعة!!، لابد من التصديق إذن، ولكن مع التنبيه إلى أن ما تبقى لنا من خصوصيتنا الثقافية كمجتمعات متدينة -حفظه الله- ما يزال يحمي كثيرين من عنف زوجاتهم، وذلك رغم نتائج تلك الدراسات؛
فالحقيقة أن لدي مشاهد مختلفة عايشتها أثناء عملي لزوجة تضع زوجها فوق رأسها وهو موسوس أو فصامي أو مصاب بأي من الأمراض النفسية، صحيحٌ أنني رأيت العنف اللفظي والمعنوي من بعضهن لكنني كنت عاذرًا لهن دائمًا، ومعاتبًا أيضًا من منطلق نفسي وديني، وأما أن زوجة تضرب زوجها فلم يكن أكثر من صورة كاريكاتيرية مضحكة في خيالي، رغم معرفتي بأن كثيرًا من الأزواج يرفضون البوح بما تعرضوا له من عنف على عكس الزوجات.
عدة جمعيات أهلية تنشأ في مصر الهدف منها حماية الأزواج من بطش زوجاتهم -وهذه ليست فكاهة بل حقيقة- وهناك قضايا أمام المحاكم المصرية، طبعًا من الطبقات الاجتماعية الأدنى، -وهذا لا ينفي أن رجال الطبقات العليا يضربون ولكنهم ربما أقل لجوءًا للمحاكم- وتخيلتُ موقف الرجل الذي يطرقُ باب الطبيب طالبًا علاجه من آثار عنف زوجته، أو يتجه إلى قسم البوليس شاكيًا زوجتي ضربتني!، وحسبت أن أحدًا عندنا لن يفعل، ووصلتني استشارات نفسية عبر الإنترنت من أزواج يشتكون من المازوخية (اضطرب نفسجنسي يعني استعذاب الألم من قبل الطرف الآخر)، وعرفت كيف يكونُ من الصعب على مثل هذا المريض أن يقدم على الزواج إن كان أعزبَ، أو -إن كان متزوجًا- أن يطلب من زوجته أن تضربه رغم أنه يتلذذ بالضرب بسبب مرضه.
لكنني أثناء عملي كطبيب نفسي سمعتُ اعترافات أزواج مصابين بالاكتئاب كيف تحملوا عنف زوجاتهم لدرجة الضرب والعض أحيانًا، واستنتجت ساعتها أن الرجل الذي يتحمل عنف زوجته الجسدي ليس بالضرورة أن يكون مصابًا بالمازوخية، فقد تكونُ المرأة مريضة باضطراب شخصية أو شكاكة لدرجة الجنون وتضرب أحيانًا ويتحمل الرجل ولا يشكو -يقول إيه؟؟؟؟- إذن هناك رجالٌ يتحملون عنف زوجاتهم تحت تأثير عوامل عديدة منها النفسي والاجتماعي والاقتصادي.
والسؤال الآن هل كل ضاربة لزوجها مريضة نفسيًا؟؟ هل ربع سيدات مصر مريضات نفسيًا؟ بالطبع لا، وهل اختلفت الطبيعة الأنثوية للمرأة/الزوجة؟ فأصبح تعبيرها عن عنفها بطريقة رجالية مبررًا من جانبها؟ وهل نستطيع إرجاع الأمر إلى الظروف الاقتصادية أو السياسية الراهنة فقط؟ لا أظن فرغم أن الدراسات الاجتماعية أجمعت على أن أعباء المعيشة سبب رئيسي للعنف بين المتزوجين، إلا أن المشكلة الاقتصادية في تقديري ليست سببًا كافيًا للعنف فالجميع يتعرضون لنفس الضغوط الاقتصادية، وهذا يدل على أن خصائص الشخصية هي التي تحدد الوسيلة التي يواجه الشخص من خلالها الضغوط، فاضطرابات الشخصية سواء في الزوجة أو الزوج لها دور رئيسي وربما هي السبب الأول، إضافة إلى عدم الفهم واهتزاز صورة الزوج.
وهل عنف المرأة الرجالي اليوم هو ردة فعل لعنف الرجل؟ فصحيح أن جرائم المرأة بحق الرجل في مجتمعاتنا العربية لا تزال أقل بكثير من جرائم الرجل، وكثيرات ممن يعتمدن العنف في التعامل مع الزوج إما يرجعن ذلك لعنفه هو أو تقاعسه عن القيام بواجبه تجاه الأسرة، أو انفلاته السلوكي، ولا نستطيع هنا إغفال دور التفوق النوعي للإناث على الرجال في كثير من مناحي الدراسة والثقافة والعمل الاجتماعي، فلم تعد المرأة مخلوقًا ضعيف الجناح قابلاً للكسر كما كانت في الماضي، ولا أصبح الرجل مالئا مركزه كما كان.
إذن يبدو أن لدى المرأة في مجتمعاتنا الآن أسبابها المعرفية أيضًا لتضرب زوجها ببساطة لأنها أقل إحساسًا بالفرق بينه وبينها، سواء في تحمل المسئولية داخل نطاق الأسرة أو في خارج نطاق الأسرة، وكثيرات يخلطن في مفهوم مساواة الذكر والأنثى في الحقوق والواجبات بمده من خارج نطاق الأسرة إلى داخل الأسرة، فرغم أن الإسلام والمجتمع المدني الحديث وجه نحو مساواة المرأة بالرجل، إلا أن الأسرة استثناء ديني واضح، ورغم ذلك فإن دعوات تمكين المرأة توجه دون تمييز أو توضيح في كل الاتجاهات؛
والأصح هو أن يكونَ هناك تكوين قبل التمكين، فالعقل يقول أن تمكين غير المكونة أصلا سيكونُ كارثة، لأنك سترفع الكبت الظالم عن مظلومةٍ -بكبت إنسانيتها طوال عمرها-، لتخرجها إلى ظلمٍ أكبر يمنحها الحرية في الوقت الذي يستغلُّ فيه أنوثتها ويمتهن إنسانيتها، ولذلك كان صراخنا عن ضرورة التكوين قبل التمكين؛
ومن الناحية النفسية ثبت أن اهتزاز مكانة الزوج خاصة داخل المنزل وأن يصبح أقل شأنا أمام زوجته وأولاده، أو أن يصل إلى حالة التقوقع حول نفسه تاركا زوجته تتصرف كيف تشاء، فتشعر بضعف شخصيته، وتصبح هي صاحبة القرار في المنزل، كل ذلك يحمل عواقب وخيمة بحق على نفسية الأبناء، ورغم معرفتنا كمشتغلين بالصحة النفسية الاجتماعية بذلك إلا أن دعوات التمكين ما زالت لا تميز مع الأسف، والمفروض هو أن تفهم الزوجة كما يفهم الزوج طريقة التعامل الصحيحة وآلية فض النزاعات الأسرية وعلى الأقل أمام الأطفال، ودون أن تصل الأمور إلى المحاكم بالطبع.
اقرأ أيضاً:
الامتحان قلق وخوف والنوم نعمة!/ الحب في الجامعة بينَ الحلم والواقع/ النوم والأحلام في الطب النفسي الحديث/ أسباب الأمراض النفسية