هناك بعض الأعمال الفنية تلقي حجرا في المياه الراكدة فتحدث دوائر تتسع شيئا فشيئا لتحرك ذلك الركود سعيا لإعادة النظر فالتغيير، ومن هذه الأعمال يأتي العمل الدرامي المميز "يتربى في عزو" ليدفعنا لمراجعة الكثير من الأشياء ومنها نظامنا التربوي الخاطئ. والمسلسل يعرض لنمطين من أنماط الأمومة كلاهما ناقص وخاطئ: النمط الأول وتمثله "ماما نونا" (أم حماده عزو) وهو نمط الأم "الراعية" التي تفيض حبا وحنانا وشفقة وتعطي بلا حدود وتغفر لابنها كل أخطائه وخطاياه وتتحمل منه وفي سبيله كل شيء وأي شيء، أما النمط الثاني فتمثله "نوال" (ابنة عم حماده عزو) وهو نمط الأم "الناقدة" والتي تقوم بالتوجيه والتنظيم لكل من حولها وتحركهم بإرادتها وتنتقد أي خطأ بشكل حاسم وحازم، ونرى أبناءها الثلاثة يتحركون دائما بأوامر منها ولا يعترضون على أي شيء ولا يبادرون بشيء.
والأم الراعية أنتجت لنا "حماده عزو" وهو بلغة علم النفس يمثل "الطفل المتحرر" أي أنه متحرر من كل القيود والضوابط ويعيش بشكل نرجسي حيث يرى نفسه شيئا غاية في الأهمية ويضفي على نفسه قدرات هائلة ليست فيه (نذكر لازمته المتكررة "حماده يا جامد") فهو يرى نفسه بشكل مبالغ فيه، ويفعل ما يريد مستندا إلى رضا أمه عنه وتسامحها وتساهلها معه، ويتوقع هذا الرضا والتسامح والتساهل من بقية الناس، ولكنه يصدم حين لا يجد ذلك منهم، فيعود دائما إلى حضن الأم الدافئ جدا والجاهز للاحتواء طول الوقت.
وعلى الجانب الآخر نرى الأم الناقدة والحازمة والجافة من مشاعر الأمومة "نوال" والتي أخذت من الحياة الغربية نموذج الإستقلال والإعتماد على النفس، ولكنها طبقته بشكل خاطئ فكان الاستقلال لها وحدها حيث سيطرت تماما على أبنائها الثلاثة واعتادت أن تحركهم بالأمر فيستجيبون بشكل شبه آلي، ولا يناقشونها في رأي ولا يخالفونها في أي شيء، وفهمت هي خطأ أنها ربت رجالا منضبطين يعتمد عليهم، وهذا ليس بصحيح، فهي بلغة علم النفس أخرجت ما يسمى بالطفل المتكيف، وهو الطفل المطيع للمربي طاعة عمياء يستجيب لكل توجيهاته وأوامره.
وقد أحسن المؤلف إذ جمع النمطين من الأمومة في بيت واحد لكي تبرز عيوبهما بالمقارنة والمقابلة، ولكي تتضح فكرة أن الأمومة المتكاملة هي الراعية في أوقات والناقدة في أوقات أخرى بحسب احتياجات المواقف التربوية والنفسية. والطفل المدلل المتحرر (حماده) يتسبب في موت أمه في النهاية، بينما الأطفال المتكيفين (أبناء نوال) تحبسهم أمهم في إطار من سيطرتها وتنزع منهم رجولتهم لحساب شخصيتها المسترجلة المستقوية.
ومع هذا فقد ركز المؤلف على سلبيات تربية الأم الراعية ممثلة في شخصية حماده، تلك الشخصية الاعتمادية السلبية الأنانية النرجسية الباحثة عن اللذة والتي لا تقدر على تحمل أي مسئولية، وهي شخصية تعودت على الأخذ فقط ولم تتعود أبدا على العطاء، لذلك كان حمادة مفتقدا للشعور بالمسئولية تجاه أمه أو أبنائه أو زوجاته أو عمله، وعلى الرغم من بلوغه سن الستين إلا أنه ظل طفلا يتلقى التدليل والرعاية من ماما نونا، ويتلقى اللوم والتقريع من ابنة عمه "نوال" والتي مارست معه دور الأم الناقدة في محاولة منها لاستكمال هذا القدر المفقود من الأمومة لدى ماما نونا. وربما يشير المؤلف من خلال الأحداث إلى فشل النموذج التربوي الشرقي ممثلا في ماما نونا وابنها حماده، وإلى نجاح النموذج التربوي الغربي ممثلا في نوال وأبنائها، ولكن في الحقيقة كلا النموذجين فشلا في إخراج أبناء ناضجين مكتملين ومتكاملين.
والعلاقة المرضية بين حماده وأمه تكمن وراء فشله المتكرر في الزواج، فهو يتزوج امرأة من بيئة شعبية لتكون مختلفة عن أمه المحترمة المقدسة (حيث كل امرأة محترمة تكتسب عنده قداسة الأم فلا يستطيع أن يتعامل معها كزوجة) ولكنه ينفر منها ويبحث عن غيرها، فيتزوج بأم حسام ولكنها لا تحتمل طفولته وأنانيته فيفترقان، فيتجه إلى نموذج المرأة اللعوب المتمثل في راقصة ثم في إيناس (وهو أيضا يبتعد عن النساء المحترمات في زواجه لاقتران الاحترام بقداسة الأمومة) فيقع في فخهن ويحتلن عليه لسلب أمواله، وهنا يبتعد عن الجميع ويعود مرة أخرى لحضن أمه معلنا فشل علاقته بالمرأة عموما إلا الأم. وهكذا كل شخص يتعلق بالأم تعلقا مرضيا تفشل علاقاته ببقية النساء، وربما بالرجال أيضا.
وفي المسلسل إشارة مهمة، وهي أنه على الرغم من حنان ماما نونا وحبها الجارف، إلا أنها كانت عائقا أمام فطام "حماده" ونموه النفسي لذلك ظل مضطرب السلوك، ولم يفق من غفوته ومن أنانيته واعتماديته وسلبيته إلا بعد وفاتها حين أحس بأن الحماية والرعاية قد زالت، وأن عليه أن يقف على قدميه لكي يعيش. وكان في موقف أكل البليلة حين هام على وجهه في الشارع بعد موت أمه دلالة بالغة فقد كان يأكل كطفل لم يتعلم الأكل جيدا أو كأنه مفطوم لتوه ولم يتقن بعد فن الأكل مستقلا فقد كانت البليلة تتساقط على فمه كأي طفل حديث عهد بالطعام، ثم بعد ذلك دخل في غيبوبة سكر ليفيق بعدها على واقع جديد غابت فيه الأم وأصبح الفطام قسرا، وهنا بدأ التغيير في بعض الجوانب ولكن بقيت ذات الطفل نشطة بداخله يوقظها موقف امرأة جميلة عابرة ينظر إليها في شوق وتمني، ويردد عبارته النرجسية المعتادة "حماده ياجامد" في حين أنه ما زال –بسبب نمط تربيته- في غاية الهشاشة.
وعائلة عزو تمثل نموذجا لعائلة عريقة مال بها الزمان، ولهذا ظهرت علامات عدم التوازن على كثير من أفرادها في صورة اضطرابات في الشخصية وميل للمظهرية وال "فشخره"، فهذا علاء يبدو في مظهر ابن العز، ولكنه يقوم بعمليات نصب واحتيال لكي يحافظ على صورته أمام نفسه وأمام الناس قدر الإمكان، وفي النهاية يجد أنه غير قادر على الحياة في هذا المجتمع فيغادره إلى فرنسا ويظل يكذب (بخصوص زوجته وجمالها) لكي يحافظ على صورته (بريستيجه)، وهذا حماده يتحدث عن نفسه بفخر واعتزاز في كل مكان مرددا اسمه واسم عائلته بمناسبة وبدون مناسبة ليوحي لسامعه بالعظمة والأبهة على الرغم من فشله المزمن في كل شيء، وهذا حسام (ضابط أمن الدولة) يحاول الاحتفاظ بمكانته من خلال تميزه في عمله بعيدا عن اسم عائلته، ولكن مشكلات العائلة تطارده وتكسر أنفه بدلا من أن ترفع رأسه، فيعيش مغتربا عن كل من حوله وحيدا، ومطاردا بأخطاء أبيه وأخيه وبقية أفراد عائلته، وهو لا يستطيع أن يتعايش مع أحد منهم فيعيش منعزلا حزينا غاضبا طول الوقت، ويفشل في الزواج ممن يحبها بسبب أخطاء أفراد العائلة على الرغم من الاسم الكبير لهذه العائلة وعلى الرغم من تفوقه في عمله واعتراف رؤسائه بذلك. وفي لحظة ضعف واندفاع يقوم باستغلال نفوذه للانتقام من زوج أخته الذي تجرأ على مصاهرة عائلة عزو على الرغم من أنه فنان بوهيمي وله سوابق في التزوير، وبهذا يوقف حسام عن العمل عدة شهور فيزداد حزنا وغضبا ونقمة.
ومن الملحوظ غياب الآباء عن الموضوع التربوي وانفراد النساء بذلك فحماده تربيه أمه وإبراهيم تربيه أمه وحسام تربيه أمه وأبناء نوال تربيهم أمهم، وهذا مواكب للواقع الحالي الذي نجده في غالبية الأسر المصرية حيث تتولى الأمهات مسئولية التربية إما لسفر الأب أو لانهماكه الشديد في البحث عن لقمة العيش أو لسلبيته وانسحابه، والنتيجة هي جيل من الأبناء بلا رمز ذكوري أبوي يتعينون به ويكتسبون صفاته، جيل يعتمد على المرأة لرعايته وتوجيهه وتحريكه، جيل تمتد طفولته بلا نهاية، جيل يقدس الأم الراعية ويصنع لها تمثالا بعد موتها.
وعلى الرغم من أن ماما نونه تبدو طيبة وحنونه ومعطاءه ومنكرة لذاتها في الظاهر، إلا أنها في الحقيقة تعمل بوعي أو بدون وعي على بقاء ابنها حماده طفلا معتمدا عليها حتى تضمن استمراره في حضنها، أي أنها تعوق نموه ونضجه واستقلاله حتى لا يتركها وحيدة، فهي في واقع الأمر تدافع عن احتياجها الأساسي وهو بقاء ابنها في حضنها ليؤنس وحدتها خاصة وأنها بلا زوج وبلا أبناء آخرين، وهكذا أي أم تبالغ في العطاء والرعاية والحنان بالشكل الذي يوقف نمو أبنائها ويجعلهم مرتمين في حضنها طول الوقت.
وهذه أزمة جيل كامل في الوقت الحالي حيث تتورط الأم إما في رعاية زائدة (كما فعلت ماما نونا) أو في سيطرة زائدة (كما فعلت نوال)، والنتيجة طفل متحرر من المسئولية والضوابط في الحالة الأولى وطفل متكيف أكثر من اللازم في الحالة الثانية، والمحصلة النهائية هي أن الأنماط التربوية الأمومية الحالية المنزوعة الأبوة تنتج جيلا من الأطفال الدائمين.
وعلى الرغم من العطاء الوجداني الغامر لماما نونا، والذي كان الجميع ينعمون به، وعلى الرغم من أنها كانت عامل ربط وتجميع لأفراد الأسرة على اختلاف توجهاتهم، وعلى الرغم من طيبتها الظاهرة، إلا أنها كانت من ناحية أخرى تعطل تفاعلات أسرية وعائلية لازمة للنمو والتغيير، ولهذا نلحظ أنه مع الحزن الذي انتاب الجميع بعد وفاتها إلا أنه قد حدثت حركة تغيير ونمو في كل شخص، وكأن ماما نونا كانت صالحة في مرحلة معينة ثم أدت وظيفتها –كأي إنسان أو إنسانة- ثم انسحبت من حياتهم ليتحمل كل واحد منهم مسئولية نفسه، وهذا ما نسميه الفطام النفسي، وليس بالضرورة أن ننتظر حتى تموت كل أم أو كل أب حتى يحدث ذلك الفطام، بل يجب أن يحدث حتى في وجودهم، حتى لا يظل الأبناء أطفالا وقد بلغوا سن الستين.
اقرأ أيضاً:
أ. ب أمومة دربي ابنك على عدم الأنانية/ أ. ب أمومة......أشبعيهم نفسياً/ تربية بلا مشاكل، هل هي حقاً معادلة صعبة؟/ كيف نربي طفلاً منظمًا؟ (1)/ كيف نربي طفلاً منظمًا؟ (2)/ عالم عيال كبار -1- أحمد الأحمر/ الصحة النفسية للطفل (1)