الطوائف المسيحية في بلاد الشام مقدمة
الفصل الأول
سكن بلاد الشام كثير من الأجناس، لذلك عند مجيء الحملات الصليبية كانت هذه البلاد تضم تركيبة سكانية متعددة العناصر، فكانت توجد العناصر العربية والسريانية والبيزنطية والأرمينية والكردية والتركية(1).
وكان السبب في هذه التركيبة السكانية المتعددة الأجناس والأعراق يرجع إلى أمرين رئيسيين أولهما يتمثل في الموقع المتوسط لبلاد الشام وامتدادها الشاسع، وثانيهما يتجسد في الثراء التاريخي نتيجة تعدد الحضارات التي نمت وازدهرت في ربوع الشام(2).
لقد تعرضت بلاد الشام –منذ عصور موغلة في القدم– لهجرات سامية متعددة كان معظمها قادماً من شبه جزيرة العرب، كالهجرات الآرامية والعربية والكنعانية والكلدانية والعبرانية وغيرها.
وكان العنصر العربي هو الغالبُ في التركيبة السكانية لبلاد الشام. ومن المعروف أن بلاد الشام كانت موطناً لبعض القبائل العربية منذ عصور موغلة في القدم، وقد تم الانتشار العربي في هذا الإقليم على فترات متفاوتة حيث اقتصر الأمر في البداية على هجرة بعض القبائل العربية لبلاد الشام وإقليم الجزيرة بحثاً عن الأراضي الخصبة وعن الماء في أوقات الجفاف التي كانت تصيب شبه جزيرة العرب، كما كانت بعض هذه القبائل تهدف للإغارة على القوافل التجارية المارة ببلاد الشام وإقليم الجزيرة. ولكن بعد فترة من الوقت بدأت هذه القبائل تفضل الاستقرار على حدود بلاد الشام وإقليم الجزيرة. وابتداء من القرن الثامن قبل الميلاد وُجِدت قبائل عربية مستقرة في هذه المناطق ولكن مواطن استقرارهم كانت غير محددة وكذلك أسماؤهم(3).
ويمكن القول إن المنطقة الواقعة إلى الشرق من نهر الأردن قد عرفت السيادة العربية منذ تاريخ بعيد وأن الأنباط وهم ذوو أصول عربية وتدل أسماؤهم على ذلك(4) قد ظهروا في منطقة البتراء شرقي الأردن في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد (312 ق.م)، واتخذوا من المنطقة الجنوبية من فلسطين مستقراً لهم وقد ورثوا حضارات عربية كانت قبلهم(5).
وقد امتد نفوذ الأنباط ليشمل المنطقة من حوران شمالاً حتى النقب جنوباً، وبلغت مملكة النبط أوج عظمتها واتساعها فيما بين القرنين الأول قبل الميلاد والأول بعد الميلاد، وقد اتخذوا من البتراء عاصمة لهم، وعلى الرغم من أن ملك الأنباط كان يملك على دمشق فترة من الزمن إلا أنه لم يتخذها عاصمة له لبعدها عن محور المملكة. ولما خشي الرومان أن يبسط النبط نفوذهم على إقليم الشام كله(6) ثم يتوسعون ويبسطون سلطانهم على المشرق كله، أرسل إمبراطور روما جيشاً لمحاربتهم وانتهى الأمر بتدمير مملكة النبط عام 106م(7).
وإذا كان الأنباط قد سيطروا على الأجزاء الشرقية وبعض الأجزاء الوسطي من الديار الشامية، فإن عرباً آخرين سيطروا على الأقسام الوسطي والغربية –باستثناء فلسطين– في الوقت نفسه على وجه التقريب، أولئك هم اليطوريون الذين أخذوا يظهرون على مسرح الأحداث حوالي عام 115 ق.م، وإن كانوا قد وُجِدوا في بلاد الشام قبل ذلك بكثير. وكانت قوتهم تتركز في وادي البقاع وجبال لبنان الشرقية والغربية، ولما ضعفت المملكة السلوقية اقتطعوا لأنفسهم أملاكاً منها فامتدت إمارتهم جنوباً حتى بلغت بحيرة طبرية كما سيطروا على المنطقة الجبلية إلى الشمال من البحيرة وإلى الشرق من نهر الأردن الأعلى، كما مدوا أنظارهم غرباً نحو المدن الفينيقية فاستولوا على بعض ممتلكات الفينيقيين وبنوا لهم قلاعاً على الساحل وأنهكوا بهجماتهم المتكررة جبيل وبيروت واستولوا على عرقة. وكاد امتدادهم في الجهة الشرقية يصل إلى دمشق لولا أن أهلها استنجدوا بملك الأنباط حارثة الثالث وجعلوا أنفسهم تحت حمايته، وقد استمر نفوذ اليطوريين وتوسعاتهم في ازدياد حتى الفتح الروماني لبلاد الشام الذي وضع حداً لتوسعهم ونموهم فتقلصت ممالكهم حتى ذابت أخيراً في الكيان الكلي للولاية الرومانية(8).
ومما تجدر الإشارة إليه أن قيام دولة مثل الدولة النبطية أو دولة اليطوريين كان عاملاً لتنظيم القبائل المهاجرة ولمواضع استيطانها لأن مثل تلك الدول –بحكم التماثل العرقي– كانت قادرة على استيعاب أية هجرات جديدة وتكييفها نحو الحياة المستقرة وإقامة معاهدات حسن جوار معها. وكانت التحصينات التي أنشأها الأنباط على حدودهم الشرقية كفيلة بإشعار قبائل البدو القادمة بأن هناك قوة تستطيع التصدي لها وأنها لا تستطيع أن تحرز غنائمها بسهولة؛
ولذلك كان أي ضعف في الدولة النظامية يسمح بتدفق عدد كبير من المهاجرين الجدد مثلما حدث عند ضعف دولة الأنباط ودولة اليطوريين. وقد سيطرت القبائل العربية الوافدة إلى بلاد الشام على المدن التي كان يسيطر عليها الأنباط واليطوريون مكونين دولة عربية جديدة عرفت بدولة الصفويين(9) كان من قبائلها زيد وعمرة وآل تيم ونمرة وآل آدم ونسمان وغيرها(10).
وإلى جانب الممالك العربية التي قامت في بلاد الشام في هذه الفترة، انتشر أمراء عرب في مناطق حمص وقنسرين وأسسوا ممالك صغيرة لأنفسهم. كما كانت تدمر تنمو بقوة وتتحكم في زمام تجارة القوافل وكان يسيطر على مقدراتها في الغالب تجار وحكام من العرب بمشاركة عناصر سامية أخرى. وإذا انتقلنا لأهم مدن إقليم الجزيرة آنذاك والتي تتمثل في الرها(11) والحيرة والأنبار ورأس عين ونصيبين وديار بكر وغيرهم، نجد أن هذه المناطق كانت موطناً لكثير من القبائل العربية بل إن مدينة الرها قامت بها دولة عربية استمرت حتى منتصف القرن الثاني بعد الميلاد، وتدل أسماء ملوكها على أنهم من العرب مثل معن ووائل وأبجر(12).
وفي القرون الثلاثة الأولى للميلاد تدفق على بلاد الشام وإقليم الجزيرة عدد من القبائل العربية مثل قضاعة وتنوخ وسليخ وغسان واستطاعت قضاعة الدخول في تحالف مع الرومان وبعد أن اعتنقت النصرانية مَلّكها الروم على العرب الموجودين بالشام ولم يقتصر انتشار قبائل قضاعة على الشام فحسب بل انتشرت في أماكن متعددة من إقليم الجزيرة، ثم تغلبت عليها تنوخ وانتشرت قبائل تنوخ في الحيرة والأنبار. ولكن بعدما استولى الملك الفارسي أردشير على العراق عام 226م كرهت تنوخ المقام هناك فهاجرت أعداد كبيرة منها إلى الشام وانتشرت في أماكن متعددة من بلاد الشام كان منها المعرة(13).
كما بدأت تظهر على مسرح الأحداث السياسية قبائل عربية أخرى تسعى لأن يكون لها الزعامة على عرب الشام والجزيرة وذلك من خلال سعيها للتحالف مع الدولة البيزنطية التي تمكنها من ذلك، ومن هذه القبائل بني سليح(14) الذين انتزعوا السيادة من تنوخ، وقد سيطرت قبيلة سليح على المنطقة الممتدة إلى الشرق من بُصري بينما كان لا يزال فروع من قبائل تنوخ تسيطر على المنطقة الواقعة بين الفرات وخط من المدن يضم قنسرين وحمص وحماه، كما كان يوجد بأرض معرة النعمان وأرض قنسرين وما إلى تلك الأرض جبل متصل إلى أرض حمص غلبت عليه تنوخ(15).
كذلك نجد قبائل أخرى تسعى للتحالف مع البيزنطيين ليمنحوهم حق الزعامة على العرب في الشام وإقليم الجزيرة، فنجد قبائل كندة بزعامة أميرها امرؤ القيس الذي جاء من الحيرة يرغب في محالفة بيزنطة لتمكنه من السيادة على العرب بالشام، وقد حققت هذه القبائل ما كانت ترنو إليه، ولكن سرعان مازال سلطانها أمام قوة عربية جديدة وهم الغساسنة(16) الذين قضوا على باقي الضجاعمة وعلى كندة ليستأثروا بالزعامة على العرب في عهد الإمبراطور البيزنطي أنسطاسيوس (491– 518 م)، وتحديداً عام 502 م(17).
كانت قبائل الغساسنة متعددة فنزلت فروع منهم في الحيرة والأنبار واتجه آخرون صوب الشام وانتشروا في أجزاء واسعة منه كالبلقاء واليرموك والجولان ودمشق وأعمالها ومنهم من نزل بالأردن، كما كانت الجابية والبثينية من مراكزهم المهمة. وقد شمل حكم الغساسنة في بعض الأحيان كل المنطقة الواقعة بين جبل الشيخ وخليج العقبة(18).
وقد حرص البيزنطيون على التحالف مع الغساسنة لما وجدوه فيهم من شجاعة وقوة لا يستهان بها. وأصبح الغساسنة حلفاء البيزنطيين ليضربوا بهم الفرس وحلفاءهم من العرب المناذرة (اللخميين) الذي كان ملكهم في الحيرة وكانوا أعداءً للدولة البيزنطية شأنهم في ذلك شأن حلفائهم الفرس(19). وكثيراً ما نشبت الحروب بين عرب الغساسنة والمناذرة حتى في أوقات الهدنة بين الفرس والروم(20)، وجاء اعتناق كل فريق منهم لمذهب من مذاهب المسيحية ليزيد من العداء بينهم، فقد كان المناذرة في الحيرة من أشد أنصار النساطرة على عكس الغساسنة الذين كانوا من أقوى المدافعين عن أصحاب الطبيعة الواحدة أو ما عرفوا باسم المونوفيزيتيين كما سيأتي ذكره.
وفي حقيقة الأمر لم يتوقف تدفق القبائل العربية صوب بلاد الشام وفلسطين، فقد تدفق مع الفتح الإسلامي لبلاد الشام أعداد كبيرة من القبائل العربية والتي استقرت في مناطق متعددة من بلاد الشام.
وعند قدوم الحملات الصليبية كان العنصر العربي هو الغالب في التركيب السكاني لبلاد الشام، كما وُجِدت في بلاد الشام قبل قدوم تلك الحملات مدن تحت إدارة حكام عرب(21). على أن العنصر العربي لم يكن قاصراً على سكان الإمارات فحسب، بل وُجِدت قبائل عربية على حافة الأراضي الزراعية، وفي الصحراء عاشت جماعات البدو الرحل. فقد كان بنو طئ يملأون المنطقة الممتدة من مصر إلى المنطقة الجنوبية من بلاد الشام، وفي شمال بلاد الشام وجدت بطون من قبائل كلاب وعقيل وغيرهم من القبائل التي تنقلت بين الشام والعراق.
وكانت هناك بطون بني طئ من قضاعة تسكن المنطقة شبه الصحراوية بين غزة ونابلس. وعلى الساحل إلى الجنوب من غزة كان البدو من بني عون وبني فهيد يتجولون في المناطق الصحراوية القريبة من البحر. أما بنو عايد وبنو فهيد وبنو أبي فقد عاشوا في منطقة الجفر. أما منطقة جنوب شرق الأردن فكانت مفضلة لدى البدو الذين كانوا يجدون بها سوقاً مزدهرة لقطعانهم في السوق السنوي بسهل الميدان في حوران بالقرب من المزريب(22) كما أنه لم يتوقف تنقل البدو من منطقة إلى أخرى في بلاد الشام أو من مناطق مجاورة لبلاد الشام خلال فترة الحروب الصليبية(23).
ومما سبق يتضح أمران أولهما أن بلاد الشام اصطبغت بالصبغة العربية منذ فترة مبكرة من تاريخها ولكنها في نفس الوقت أتاحت للعرب النازحين إليها الاندماج والاختلاط بأصحاب الحضارات الراقية الموجودين على أرضها؛ فتأثر العرب بالحضارات الآرامية والهيللينية والرومانية، كما تأثروا بالحضارات التي نشأت في بلاد ما بين النهرين.
وقد ساعدت تلك الحضارات العرب على الأخذ بأسباب المدنية ومن ثم يمكن القول أنه إذا كانت العناصر العربية قد عربت بلاد الشام إثنياً. فإن هذه البلاد قد حولت تلك العناصر بعد استيطانها حضارياً وأخضعتها لقانون التجانس العام لأن طبيعة الاستقرار والانتقال إلى الحياة الزراعية كانت تضع لها مصالح جديدة وترسم لها علاقات جديدة أيضاً.
ولكن يجب ملاحظة أن القبائل العربية التي استوطنت مدن الشام وأقامت لنفسها إمارات فيها لم تتخل عن عصبيتها القبلية على الرغم من استيطانها وممارستها لحياة الحضر. لقد ظلت القبيلة / المدينة هي الوحدة الأساسية في التركيب السكاني لكثير من بلاد الشام، وهو ما ترك أثراً واضحاً على العلاقات السياسية والنشاط الاجتماعي والاقتصادي في تلك الأنحاء، كما أن استيطان هذه القبائل لبعض مدن بلاد الشام لم يتحول إلى مواطنة، أي أن مفهوم الوطن المرتبط بالأرض كان غائباً عن وعي أبناء القبائل العربية، بل ظل الوطن مفهوماً معنوياً يرتبط بالقبيلة وعلاقات الدم والنسب أكثر منه بالأرض التي تسكنها، ولا شك أن ذلك كان أحد أسباب التفكك السياسي الذي أصاب بلاد الشام قبل الحروب الصليبية وأثناء مراحلها الأولى(24).
ثانيهما: أنه بعد ظهور المسيحية اعتنقها عدد كبير من العرب فانتشرت بين قبائل إياد وربيعة وبكر وتغلب والنمر وتنوخ وغسان، وبعد انقسام المسيحية إلى مذاهب متعددة كالنسطورية واليعقوبية وغيرها. كان من العرب من اعتنق النسطورية كالمناذرة في الحيرة، ومنهم من اعتنق المونوفيزيتية كالغساسنة في بلاد الشام، ولما تعرضت هذه القبائل للاضطهاد من قبل البيزنطيين الذين يخالفونهم في المذهب. كانت هذه القبائل قد بلغت من القوة ما يجعلها تقف أمام الإمبراطورية البيزنطية، بل كانت الضربة الأقوى التي وجهتها القبائل العربية للبيزنطيين هي وقوفهم إلى جانب بني عمومتهم من العرب المسلمين الذين جاءوا فاتحين لبلاد الشام.
وفي الواقع لم تقتصر الهجرات السامية التي قدمت إلى بلاد الشام على القبائل العربية فحسب، وإنما اشتملت على هجرات آرامية أيضاً والتي تعد ثالث هجرة بعد الكنعانية والعمورية، ويبدو أن الهجرات الآرامية لم تكن تتألف من شعب واحد متجانس بل كانت أقرب إلى كونها مجموعة كبيرة من الأحلاف القبلية وحدت بينها ظروف ورغبة متشابهة وأهداف واحدة غايتها الهجرة والاستقرار في أماكن أفضل والتخلص من حياة البادية الخشنة(25).
وقد استطاع الآراميون أن يبسطوا سلطانهم على معظم أراضي الشام والجزيرة، وكونوا دويلات عدة آرامية صغيرة بين حلب وجبال طوروس وأصبحوا الكثرة الغالبة في البلاد التي دخلوها، واستطاعوا بفضل اتصالهم بالحضارات المحلية الراقية كحضارة العموريين والفينيقيين والحيثيين أن يؤسسوا إمارات آرامية كان لها شأن كبير في تاريخ بلاد الشام والعراق، وكانت أهم الإمارات الآرامية في بلاد الشام هي إمارة دمشق، وفي الجزيرة كانت إمارة حران أهم إمارة آرامية بل وأزهى مراكز الثقافة الآرامية(26).
وقد نمت إمارة دمشق الآرامية واشتدت شوكتها وكان قيام هذه الإمارة معاصراً لقيام مملكة العبرانيين في فلسطين. ولكن سرعان ما اشتدت قوة الآراميين واكتمل نمو دولتهم التي بدأت تبسط رقعتها على حساب الإمارات المجاورة حتى امتدت حدودها من الفرات شرقاً إلى وادي اليرموك جنوباً، بل ووقفت من العبرانيين والآشوريين موقف الند للند وبدأت تغير على أملاكها، وما أن جاءت سنة 1000 قبل الميلاد إلا وقد بسطت سيادتها على إقليم سوريا الداخلية الواقع خلف جبال لبنان كما بسطت سيادتها على منطقة سوريا الشمالية، ولكنها ظلت طيلة قرنين من الزمان تناضل العبرانيين حتى تمكنوا في النهاية بمساعدة الآشوريين من القضاء على ملك الآراميين عام 732 ق.م(27).
وفيما يتعلق بالكلدانيين الذين استولوا على سوريا عام 612 ق.م وهم فرع من الآراميين تغلغل إلى وادي الفرات الأسفل وكوّن إمارة عرفت باسم كلدو منذ حوالي القرن الرابع عشر ق.م. ولقد تحققت أعظم انتصاراتهم في عهد نبوخذ نصر (604 ق.م) حيث احتل أورشليم عام 586 ق.م وأخذ خير ما فيها ونقله إلى بابل. ولقد كان الكلدانيون بحكم الظروف ورثة لتقاليد آشور ومعارفها مما دفع الحياة العلمية إلى الازدهار في عهدهم(28).
ويجب الإشارة إلى أن الكلدان المسيحيين كان لهم أسماء كثيرة عرفوا بها في كتب التاريخ؛ فأطلق عليهم آراميون نسبة إلى آرام بن سام الذي استوطن هذه الأرض وعمرها بنسله، وأطلق عليهم فرساً لأنهم وجدوا في مملكة فارس، كما أطلق عليهم مشارقة لأنهم في المشرق، ونساطرة لإتباعهم مذهب نسطور (كما سيأتي ذكره) وسرياناً شرقيين تمييزاً لهم عن السريان الغربيين (اليعاقبة)، ولكن اسمهم الأصلي هو الكلدان الآشوريون(29).
وبالرغم من زوال نفوذ الآراميين السياسي، فإنهم تركوا أثراً استمر قائماً لفترات طويلة وهو لغتهم الآرامية التي انتشرت انتشاراً واسعاً ليس في الأوطان السامية فحسب، بل تخطت هذه الأوطان إلى بلاط إيران لتصبح لغة البلاط الفارسي(30).
وقد انقسمت اللهجات الآرامية بمضي الزمن إلى شرقية وغربية(31) وكان أهم اللهجات الشرقية تلك التي انتشرت في إقليم الجزيرة وتحديداً في الرها والتي عرفت فيما بعد بالسريانية؛ وذلك بعد ظهور المسيحية وأصبحت لغة الكنيسة في بلاد الشام وإقليم الجزيرة. أما اللهجات الغربية فكان منها اللهجة الآرامية المسيحية التي سادت في فلسطين(32) وكان منها اللهجة النبطية التي خرجت منها اللغة العربية بعد ذلك. وقد ظلت السريانية مزدهرة حتى فتح المسلمون بلاد الشام وفلسطين، ومنذ ذلك الحين أخذت السريانية تضمحل وتحل محلها اللغة العربية(33).
المراجع:
(1) قاسم عبده قاسم، "بعض مظاهر الحياة الاجتماعية في بلاد الشام عصر الحروب الصليبية ، عالم
الفكر ، 1994 م ، ص 364 .
(2) نفسه .
(3) حسن أحمد محمود، " الساميون القدماء " ، ضمن كتاب حضارة مصر والشرق القديم ، القاهرة ،د . ت، ص 377 ؛ إحسان عباس ، تاريخ بلاد الشام من ما قبل الإسلام حتى بداية العصر الأموي ، عمان ، 1990 ، ص 58 .
(4) كان ملوك الأنباط من بنى الحارث وتدل أكثر أسماء الأعلام الواردة في نقوشهم على أنهم من أصول عربية ومن هذه الأسماء حارثة ومالك ومليكة وجذيمة ووائل وقصي وعدى وكعب ومعن وغيرها ، للمزيد انظر : مراد كامل وزاكية رشدي، تاريخ الأدب السرياني من نشأته إلى العصر الحاضر، القاهرة 1974 ، جـ1، ص 17؛ إحسان عباس ، المرجع السابق، ص 76 .
(5) كان يوجد عرب يطلق عليهم الأدوميين في بلاد الشام وذلك قبل ظهور الأنباط بكثير حيث يرجع تاريخ وجودهم في الشام إلى القرن السادس قبل الميلاد . انظر : إحسان عباس ، المرجع السابق ، ص 58 .
(6) امتد نفوذ الأنباط على أماكن متعددة من بلاد الشام كالبتراء وبصري ( حوران ) وشرق الأردن ودمشق وصيدا وجنوب فلسطين وبعض جهات من جبل الدروز فضلاً عن أن موقع بلادهم جعلهم يتحكمون في الطرق التجارية بين جنوبي الجزيرة وسواحل الشام . انظر : مراد كامل وزاكية رشدي ، المرجع السابق، جـ1 ، ص 18 – ص 19 ؛ إحسان عباس ، المرجع السابق، ص 77 .
(7) مراد كامل وزاكية رشدي ، المرجع السابق ، ص 17– ص 18 ، وعن العلاقات بين الأنباط والرومان، انظر: إحسان عباس، المرجع السابق ، ص 76 – ص 82 .
(8) إحسان عباس ، المرجع السابق ، ص 92 – ص 93 .
(9) اسم الصفويين لا يرجع إلى اسم عرقي بل نسبة إلى منطقة الصفاة التي تقع شرق حوران، انظر : إحسان عباس ، المرجع السابق ، ص 87 .
(10) المرجع السابق ، ص 60 ، ص 86 – ص 90 .
(11) تقع الرها شرقي نهر الفرات داخل الحدود التركية على بعد عشرين ميلاً من حوران، وقد أطلق عليها قديماً العديد من الأسماء حيث عرفت عند الإغريق باسم إيدسا ( Edessa ) ، وعرفت عند اللاتين باسم رواس ( Roase ) ، وكان يطلق عليها أيضاً اسم كاليرهو ( Callirohe ) ، ولكنها عرفت عند= =السريان باسم " أورخاى " أو " أورهاى " وأخذ العرب عنهم هذه التسمية وأطلقوا عليها اسم " الرُها" ويرجع الفضل للرها في انتشار المسيحية في مناطق كثيرة منها بلاد الأرمن ، وقد افتتحها العرب المسلمون عام 628 م- 17 هـ ، ولكن الإمبراطورية البيزنطية استعادتها ثانية عام 944 م ، وبمجيء الصليبيين أصبحت الرها أولى الإمارات الصليبية في بلاد الشام عام 1097 م – 491 هـ ، وكانت أيضاً أول إمارة صليبية تسقط في أيدي المسلمين بقيادة عماد الدين زنكي عام 1144 م- 539 هـ . وهى الآن تعرف بمدينة أورفا ( Urfa ) في تركيا . انظر : بوركارد ، وصف الأرض المقدسة ، ترجمة سعيد البيشاوى ، عمان ، ط 1 ، 1995 ، ص 33 ، هامش ( 2 ) ؛ جاك دي فيترى ، تاريخ بيت المقدس، ترجمة سعيد البيشاوى ، عمان ، ط 1،1998 م ، ص 36 ؛ مراد كامل وزاكية رشدي ، المرجع السابق، جـ1 ، ص 22،ص 33 ؛ علية عبد السميع الجنزورى ، إمارة الرها الصليبية ، القاهرة ، ط 2001 ، ص 29 – ص 35. انـظـر أيـضـاً :
The Oxford Dictionary of Byzantium, Oxford 1991 , Vol . I , pp. 676 –677.
(12) مراد كامل وزاكية رشدي،المرجع السابق،جـ1،ص 22،ص 33؛إحسان عباس ، المرجع السابق،ص59.
(13) اليعقوبى ، تاريخ اليعقوبى ، بيروت ، د . ت ، المجلد الأول ، ص 206 ؛ المسعودي ، مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، بيروت، 1987، جـ2،ص 95، ص 98- ص99، ص 106؛ الطبري ، تاريخ الرسل والملوك ، بيروت ، ط 1، 1998، جـ2 ، ص 30 ، ص 32 ؛ القلقشندى ، صبح الأعشى ، القاهرة ، د.ت ، جـ1 ، ص 310 ، ص 316 ، ص 318 ؛ إحسان عباس، المرجع السابق ، ص 60 ، ص 93 – ص 95 ، ص 97 ، ص 100 ، ص 121 – ص 123.
(14) يذكر القلقشندى أن البعض كان يطلق على تنوخ اسم الضجاعمة ، كما أطلق هذا الاسم أيضاً على بنى سليح،ومن ثم ربما تكون بنى سليح إحدى فروع تنوخ ، خاصة وأن اسم تنوخ كان يطلق على عشر قبائل اجتمعوا وأقاموا بالبحرين فسموا بتنوخ أخذاً من التتنخ وهو المقام ، انظر: صبح الأعشى ، جـ1 ، ص 310 ، ص 318 ، بينما ينسب الطبري تنوخ لقبائل قضاعة ، انظر: تاريخ الرسل والملوك ، جـ2، ص 34 ، ص 36 .
(15) اليعقوبى ، المصدر السابق ، ص 206 – ص 207 ؛ المسعودي ، المصدر السابق ، جـ2 ، ص 106 ؛ إحسان عباس ، المرجع السابق ، ص 70 .
(16) الغساسنة قبيلة من قبائل الأزد التي تعود جذورها إلى القحطانيين . ويقال إنهم سموا بغسان لأنهم نزلوا بماء يحمل نفس الاسم في اليمن.عن ذلك انظر : البلاذرى ، فتوح البلدان ، تحقيق عبد الله أنيس وآخرون، بيروت ، 1987، ص 25؛ القلقشندى ، المصدر السابق ، جـ1 ، ص 310 ، ص 311 .
(17) اليعقوبى ، المصدر السابق، ص 206 – ص 207 ؛ المسعودي ، مروج الذهب ، جـ2 ، ص 98 – ص 99 ، ص 107 ؛ ابن حزم الأندلسى ، جمهرة أنساب العرب ، تحقيق عبد السلام هارون، دار المعارف، د.ت، ص 488؛ القلقشندى، المصدر السابق، جـ1، ص 319، ص 328؛ إحسان عباس، المرجع السابق، ص124–ص125 .
(18) البلاذرى ، المصدر السابق ، ص 25 – ص 26 ؛ المسعودي ، المصدر السابق ، جـ2 ، ص 319 ؛ ابن حزم الأندلسى ، المصدر السابق ، ص488 ؛ القلقشندى ، المصدر السابق ، جـ1 ، ص 319 ؛ إحسان عباس ، المرجع السابق ، ص 126 – ص 128 .
(19) عن التحالفات التي قامت بين الغساسنة والروم البيزنطيين في القرنين الثالث والرابع الميلادي . انظر : يوحنا الآسيوي ، تاريخ الكنيسة ، ترجمة صلاح محجوب وآخرون ، القاهرة ، 2000 ، ص 62 – ص 65 ، ص 106 ، وعن فترات العداء بين الطرفين انظر : المصدر نفسه ، ص 68 – ص 69 ، ص 91، ص 92 ، ص 93 ، وعن الصراع بين المناذرة والغساسنة انظر : نفسه ، ص 107 .
(20) إحسان عباس ، المرجع السابق ، ص 124 – ص 125 ، ص 133 .
(21) تمكنت بعض الأسرات العربية من إقامة إمارات شبه مستقلة لها في بعض المدن الكبيرة ، وقد جاء ذلك نتيجة للتطور الاجتماعي الذي حدث في القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي والذي تمثل في نزوح بعض القبائل العربية الساكنة في مناطق الحدود بين بلاد الشام والعراق وشبه جزيرة العرب إلى داخل بلاد الشام ومن تلك الإمارات إمارة بنى مرداس التي أقيمت في حلب بزعامة صالح بن مرداس أمير بنى كلاب عام 414 هـ ، كما وجدت مدن أخرى في بلاد الشام قبل قدوم الحملات الصليبية تحت إدارة حكام عرب مثل إمارة شيزر على نهر العاصي قرب حماة والتي كانت تحت حكم " بنى منقذ " السنة ، كذلك وجدت إمارة طرابلس تحت حكم " بنى عمار " الشيعة . للمزيد عن تلك الإمارات ودورها في المنطقة ، انظر : محمود الحويري ، الأوضاع الحضارية في بلاد الشام في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلادي ، دار المعارف ، 1979،ص 15 – ص 20 ، قاسم عبده قاسم ، "بعض مظاهر الحياة الاجتماعية" ، ص 364 – ص 365 .
(22) القلقشندى ، المصدر السابق ، جـ1 ، ص 316 ، ص 320 ؛ قاسم عبده قاسم ، " بعض مظاهر الحياة الاجتماعية " ، ص 365 ؛ انـظـر أيـضــاً :
Prawer ( J ) , " Social Classes in the Crusader States : " The Minorities" " , in Setton , Wisconsin , 1983 , Vol. v , pp. 64 – 65.
(23) خلال الفترة الصليبية سكن بنو ربيعة في المنطقة بين البتراء وعجلون ثم انتقلوا إلى حوران، وبالقرب من قلعة الكرك (الشوبك) الصليبية كان البدو من بنى عقبة وبنى زهير يتجولون بقطعانهم في المنطقة ، وبالقرب من عجلون كان بنو عوف الذين أعطوا اسمهم للهضبة الكبيرة في تلك الأنحاء ، وفى هذه المنطقة اتصلوا ببنى ربيعة من بطون طئ وخلفوا بنى الجراح حكام فلسطين السابقين في القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين ، الذين تمركز حكمهم في وسط فلسطين وكانت عاصمتهم الرملة ووصلوا في ترحالهم حتى حوران. كما وجدت قبائل أخرى هناك قرب منابع نهر الأردن في مرجعيون ووادي طعيمة حيث المراعى الممتازة . انظر : قاسم عبده قاسم، المرجع السابق، ص 365–ص366. انظر أيضاً: Prawer, "Social Classes", p. 65 .
(24) قاسم عبده قاسم ، " بعض مظاهر الحياة الاجتماعية في بلاد الشام " ، ص 365 .
(25) حسن أحمد محمود ، " الساميون القدماء " ، ص 378 – ص 379 ؛ مراد كامل وزاكية رشدي ، المرجع السابق ، جـ1 ، ص 11 – ص 12 .
(26) بطرس البستاني ، دائرة المعارف ، بيروت ، 1877 ، المجلد الثاني ، ص 761 ؛ حسن أحمد محمود ، المرجع السابق ، ص 381 ؛ مراد كامل وزاكية رشدي ، المرجع السابق ، ص 12 – ص 14 ؛ الشحات السيد زغلول ، السريان والحضارة الإسلامية ، القاهرة ، 1975 ، ص 24.انظر أيضاً :
Encyclopedia of Religions and Ethics , New York , 1929, Vol .XI,p.164,p. 165.
(27) حسن أحمد محمود ، المرجع السابق ، ص 381 – ص 382 ؛ مراد كامل وزاكية رشدي ، المرجع السابق ، ص 13 .
(28) الشحات زغلول ، السريان والحضارة الإسلامية ، ص 18 ، ص 19 .
(29) الشحات زغلول ، المرجع السابق ، ص 34 .
(30) حسن أحمد محمود ، المرجع السابق ، ص 383 – ص 384 ؛ مراد كامل وزاكية رشدي ، المرجع السابق ، ص 12 ، ص 13؛ الشحات زغلول ، المرجع السابق ، ص 26 . انظر أيضاً :
Encyclopedia of Religions and Ethics , Vol .XI,p.167,p. 168.
(31) لقد تبع انتشار اللغة الآرامية واتصال أصحابها بغيرهم من الأقوام أن تولدت لهجات عدة ، وقد اختلفت الآراء في تقسيم هذه اللهجات ، فقد قسمت إلى شرقية وغربية.وكانت اللهجات الشرقية عند البعض هي لهجات التلمود البابلي والسريانية المندعية وما عداها فهو غربي،ومع ذلك فالواقع أن الخلاف بين اللهجات الآرامية لم يتخذ شكلاً واضحاً إلا في عصر متأخر وهو العصر الذي يبدأ تقريباً بظهور المسيحية، وعلى ذلك وجب استبعاد اللهجات الآرامية القديمة لتقاربها وهى لهجة زنجيرلى ، والآرامية التي استعملها الفرس في دواوينهم والتي يسميها العلماء الآن بالآرامية الدولية ، وآرامية الكتاب المقدس ، وآرامية أوراق البردي التي وجدت في جزيرة الفنتين بأسوان،انظر:مراد كامل وزاكية رشدي،المرجع السابق ، ص 14 .
(32) لمعرفة المزيد عن اللهجة الآرامية الفلسطينية المسيحية أو الملكية ، انظر : مراد كامل وزاكية رشدي ، المرجع السابق ، ص 20 – ص 21 .
(33) حسن محمود،المرجع السابق،ص385؛مراد كامل وزاكية رشدي،المرجع السابق،ص25–26.انظر أيضاً:
Encyclopedia of Religions and Ethics , Vol .XI,p.168 ; Kuhrt ( A ) , The Ancient Near East ( C. 3000 – 330 B.C ) , New York , 1995 , Vol.2 , p.393.
ويتبع >>>>>: الطوائف المسيحية في بلاد الشام(2)
واقرأ أيضا:
أوربا والإسلام في العصور الوسطى / حرب عادلة: التراث المسيحي للعصور الوسطى