منذ اشتعلت أزمة البورصة العالمية في نهايات عام 2008 تم الإعلان عن حالتي انتحار في مصر بسبب الهبوط الحاد والخسائر الفادحة، وهذه هي الحالات الصارخة المعلنة ولسنا ندري كم هي الحالات التي أصيبت بجلطات في القلب أو المخ أو ارتفاع في ضغط الدم أو القلق أو الاكتئاب أو المشكلات العائلية والاجتماعية المترتبة على كل ذلك، ولسنا ندري أيضا عن أثر تلك الحالة من الهلع والذعر على قرارات المتعاملين في البورصة وكيف أدت إلى مضاعفة الخسائر.
وساد شعور عام لدى الناس بالخطر، وأيقنوا أن النظام الاقتصادي العالمي ليس نظاما راسخا كما كانوا يظنون، وأن رجال المال والاقتصاد ليسوا موضوعيين أو عقلانيين أو منطقيين تماما كما كنا نعتقد فيهم، وأن ثمة حاجة لتغييرات جذرية في النظم المالية الحالية، تجعلها أكثر أمانا وأكثر استقرارا.
وقد جاء في تصريح الدكتور محمد النجار أستاذ الاقتصاد تعليقا على أزمة البورصة العالمية وانعكاساتها على السوق المصرية: "إن الأزمة طالت البورصة المصرية بشكل حاد بسبب عوامل نفسية"... وهذه حقيقة حيث أن الأزمة العالمية سببها –كما يقول محمد عبد القوي، محلل سوق المال– الإفراط في عمليات الرهن العقاري وتمويل شراء العقارات في أمريكا دون ضمانات مما أدى إلى كارثة حقيقية... وأن السوق المصرية في مأمن عن حدوث تلك الأزمات نظرا لصغر سوق التمويل العقاري في مصر.
إذن فخسارة البورصة المصرية (والتي يقدرها الاقتصاديون بحوالي 150 مليار جنيه في شهري سبتمبر وأكتوبر 2008) سببها حالة القلق والارتباك الشديد لدى المستثمرين جراء متابعتهم للأنباء السلبية في سوق المال العالمي مما دفعهم إلى البيع العشوائي والمتسرع للأسهم (جريدة الدستور 12/10/2008م).
جائزة نوبل والمجال النفسي الاقتصادي
وفي الماضي لم يهتم أحد بدراسة العلاقة بين الحالة النفسية والتعاملات المالية بشكل علمي، ولهذا فقد حصل العالم النفسي دانيال كانيمان Daniel Kahneman أستاذ علم النفس في جامعة برينسيتون على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2002 م حين أجرى أبحاثا ربطت بين الاقتصاد وعلم النفس، أي باختصار سلط الضوء على العلاقة بين الفلوس والنفوس.
وقد أوضحت دراسات "كانيمان" وغيره أن المستثمرون –مثلهم مثل بقية الناس– يستجيبون انفعاليا للأخبار والحقائق وربما الشائعات، وأن الفكرة النمطية السائدة بأن رجال المال ليست لهم قلوب بمعنى أنهم يتعاملون فقط بعقولهم الموضوعية التحليلية هي فكرة غير حقيقية، فقد تبين في مواقف كثيرة وخاصة عند الهبوط الحاد في البورصة أن مستثمرين كبارا ينتابهم قلق زائد وربما يصابون بحالات اكتئاب، مما يؤدي إلى اضطراب قراراتهم في البيع والشراء، ويؤدي أيضا إلى اضطراب حياتهم الشخصية والعائلية.
وتأتي أهمية دراسات "كانيمان" في أنه وضع أسسا حقيقية لتفاعل العامل البشري بكل جوانب قوته وضعفه مع العمليات الاقتصادية بتعدد وتعقيدات العوامل المؤثرة فيها، وقد يشكل هذا قاعدة لوضع نظم مالية أكثر واقعية وأكثر استقرارا، أو على الأقل يجعلنا نفهم ونتوقع حركة السوق صعودا وهبوطا بشكل منطقي وواقعي، فلا نفاجأ بهبوط هنا أو انهيار هناك، ويجعلنا لا نضع مستقبلنا ومستقبل أبنائنا بل ومستقبل العالم في أيدي مجموعة من المستثمرين الذين يمكن أن يسقطوا في لحظة ما وفي ظروف ما وربما بشكل مفاجئ، أي أننا بحاجة إلى التفكير في كيفية تحقيق "الأمن الاقتصادي المحلي والعالمي"، فرجال المال والاقتصاد وحدهم ليسوا قادرين على هذا الأمر كما كنا نظن.
وقد تكون هذه الجهود وغيرها بداية لظهور تخصص جديد يسمى "علم النفس الاقتصادي"، بحيث يستفاد من مبادئ علم النفس في دعم العاملين في حقل الاقتصاد، وتحسين مهارات التعامل والاستثمار والتنمية واتخاذ القرار، وربما يحقق هذا جزءا من النبوءة بأن القوة القادمة في العالم هي قوة "علم النفس"، تلك القوة التي لو تغلغلت بشكل صحيح في أي مجال دفعته بقوة ليصل إلى أعلى مدى له من خلال التوظيف الجيد لقوانين ونظريات النفس المعروفة لتلتقي وتتضافر بشكل صحيح مع قوانين ونظريات الطبيعة والحياة.
طبيعة البورصة وعلاقتها بالحالة النفسية
ويختلف الاستثمار في البورصة عن الاستثمارات التقليدية الأخرى، فالبورصة فيها الكثير من العوامل التي لا يملك المستثمر السيطرة عليها، فهو يشتري أسهما في شركات لا يديرها هو وربما لا يعلم كل شيء عن أحوالها فضلا عن أسرارها، كما أن هذه الشركات تتعرض للصعود والهبوط بناءا على عوامل داخلية فيها وبناءا أيضا على عوامل خارجية في السوق المحلي والسوق العالمي.
ولكي نرى الأمر بشكل أكثر شمولية وتعقيدا فإن أحوال الشركات التي تضمها البورصة تتأثر بالأحداث السياسية والاجتماعية والنفسية في المجتمع المحلي والمجتمع العالمي، وهذا يجعل أمر التنبؤ بأحوال الشركات وبأسعار الأسهم صعودا وهبوطا أمرا صعبا حتى على المستثمرين المحترفين الذين يقومون بعمليات تحليل علمية لأحوال السوق ويتخذون قراراتهم بناءا عليها. وهذا لا يعني أن عمليات التحليل هذه غير مفيدة وغير مؤثرة بل هي في الحقيقة تؤدي إلى درجة من المعرفة الموضوعية والحقيقية لأحوال السوق وتقلباته وتؤدي إلى زيادة المكسب وتقليل الخسائر، ولكن مع هذا لا تملك التنبؤ الكامل بكل الأحداث والتقلبات، نظرا لكثرة تلك الأحداث وفجائية التقلبات أحيانا كثيرة؛
وبناءا على هذا نجد أن بعض الناس لا يفضلون التعامل في البورصة ويقومون باستثمار أموالهم في مشروعات تقليدية كإنشاء مزرعة أو سوبر ماركت أو مستشفى أو مصنع، وهذه المنشآت يديرونها هم بأنفسهم، وكل شيء فيها يجري تحت أعينهم، وعوامل المكسب والخسارة غالبا لا تكون فجائية، ولكن يعيب هذه الاستثمارات أن عائدها محدود نسبيا، وتحتاج إلى إشراف مباشر من صاحب المال وتحتاج لخبرة ربما لا يملكها صاحب المال، كما أنها ربما لا ترضي طموح الأشخاص الذين يرغبون في تحقيق ثروات كبيرة في زمن قياسي من خلال المساهمة في المشروعات الكبيرة أو العملاقة.
ويتعب كثيرا ويخسر من يتعامل في البورصة وهو لا يعرف طبيعتها، فمثلا من أساسيات البورصة حالات الصعود والهبوط، فالبورصة ليست للمكسب فقط بل للخسارة أيضا، وأن تاريخ البورصة يقول بأن حالات الهبوط مهما كانت شديدة إلا أنها بالضرورة مؤقتة وسيتبعها حتما حالات صعود مرة أخرى. والبورصة شديدة الحساسية للأحداث سواء كانت أحداثا اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية، وبما أن الأحداث مؤقتة وعابرة في أغلبها، وأن الحياة تسير وتتطور رغم تلك الأحداث إذن فالبورصة أيضا تعلو وتهبط ولكنها في النهاية تسير، وغالبا يكون مسارها في الصعود بشكل عام رغم الهبوطات الطارئة من وقت لآخر، وهذه طبيعة الحياة عموما، والبورصة جزء من الحياة.
إذن لو حاولنا أن نلخص طبيعة البورصة في كلمات قليلة نقول هي: التقلبات، الغموض النسبي، المفاجآت، تعدد العوامل المؤثرة، ضعف السيطرة، الحاجة لاتخاذ قرارات مهمة في وقت قياسي رغم قلة المعلومات المتاحة، احتمالات المكسب والخسارة طول الوقت. وهذه السمات المميزة للبورصة تجعل بعض الناس ينظرون إليها على أنها ليست استثمارا شريفا بل نوع من المقامرة.
نظريات الاستثمار وأنواع المستثمرين
ينقسم المستثمرون إلى نوعين طبقا لما يتبعوه من نظريات الاستثمار:
1- المستثمرون الذين يتبعون نظرية التوقع والاحتمالات:Prospect Theory Investors
وهؤلاء يقيمون خياراتهم على أساس احتمالات المكسب والخسارة نسبة إلى نقطة مرجعية معينة، فهم يقبلون السوق بطبيعته، ويضعون نقطة مرجعية يصعدون ويهبطون وأعينهم على هذه النقطة، ويحسبون ناتج المكسب والخسارة معا انطلاقا منها ورجوعا إليها، وبالتالي فهم يتحركون مع السوق صعودا وهبوطا دون فزع لأن أعينهم على الناتج النهائي للمكسب والخسارة، باختصار شديد هؤلاء الناس يتميزون بأنهم يعتبرون المكسب والخسارة أحداثا عادية في البورصة ويتعاملون على هذا الأساس، ويفيدهم هذا في أنهم لا يقلقون كثيرا ولا يضطربون في حالات الخسارة؛
وبناءا على هذه الرؤية فهم أكثر المستثمرون قبولا للدخول في مغامرات محسوبة، لأنهم يحتملون رؤية المنحنى في صعوده وهبوطه طالما أن الناتج العام قياسا إلى النقطة المرجعية في صالحهم على المدى الطويل. وهؤلاء المستثمرون لا يكتفون بقراءة البيانات المالية وكشوف حسابات الشركات، بل يقرؤون أيضا الظروف السياسية، والتغيرات الاجتماعية، والتحولات النفسية، والتقلبات المناخية، والأحداث الكبيرة المؤثرة، وهذا يمنحهم رؤية إستراتيجية بعيدة المدى.
2- المستثمرون الذين يتبعون النظرية القياسية: Standard Theory Investors
هؤلاء يركزون فقط على المكسب المباشر، ويعتبرون الخسارة حدثا استثنائيا يجزعون ويفزعون منه، ولهذا فهم يتجنبون المغامرة ويميلون إلى الاستثمارات المضمونة نسبيا حتى لا يتعرضوا لأي خسارة، فهم يريدون أن يرون الجزء الصاعد فقط من المنحنى ولا يحتملون أن يرون الجزء الهابط منه.
كيف تضبط خياراتك
وقد أجريت تجارب كثيرة على المتعاملين في البورصة ووجد أن القدرة على صياغة الخيارات ووضعها في إطار سليم له أثر كبير على قرارات المستثمرين، ووجد أيضا أن كثير من الناس ليست لديهم القدرة على صياغة خياراتهم ولا على وضعها في إطار صحيح، وبالتالي تكون خياراتهم عشوائية أو تحدث استجابة لحالات انفعالية مؤقتة. وهذا الأمر يعتمد على رؤية المستثمر لاحتياجاته، هل هو يحتاج لمكسب بسيط في زمن قصير أم أنه دخل البورصة لاستثمار طويل المدى.
وإلى أي مدى يستطيع تحمل خسارة مؤقتة في سبيل الحصول على مكسب كبير في المستقبل، وهل لديه رصيد آخر يرتكز عليه فيساعده ذلك على المغامرة أم أن كل استثماراته موضوعة في البورصة وضياعها يعني ضياع كل شيء بالنسبة له، وهل هو يساهم في نشاط واحد أو في أكثر من نشاط في البورصة، ومتى يحرك أسهمه ومتى يجمدها..... وهكذا أمثلة كثير للصياغات ووضع الأطر تؤدي إلى وضوح الرؤية.
ومن أصعب الأشياء في تعاملات البورصة أنك مطلوب منك أن تتخذ قرارات مهمة في الوقت الذي لا تتوافر لك فيه كل المعلومات، وهذا يشكل ضغطا نفسيا خاصة على أولئك الأشخاص الذين لا يحتملون الغموض، وأولئك الذين يرغبون في الوضوح التام وتوافر كافة المعلومات وتوافر عوامل السيطرة الكاملة على الأشياء.
أنماط الشخصيات وأنواع الاستثمار
من هنا نتوقع اختلافات في نمط الشخصيات بين أولئك الذين يفضلون الاستثمارات التقليدية وهؤلاء الذين يفضلون الاستثمارات في البورصة، فالفريق الأول يتميز بالتحفظ وعدم الميل للمغامرة، والرضا بالمكسب القليل المضمون، والرغبة في السيطرة على عوامل المكسب والخسارة، والإصرار على أن يديروا أموالهم بأنفسهم وتبقى تحت إبطهم أو تحت أعينهم أو "تحت البلاطة" (كما يقولون)، وربما تكون لدى هذا الفريق بعض السمات الوسواسية كالمبالغة في النظام والدقة وحب السيطرة، والحواز (الرغبة في الامتلاك والتخزين)، والقلق من المغامرات، والحرص على الأشياء؛
أما المستثمرون في البورصة فيميلون إلى حب المغامرة وارتياد المجهول، ويبحثون عن المكسب السريع والمفاجئ والكبير، ولديهم طموحات عالية، وربما يستمتعون بحالات الصعود والهبوط حيث يصاحبها تغير مرغوب في حالاتهم الانفعالية وفي كيمياء المخ والجسد، وقد تكون لدى بعضهم سمات شخصية المقامر الذي يستمتع بالمكسب والخسارة معا حيث تصاحبها حالات من المشاعر المتغيرة التي تثير الدهشة وتدفع الملل.
وقد يميل إلى التعامل في البورصة الشخصيات الانبساطية (ذات المزاج المرح المتفائل والعلاقات الاجتماعية المفتوحة) والشخصيات النوابية (ذات التقلبات في المشاعر)، كما يميل إليها أيضا الشخصيات الانطوائية التي تميل إلى التعاملات من وراء ستار وتميل إلى التحليل ومحاولة التفسير والتأمل لأحوال السوق، وهؤلاء (أصحاب النمط الانطوائي التحليلي) قد يعملون محللين في مكاتب الاستثمار نظرا لقدرتهم على المتابعة الدقيقة والصبورة وربطهم للأشياء ومتابعتهم للأحداث التي يتوقع أن تؤثر في السوق وتتبعهم لمؤشرات الصعود والهبوط.
لماذا تهاب النساء عالم البورصة
اتضح من دراسة أجريت في مصر أن 81% من العينة كانوا رجالا و19% كانوا نساءً، وهذا لا يعني أن تلك النسبة هي هي نسبة الرجال والنساء المتعاملين في البورصة فعينة الدراسة كانت عبارة عن 99 مستثمرا، ولكن عموما تحجم النساء عن التعامل في البورصة مقارنة بالرجال في مصر والعالم العربي وحتى في كثير من الدول الغربية، فقد أجري بحث في عدد كبير من الدول للمقارنة بين الرجال والنساء من حيث الثقة في عملية الاستثمار فوجد أن 80% من الرجال لديهم الثقة مقارنة ب 29% من النساء.
وهناك اعتقاد اجتماعي سائد بأن عالم المال والاقتصاد هو عالم الرجال، وأن دور النساء فيه لا يتعدى تقديم الخدمات المساعدة كالسكرتارية، والأعمال الحسابية والمكتبية والإدارية، وربما أعمال النظافة.
وإذا تجرأت امرأة ودخلت هذا العالم كمستثمرة قيادية فإنها لا تسلم من شائعات تتهمها باستغلال أنوثتها في تسيير أعمالها، وإذا لم تسمح درجة أنوثتها بهذا الاتهام فإنها توصف بالاسترجال. وفي أمريكا يختلف الأمر حيث أن 50% من مديرات الاستثمار هن من النساء.
ومن الناحية العلمية فإن النساء لديهن قدرة عالية على الحدس (التنبؤ من خلال الإحساس الداخلي)، ولديهن قدرة على الربط بين العوامل المتعددة وعلى تكوين رؤية تكاملية للأحداث، كما أن لديهن قدرة عالية على رؤية التفاصيل الصغيرة في جوانب الإنفاق، تلك المميزات التي أهلت المرأة للإمساك بمصروف البيت أفضل من الرجل في معظم البيوت.
أفضل شخصية للتعامل في البورصة
هذا سؤال هام يشغلنا كمتخصصين في العلوم النفسية ويشغل العاملين في البورصة، وقد أجريت أبحاث في هذا الشأن في أكثر من مركز بحثي هدفها البحث عن خصائص الأشخاص المرشحين للنجاح في هذا المجال وكانت النتائج كالتالي:
1 – شخص لديه وعي موضوعي بذاته، بمعنى أنه يدرك جيدا نقاط قوته وضعفه.
2 – لديه القدرة على قيادة نفسه واتخاذ قراراته بشكل مستقل بعد تجميع المعلومات من كل المصادر المتاحة.
3 – لديه القدرة على رصد وضبط ومشاعره.
4 – لديه القدرة على رصد ومنع السلوك الهادم للذات.
5 – يتعامل مع السوق وهو في حالة ارتياح.
6 – يسعى دائما نحو النجاح ويعرف كيف يحققه.
7 – يعرف جيدا متى يستفيد من نصائح الآخرين ومتى يهملها أو يحذر منها.
8 – غير قابل للإيحاء بسهولة.
9 – يستطيع التحكم في مشاعره وانفعالاته أثناء فترات اضطراب السوق (الثبات وقت الاضطراب).
10 – يستطيع أن يواصل عمله تحت الضغط.
11 – لديه مهارة اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب.
وقد ذهب عالمان نفسيان هما "لو وريبين" (L0 and Repin 2005) إلى أن أهم صفة في المستثمر هي "الثبات الانفعالي" وقت اهتزازات السوق. وقد قام هذان العالمان باستخدام قياسات نفسية فسيولوجية لرصد معدل ضربات القلب، وضغط الدم ورطوبة الجلد لعدد من المستثمرين أثناء ممارستهم لعملهم في البورصة، ووجدوا أن المستثمرين الناجحين ذوي الخبرة العالية لا تحدث لهم تغيرات كبيرة في استجاباتهم النفسية والفسيولوجية حتى وهم يتلقون أخبارا مفاجئة أو غير سارة.
وقام عالم نفس آخر هو "أو كريفي ورفاقه" (O’Creevy et al 2004) بدراسة على 118 مستثمر أوروبي محترف، ووجد أن المستثمر الناجح يميل لأن يكون شخصا انطوائيا لديه قدر عال من الثبات الانفعالي ولديه عقل متفتح على الخبرات الجديدة.
وقام "أوبرشنر" (Oberchner 2004) بإرسال استبيان إلى 600 مستثمر محترف في أوروبا، أجاب 54% منهم على الاستبيان بالكامل وكان عبارة عن 23 خاصية من الخصائص المفترضة للمستثمر الناجح، واتضح من رأي المستثمرين أن أهم 5 خصائص هي:
1 – سرعة الاستجابة (أو بالأدق قصر زمن رد الفعل)(Quick Reaction Time)
2 – الانضباط (Discipline)
3 – الخبرة (Experience)
4 – التركيز(Concentration)
5 – مقاومة الضغوط (Stress Resistance)
ومن خلال معالجات أخرى للاستبيان اتضح أن أهم خاصية للنجاح في البورصة هي: التعاون المنضبط (Disciplined Cooperation)
المستثمر الفاشل
وهذه خصائصه كما اتضحت من عدد من الدراسات أجريت أحدها على عشرة آلاف شخص:
1 - يتميز بالاندفاعية، بمعنى أنه يتصرف بدون تفكير أو تروي.
2 - يقوم بعمليات كثيرة وغير مدروسة ويكون الناتج النهائي لها ضعيفا، فهو كثير البيع، كثير الشراء، كثير الخسارة، أو قليل المكسب.
3 – لديه ثقة زائدة وزائفة بنفسه.
4 – لديه شعور زائد وزائف بالسيطرة على الأمور.
5 – لديه تقدير مبالغ فيه لقدرته على التنبؤ.
6 – يهون من المخاطر المحتملة.
7 – يبيع أسهمه الرابحة بسرعة بينما يستبقي الأسهم الهابطة لفترات أطول من اللازم.
8 – لديه قابلية عالية للإيحاء.
9 – يأخذ بنصائح الآخرين دون أن يفندها ويتأكد من صحتها.
10 – يسلم رأسه للسماسرة وأصحاب مكاتب الاستشارة.
11 – سريع الانفعال ويتأثر بعنف بتقلبات البورصة.
12 – يصدق الشائعات بسهولة.
13 – يعزو فشله إلى عوامل خارجية مثل الحظ أو الظروف أو المشورة الخاطئة أو القدر.
وحين حاول الخبراء انتقاء الصفة الأكثر لزوما للمستثمر الفاشل وجدوا أنها "الثقة الزائدة" (Overconfidence)
ظاهرة التدافع وقت الهبوط
حين يتعرض مبنى كبير لزلزال أو حريق، يشعر المقيمون به بالفزع الشديد فيتدافعون في الطرقات وعلى السلم ونحو الأسانسير، ونتيجة هذا التدافع يموت الكثيرون أو يصابون، ليس بسبب الزلزال أو الحريق ولكن بسبب التزاحم الشديد فيسقط بعضهم تحت الأقدام، ويزداد حجم الكارثة.
نفس الشيء يحدث في تعاملات البورصة حين يحدث هبوط حاد فيندفع عدد كبير من المستثمرين وخاصة الهواة منهم إلى البيع السريع والعشوائي فتهبط الأسعار أكثر فيثير هذا مزيدا من الهلع لدى نفس المستثمرين أو لدى مستثمرين آخرين؛
وهكذا يزداد التدهور بسبب حالة الهلع وسلوك التدافع، ولو استمر هذا الأمر لانهارت البورصة تماما، ولكن الذي يوقف الانهيار هو وقوف المحترفين، ذوي القدرة على السيطرة على انفعالاتهم وأفكارهم، حيث يعرفون أن هذا الانهيار مؤقت بالضرورة، وأنه سيصحبه ارتفاع قريب حين يفرغ الخائفون والمضطربون انفعاليا من بيع أسهمهم، وحين ينتبه المغامرون فيبدأون في الشراء في هذه الظروف انتظارا للصعود المتوقع. إذن فهبوط البورصة حدث معتاد ومفهوم اقتصاديا، أما انهيار البورصة فهو حدث نفسي بالأساس سببه سلوك التدافع الناتج عن حالات الهلع التي يصاب بها الهواة وأنصاف المحترفين.
سلوك المخاطرة
اتضح أن 66% من المستثمرين في البورصة المصرية لا يميلون إلى المخاطرة، ويفضلون التعامل في المناطق الآمنة، وأن 54% منهم يبدون مترددين في اتخاذ قرارات سريعة، وقد تسبب هذا – حسب قولهم – في خسارات كثيرة، وأن أكثر فترات كانوا يترددون فيها هي تلك التي تتبع الخسارة أو المكسب.
وهذه النتائج مختلفة عن نتائج الأبحاث في الغرب، حيث تبين أن 97% من المستثمرين هناك، حين يتعرضون لخسارة يبدءون في البيع دون تردد، فهم يعطون قيمة أعلى للقدرة على اتخاذ القرار الحاسم ولا يحبذون الانتظار أو التردد. وربما ترجع هذه الفروق إلى عوامل ثقافية.
والمخاطرة قد تبدو سلوكا سلبيا في الحياة بشكل عام، ولكنها قد تكون مطلوبة في البورصة، بل قد لا يخلو قرار في البورصة من قدر من المخاطرة، ونحن نفرق هنا بين المخاطرة العشوائية التي ترتكز على مشاعر وانطباعات شخصية، والمخاطرة المحسوبة التي ترتكز على القدر المتاح من المعلومات والتوقعات مهما كان صغيرا.
وعلى العكس من ذلك قد يكون التردد سببا لضياع الكثير من الفرص المهمة في استثمارات البورصة، والمحك هنا هو الخبرة والمهارة التي تحدد متى يقدم الشخص ومتى يتردد، والوقت المطلوب لهذا وذاك.
الحالة النفسية للمتعاملين في البورصة المصرية
وفي بحث أجراه كاتب المقال بالتعاون مع الأستاذ الدكتور وائل أبو هندي والأستاذة داليا الشيمي على 99 من المتعاملين في البورصة المصرية والمشاركين في مؤتمر عن البورصة عقد في القاهرة بتاريخ 11/5/2006 م كانت النتائج كالتالي (باختصار شديد):
كانت أكثر فئة عمرية في العينة هي 25-35 سنة، وهذا متوقع حيث أن الاستثمار في البورصة هو نوع جديد من الاستثمار يقبل عليه الشباب، ويهابه كبار السن الذين يفضلون الأنماط التقليدية في الاستثمار.
وقد أقر 63% من المتعاملين في البورصة أنهم مروا بحالات قلق شديدة في حالات الهبوط الحاد في البورصة، وهذا مفهوم ومتوقع، أما المفاجأة فكانت أن 57% من المستثمرين ذكروا أنهم مروا بحالات قلق أيضا عند حصولهم على مكاسب كبيرة أو مفاجئة، أي أن المكسب والخسارة يصحبهما حالة قلق، فالعبرة هنا بالتقلبات والمفاجآت. وأفاد 68% من أفراد العينة أن تعاملهم في البورصة قد أثر بالسلب على حياتهم الاجتماعية، وقال 64% أن تقلبات البورصة أثرت بالسلب على حالتهم الصحية العامة، ولهذا فهم يعتقدون أن غير المتعاملين في البورصة أسعد حظا لأنهم –في نظرهم– يعيشون حياة مستقرة نفسيا وعائليا واجتماعيا.
وهذه الاضطرابات النفسية والاجتماعية أثرت على قدراتهم في مواصلة أعمالهم في رأي 79% منهم. وعقب أي هبوط شديد في البورصة فإن 100% قد عانوا مشاكل عائلية ومشاكل صحية، و97% عانوا اضطرابات في النوم، و84% شعروا بالإحباط مع الرغبة في بدأ جولة جديدة من التعاملات. وبناءا على هذه المعاناة فإن 89% من المتعاملين مع البورصة لا يحبون أن يعمل أبناؤهم في هذا المجال.
ومن ناحية اتخاذ القرارات فقد ذكر 83% من أفراد عينة البحث أن قراراتهم تأثرت بحالتهم النفسية، واتضح أن القرارات في البورصة ليست دائما منطقية أو قائمة على حسابات وتحاليل حيث ذكر 53% من المشاركين في البحث أنهم يعتمدون على أحاسيسهم الداخلية في قراراتهم، وذكر 53% أيضا أنهم يتأثرون بمسائل التفاؤل والتشاؤم كما يتأثرون بآراء الآخرين. وفي أوقات الهبوط الحاد فإن 97% يقومون بالبيع أو الشراء بدون تفكير.
وحوالي 61% من أفراد العينة قالوا بأنهم لا يميلون إلى المخاطرة في تعاملاتهم في البورصة وإنما يميلون للتعاملات المضمونة نسبيا، بينما أكد 54% من المشاركين أنهم ترددوا في اتخاذ قرارات مهمة وأن ترددهم أدى إلى خسائر كبيرة. ومن ناحية الاعتقاد في مسألة الحظ فإن 73% من المستثمرين قيد البحث يشعرون أنهم غير محظوظين.
الرعاية النفسية للمتعاملين في البورصة
بعد أن بثت وكالات الأنباء أخبار انتحار عدد غير قليل من المتعاملين في البورصة بعد الانهيار الأخير في أكتوبر 2008 م، ووقوع كثيرين آخرين في براثن الاضطرابات النفسية والعائلية والاجتماعية، فقد أصبح من الضروري مراعاة الحالة النفسية للمتعاملين في البورصة على أساس أنهم فئة يعانون من تقلبات السوق بشكل يؤثر في حالتهم النفسية إلى الدرجة التي يمكن أن تدفعهم للتخلص من حياتهم حتى في البلاد التي تقل فيها معدلات الانتحار مثل مصر. وفيما يلي بعض الخطوط العريضة لرعاية هذه الفئة من الناس:
* من الضروري أن يعرف المتعاملون في البورصة المفاهيم الأساسية المتصلة بها والمؤثرة في حالتهم النفسية مثل:
1 – الصعود والهبوط ليس حدثا استثنائيا في البورصة بل هو من طبيعتها الأساسية.
2 – الهبوط في البورصة مهما كان حادا فهو لا يعني الانهيار.
3 – الخسارة في البورصة غالبا مؤقتة.
4 – الاستثمار في البورصة عملية طويلة المدى فلا يؤثر فيه بعض مراحل الهبوط.
5 – إذا كنت ممن يبحثون عن الأمان فمن الأفضل توزيع استثماراتك على أكثر من مجال حتى تكون المخاطرة محسوبة ومحدودة، فإذا اهتزت بعض المجالات أو بعض الأسهم عوضتها مجالات أو أسهم أخرى.
* إتاحة التقييم النفسي للمستثمرين القابلين للتوتر والواقعين تحت الضغوط، ويتم هذا من خلال:
1 – المقابلة الإكلينيكية مع متخصص في الطب النفسي.
2 – إجراء بعض الاختبارات النفسية خاصة تلك التي تقيس درجة القلق أو الاكتئاب أو الاضطرابات النفسجسدية.
3 – إجراء بعض الفحوصات النفسفسيولوجية لتقييم الاستجابات الانفعالية لتغيرات السوق، مثل متابعة معدل ضربات القلب، ضغط الدم، درجة التوصيل الكهربية في الجلد، رصد نشاط المخ الكهربي أو الكيميائي أثناء ممارسة النشاط الذهني في التعامل مع البورصة.
* الدعم النفسي والاجتماعي خاصة في أوقات الضغوط، ويتحقق ذلك بما يلي:
1 – وجود شبكة دعم عائلية واجتماعية قوية.
2 – إتاحة الفرصة للاستشارات النفسية لدى متخصصين نفسيين خبراء في مشكلات التعامل مع البورصة.
3 – جلسات علاج نفسي فردي (تدعيمي غالبا).
4 – تكوين مجموعات مساعدة ذاتية (Self Help Groups) يشارك فيها المتعاملين في البورصة ويعلن عن موعد ومكان اجتماعاتها في كل كل مدينة، ويتناقش أعضاؤها في المشكلات التي تواجههم، ويتبادلون الخبرات في كيفية مواجهة تلك المشكلات.
* الدعم الإلكتروني، وذلك عن طريق مواقع على الإنترنت تقدم المشورة والدعم.
* عقد دورات وورش عمل للتدريب على كيفية التعامل مع المشكلات النفسية المصاحبة لتقلبات البورصة: ويمكن أن تتم هذه الدورات بشكل مباشر أو على الإنترنت من خلال الـ E-training
* الدعم الديني: والذي يتمثل في رؤية المكسب والخسارة من منظور أوسع، وتأكيد الطمأنينة على الرزق، واللجوء إلى الله في أوقات الأزمات بالدعاء، والالتزام ببرنامج من العبادات، وإخراج الزكاة لتطهير المال وإنمائه، والتبرع للأعمال الخيرية وخدمة المجتمع، وتحري الحلال والحرام في المعاملات المالية، كل ذلك يخفف من حدة الشره نحو المال، ويحمي النفس ممن الانهيار تحت تأثير التقلبات المالية، ويعطي للإنسان معنى أوسع للحياة.
اقرأ أيضاً:
من المحلة إلى مارينا وبالعكس مشاركة / تحليل الأسهم (4)/ البورصة والتعامل معها2 / جمال حمدان: المحنة... العزلة... العبقرية