كلمة "أيديولوجية" التي شاعت في الخطاب السياسي العربي مصطلح ينتمي للغات الهندية الأوروبية مكون من مقطعين أصلهما إغريقي ("أيديا" وتعني فكرة، "ولوجوس logos" وتعنى حرفيا "كلمة" ولكنها تعني "دراسة أو "علم").
وكلمة أيديولوجية منبتة الصلة بنسقنا اللغوي وبالتالي الفكري، وهي إلى فضل ذلك كلمة مختلطة الدلالة في لغتها الأصلية فهي تعني الشيء وعكسه، فهي تعني فيما تعني "نسق من المعتقدات يفسر الواقع بعد تبسيطه تبسيطاً ضرورياً"، كما تعني أيضاً "نسق يعكس الواقع"، وكذا "نسق يفسر بعض جوانب الواقع بعد تبسيطه تبسيطاً مخلاً"، وكذا "نسق يشوه الواقع"، بل و"نسق يزيف الواقع للإنسان ويعميه عن رؤية واقعه".
ولذا فالأيديولوجية تصلح أحياناً كدليل للسلوك الإنساني، ولكنها لا تصلح أحياناً أخرى(ومن هنا معارضة "الفكر الأيديولوجي" بالفكر "الموضوعي والعلمي"). بل إن الأيديولوجية شبهت بالصورة الشعرية أو بالصورة المجازية الأساسية التي يمكن عن طريقها إدراك الواقع السياسي.
وبالتالي فهي أداة تعبيرية لتوصيل رسالة، بل هي قد تفلح عندما تخيب، أي عندما تشوه الواقع فتطمس بعض الحقائق وتعكس وتؤكد بعض الحقائق الأخرى، فتوصل رسالة مجردة للمؤمنين بها فتجندهم حولها. ومن هنا نجاح النظريات الفاشية (أي الصهيونية والنازية)، فهي تبسط الواقع بدرجة مريحة فتزداد مقدرتها التعبوية وكذا الأمر بالنسبة للنظريات التآمرية.
والأيديولوجية في بعض المعاني تنبع من الماضي وتحن إليه، وفي البعض الآخر تعكس الحاضر والأمر الواقع، وفي معنى ثالث تبشر بالمستقبل والمثل الأعلى، وفي معنى رابع تربط الماضي بالحاضر بالمستقبل فيتحول الماضي إلى المستقبل أو العصر الذهبي أداة لتغيير الحاضر، وهكذا دواليك. والأيديولوجية لها فعالية حسب رأي ما لأنها تعزل الجماهير عن الواقع، وهي لها فعالية حسب رأي آخر لأنها تبسط لهم الواقع وتفهمهم إياه!.
لكل هذا فالأيديولوجية تعني كل شيء وعكسه، وبوسع كلمة "أيديولوجية" أن تؤدي معانٍ مختلفة بحسب منظور المتكلم، فالماركسي حينما يتحدث عن "أيديولوجية الطبقة العاملة" يشير في غالب الأمر إلى نسق فكري يعبر عن رؤية هذه الطبقة الصاعدة التي ترفض الأمر الواقع (المنحل)، وتعبر عن الحركة التاريخية الكامنة التي ستتحقق من خلالها.
أما إن استخدم مفكر يميني نفس المصطلح فلعله يعني بأنه فكر الغوغاء التي لا يمكنها إدراك التاريخ، وبالتالي تصدر أحكاماً مباشرة هوجاء نابعة من استجابتها المباشرة للواقع المادي وتعبيراً عن مصالحها المادية الضيقة. وعبارة مثل "إن هذه النخبة الحاكمة تفتقد الرؤية الإيديولوجية" تعني أن هذه النخبة ليس عندها "أيديولوجية متكاملة"، أي أنها ليس عندها رؤية متكاملة للواقع.
وفي عبارة مثل "إن هذه مجرد رؤية إيديولوجية" تعني أنها رؤية مجتزئة للواقع تلوي عنقه حتى يمكن أن يتناسب الواقع مع الإيديولوجية لا العكس مثلما حدث حينما صرحت رئيسة الوفد السوفيتي لمؤتمر العنصرية الصهيونية في بغداد عام 1977 "بأن الصهيونية قد قامت بطرد العمال والفلاحين العرب". وهي بتصريحها هذا كانت تحاول أن ترد حركة التاريخ بأسرها لمقولة طبقية.
وحينما ذكرّتها بأن الصهيونية طردت العمال والفلاحين والرأسماليين والإقطاعيين العرب بل والبروليتاريا الرثة العربية، وأن الجميع طُرد لا لأنهم عمال وبروليتاريا رثة وإنما لأنهم عرب، وأن علينا أن نتعامل مع هذه الحقيقة التاريخية الصلبة حتى لو لم تعجبنا أو تتفق مع آرائنا، اتهمتني العالمة الفاضلة بأنني ميتافيزيقي وأنني أدّعي أن الصهيونية نزلت علينا من السماء ولم تكلف خاطرها بالرد على مقولتي، واكتفت بالرد الاختزالي الذي شوّه مقولتي تماماً.
ومن الواضح أنني كنت موضوعياً أكثر منها بمراحل في محاولتي التفسيرية، ولكنها كانت تعني في واقع الأمر أنني لست على استعداد للانصياع لتبسيطاتها النظرية الموضوعية العلمية!.
المصطلح إذن مختلط الدلالة ولكنه أيضا غريب على اللغة العربية، ولذا نظراً لغرابته يصبح نحت فعلٍ منه مسألة صعبة للغاية. وقد استخدم عبد الله العروي (وآخرون) فعل "يؤدلج" وهو فعل جرسه قبيح لا يستدعي أي شيء للعقل، يكاد يكون دالاً دون مدلول (إن أردنا استخدام مصطلح التفكيكيين)، أو مجرد حروف متتالية تشبه في رنينها مصطلح "أيديولوجية"، ولكن لا يمكن للمرء بأية حال أن يتخيل النشاط الذهني الذي يقوم به هذا الإنسان الذي "يؤدلج".
إن كلمة "أيديولوجية" اسم أعجمي يصعب نحت فعل منه، وهذا يعود إلى عبقرية اللغات الهندية الأوروبية، فهي لغات يحتل فيها الاسم مكان الصدارة على عكس اللغات السامية التي يشكل الفعل فيها الوحدة الأساسية التي تولد منها الأسماء والدلالات والصفات. وفي تصوري أن العلوم الإنسانية العربية يمكنها أن تصل إلى مستوى إبداعي مستقل لو ابتعدت قليلاً عن التفكير بالاسم وبدأت بالتفكير بالفعل(ومشتقاته).
فالفعل يتسم بأنه يعكس السكون والحركة، والشيء والنشاط، ويمكنه أن يعبر عن الذات والموضوع في ذات الوقت (في محاضراتي في النقد الأدبي الغربي أجد نفسي أعود دائما للصيغة العربية "يستنطق النص" لحل إشكالية الذات والموضوع؛ فالكلمة تعني أن النص كلمات متراصة صامتة لا تفصح عن شيء إلا من خلال الناقد.
ولكن هذا لا يعني أن الناقد يملي عليه ما يريد وإنما يتفاعل معه ويستبطنه ويتكشف قواعده حتى ينطق النص فيفضي بأسراره ويكشف سره، أي أن الاستنطاق هو حديث الموضوع من خلال الذات وحديث الذات من خلال الموضوع دون أن يفنى الواحد في الآخر، إذ يبقى النص نصاً والناقد ناقداً، وبدلاً من الحديث عن موت النص وموت المؤلف (وكلها نابعة من عبارة نيتشه "موت الإله" والتي تعني في واقع الأمر موت للكليات والمطلقات والمعنى) فإننا نتحدث عن التفاعل بين النص والناقد.
وأعتقد أنه من المستحيل العثور على صيغة مماثلة بصيغة يستفعل في اللغات الأوروبية، فمن الواضح أن الفعل يتفق مع نموذجنا المعرفي الذي اقترحه أكثر من الاسم). والتفكير بالفعل سيعود بنا إلى صلب لغتنا العربية وامتدادنا التاريخي وسيعيد علاقتنا بالجماهير التي لا أعتقد أنها ستكن احتراما كبيراً لمثقف عربي يقوم "بالأدلجة".
والعودة للتراث وللمعجم العربي ليس الهدف منه هو تضخيم الذات القومية أو جمع الأنتيكة (أو حتى التقرب من الجماهير)، فنحن لا نرفض الاستفادة من حضارة الآخرين ومن استعارة مفاهيم ومصطلحات منها. وقد فعل العرب القدامى ذلك بشجاعة وإبداع، ولكنهم استعاروا حينما بحثوا في معجمهم ولم يجدوا كلمة تفي بالحاجة، فلم يكونوا كسالى ولم يكونوا من الخانعين (ربما لأنهم كانوا من المنتصرين بينما انكسرنا نحن عسكرياً في بداية القرن الماضي).
إن الهدف من العودة للمعجم العربي هو العثور على أدوات ومصطلحات لها مقدرات تعبيرية مستقلة ترصد جوانب في الواقع لا يمكن للكلمات الغربية أن ترصدها أو إن رصدتها فترصدها بطريقة مغايرة لأن النسق اللغوي مرتبط بالنسق المعرفي (أقول مرتبط به وحسب، ولكنه مع هذا لا يرد إليه كلية، بمعنى أنني لست من دعاة النسبية العدمية التي ترى أن كل إنسان حبيس لغته ونسقه المعرفي، أو أن التواصل بين البشر مستحيل.
كل ما أقوله أن ثمة طرق مختلفة للوصول إلى الإنسانية المشتركة، وأنني كعربي وكمسلم يجب أن أصل إلى هذه الرقعة المشتركة من خلال لغتي، فأنا أكثر اطمئناناً وإبداعاً، وفي نهاية الأمر، أكثر إنسانية داخلها).
وأنا أزعم أن اصطلاح "أيديولوجية"- نظراً لمواطن القصور التي أشرنا إليها- يمكننا الاستغناء عنه حتى لا نكبل العربية به. وسأقترح كلمة "قال" ومشتقاتها ومجموعة من الكلمات الأخرى المرتبطة بها كمصطلح لا ليحل محل "أيديولوجية" ولا كترجمة له وإنما كنقطة بدء مغايرة، تشير إلى رقعة واسعة من النشاط الإنساني تحتاج إلى تسمية. وقد سُميت جوانب من هذا النشاط "بأيديولوجية" في النسق المعرفي الغربي وإن كان من الصعب استخدام اصطلاح "أيديولوجية" للإشارة إلى "نشاط".
فالاسم هنا يشير إلى "ثمرة النشاط" أكثر من النشاط ذاته، ولذا يضطرون في لغة مثل الإنجليزية إلى إضافة كلمة process التي نترجمها نحن بكلمة "عملية". أما فعل Ideologize، فهو فعل نادر الاستخدام، غريب في الإنجليزية غربته في العربية.
وقد جاء في المعاجم العربية أن القول هو "الكلام" ولكنه أيضاً "الرأي والمعتقد"، فيقال: ما قولك؟ أي "ما رأيك". ويحمل معنى الظن فينصب بعده المبتدأ والخبر عند بعض العرب مثل "أتقول مسافر قادماً اليوم". ويقال "القول الفصل" أي الفاصل بين الحقوق والباطل، في مقابل "القول الباطل" أي الزائف الكاذب.
ويرتبط بهذه الكلمة عدة كلمات هامة تثري من معنى المصطلح الذي نود استخدامه، فهناك كلمة "القال" وهي "فضول القول مما يوقع الخصومة بين الناس". وقد نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عن "القيل والقال". وهناك أيضا "المقال"( لكل مقام مقال) و"المقالة"(المقالة الافتتاحية) و"المقولة"(الفلسفية أو المعرفية).
أما فعل "قال" وهو الجذر الأساسي فإمكاناته متعددة، وعلى سبيل المثال لا الحصر هناك "يقول له" بمعنى "خاطبه"، و"يقول عليه" بمعنى "اجتهد" و"يقول به" بمعنى رآه رأياً". وميزان الصرف العربي يمكنه أن يولد العديد من الكلمات مثل "أقوله" ما لم يقل و"تقول عليه قولاً" و"قاوله" في الأمر وغيرها من الكلمات.
وفعل "قال" ومشتقاته يشير إلى نشاط إنساني عريض يمكن أن نعرفه بأنه كلا من عملية التفكير والإفصاح أي ثمرة التفكير. فالكلمة العربية لا تفصل بين الفكر والإفصاح عنه وإن كانت تراهما على أنهما نفس الشيء أيضاً (أي أن ثمة وحدة بين الفكر والإفصاح ولكنها وحدة غير عضوية، وحدة داخلها ثغرات تتسم بالاستمرار وعدم الاستمرار).
إن جعلنا جذر "قال" وكلمة "القول" نقطة البدء فإننا يمكننا أن نشير إلى أنه لا يوجد في اللغات الأوروبية ما يؤدي معناهما على وجه الدقة بل هناك عدة كلمات منها Ideology أيديولوجية وكلمة discourse (التي تترجم بكلمة "خطاب") وكلمة sayings التي تترجم بكلمة "أقوال" بمعنى ما قاله شخص ما وحسب.
وأعتقد أن ما يحدث الآن في الحضارة العربية هو أننا نترجم عن اللغات الأوروبية حتى حينما نفكر، فنحدد المجال الدلالي لكلمة "قول" بالمجال الدلالي لكلمة sayings، مع أن المجال الدلالي للكلمة العربية مختلف تماماً عن المجال الدلالي للكلمة الإنجليزية، ثم نحكم على كلمة "قول" بأنها سطحية ولا تؤدي المعاني التي نود أن نفصح عنه، ثم نلقي بالكلمة العربية في سلة المهملات أو نقصر استخدامها على مدلولها السطحي الذي اكتسبته من الكلمة الغربية، ونبدأ في الاستعارة من المعجم الغربي وندخل في الطريق المسدود الذي يؤدي "للأدلجة"والعياذ بالله، حيث لا يفهم القول الأعمى سوى القائل نفسه! وهذه العملية ستحكم علينا بتبعية أزلية للغرب وتقف سداً منيعاً ضد أي إبداع عربي حقيقي في مجال العلوم الإنسانية.
لكل هذا، فأنا أقترح أن ننسى الآن كلمة "أيديولوجية" دون أن ننسى بالضرورة القضايا الفلسفية التي تثار بخصوص علاقة الفكر بالواقع والوعي بالفكر، فهي قضايا أساسية لا يمكن إسقاطها.
بل أنني أزعم أن إسقاط مصطلح "أيديولوجيا" هذا سيمكننا أن ندرك الطبيعة الفلسفية الإنسانية العامة لهذه القضايا وسنحررها من أي خصوصية غربية (بسبب ارتباطها بالمصطلح الغربي) فنحن لا نريد أن نترجم عن الغرب وإنما نود أن نفكر ونبدع من خلال حوارنا مع كل الحضارات– تماما مثلما فعل العرب القدامى في كثير من القضايا الفكرية التي طرحت عليهم نتيجة احتكاكهم بالحضارات الأخرى غير العربية ثم غير الإسلامية، فقد أداروا الحوار بخصوص هذه القضايا داخل إطارهم المعرفي اللغوي، ولم يتوقفوا ليروا هل كلمة "بويسيس" poesis عند أرسطو (وهي تعني الصنع والشعر) مرادفة لكلمة "الشعر" العربية وأنها تغطي المجال الدلالي للكلمة اليونانية.
وإنما جعلوا نقطة البدء الكلمة العربية والمجال الدلالي العربي وجعلوا إطارهم المعرفي الحضارة العربية، ثم قرءوا أرسطو وتأثروا به واستوعبوا منه ما استوعبوا ورفضوا ما رفضوا وأثروا تراثنا الفكري ووجداننا الشعري العربي والفكر الإنساني عامة وظلوا يتحدثون عن الشعر لا عن "البويسيس".
ويمكنني القول –بلا حياء ولا فخر- بأنني ما كان من الممكن أن أصل إلى أطروحاتي ومصطلحي وموقعي الجديد إلا من داخل التراث العربي الإسلامي وحده، وما كان يمكنني أن أطرح هذه القضية لو لم أتفاعل مع التراث الفكري الغربي والفكر الماركسي على وجه الخصوص، الذي يشكل واحدة من أكثر المحاولات الفكرية الغربية إبداعاً في نقد الحضارة الغربية (وإن كان نقده يظل نقداً من الداخل من خلال النموذج المعرفي الغربي).
ولكن تفاعلي مع التراث الغربي وطرحي أسئلة جديدة لا يعني أن أنتقل من "هنا" إلى "هناك"، بل إنه يجب أن نطل عليهم ونفهم ما يقولون جيداً ثم نطرح على أنفسنا الأسئلة التي تثيرها هذه الإطلالة، وهي عملية لا بد وأن تزيد من الإبداع العربي طالما أننا لا نتخلى عن هويتنا أو نماذجنا المعرفية ولغتنا، وطالما أن الأسئلة التي نطرحها هي أسئلتنا نحن نطرحها بلغتنا العربية على أنفسنا ونحاول أن نصوغ إجابتنا من الداخل، مستفيدين من الحوار مع الآخر، دون أن نرضخ له وقولي هذا لا يزيد ولا ينقص من قدر محاولتي.
والله أعلم.
ملاحظة: هذه المقالة نشرت بموقع الجزيرة نت بصفحة المعرفة- وجهات نظر بتاريخ 1 أبريل 2008.
اقرأ أيضاً:
الفيديو كليب والجسد والعولمة / الحداثة المنفصلة عن القيمة والإله الخفي / بين العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة