يؤمن الهندوس بأن البشر غير متساويين بإنسانيتهم، وإنما يخضعون لنظام طبقي ديني يدعى بنظام الطبقات. الطبقات تقسّم المجتمع الهندوسي لعدة أقسام لا يمكن لها أن تتجانس، فللرهبان المرتبة العليا، وللحاكمين التالية ويليهم التجار ومن تحتهم الفلاحين والعمال والخدم، وهناك من هم خارج التصنيف (يوصفون بأنهم تحت الأرجل بالديانة الهندوسية) وهم من الفقراء المعدمين والمشردين ومنظفي الشوارع وساكني المزابل.
إن تزاوج أو تخالط أيّاً من المنتمين لمرتبتين مختلفتين يجعل الموت مصيرهما، إن لم ينفع التفريق القسري أو العقوبات الرادعة تعتبر بحد ذاتها جرائم نكراء. ولا يعاقب الطرفان المتورطان بالموت فحسب، بل يعاقب الطرف الأقل مرتبة ليكفر عن جرأة أحد أفراده على التزاوج مع من يعلوه مرتبة.
وإذا كانت الديانة (أيّا كانت) خاضعة للجغرافيا وموروثها، فإن الإسلام لا يشذ عن تلك المعادلة. ولشرح الفكرة، يمكن أن نستدل من الديانة المسيحية وتطوراتها العديدة، حيث البدايات في سهول الجليل بفلسطين حينما كانت ديانة توحيدية، مروراً بانتقالها لآسيا الصغرى واليونان وروما لاحقاً، وما تداخل بها من أفكار يونانية ورومانية، فتراكبت صورة المسيح مع زيوس الذي تغلب على والده الإلهي الشرير ونصّب نفسه إلهاً، وصورة أفروديت وفينوس والقديسة هيلين بشخص العذراء أم المسيح، في مرحلة ما، صارت هيلين أم قنسطنطين (أول إمبراطور روماني مسيحي وناشر رسمي للمسيحية بروما وأوروبا) مباركة، وتمازجت صورتها مع صورة العذراء مريم، وصار الابن ممتزجاً بصورة المسيح الذي هو ملك من نوع آخر أيضاً.
إن هذا المزج ليس بجديد على العقل البشري، فالإنسان يتقن تركيب الصور بدماغه على نحو أكثر تعقيداً وتطوراً من الحيوانات، وبالتالي فإن كثيراً من الاستنتاجات والتصورات يمكن أن تطرأ بغض النظر عن مدى منطقيتها. ويستفيد الإنسان من هذه القدرة الدماغية من خلال تزويجه لحضارات ومعتقدات وأفكار لإنتاج ما هو جديد- لكنه متأصل- كما فعل المصريون بعد انتشار المسيحية، إذ احتوت نحوتهم رموزاً فرعونية وثنية ممتزجة بنقوش مسيحية يونانية.
وهكذا، لا يستغرب القارئ سماع أن نظام الطبقات الاجتماعية قادر على أن يطرأ على بلد كباكستان (الهندوسي سابقاً بمرحلة ما)، ولكن الفارق أن الطبقات الهندوسية تزول بالمجتمع الباكستاني، لتحل محلها طبقات أخرى من النسب والجاه والموقع الاجتماعي. لقد نشرت وكالة سي أن أن الإخبارية خبراً قريبا عن حادثة مألوفة بالمجتمع الباكستاني، بحيث تم إيقاع حكم الاغتصاب العلني على فتاة (من قبيلة غوجار) بعمر الثامنة عشرة عبر محكمة قبلية (من قبيلة ماتسوي)، لأن شقيقها (البالغ من العمر أحد عشر عاماً) اتهم بمغازلة فتاة من القبيلة التي أصدرت الحكم، وهي قبيلة أعلى جاهاً ومكانة من قبيلة الصبي وأخته. وتناوب أربعة رجال من قبيلة ماتسوي على اغتصاب الفتاة "بيبي غلام فريد" علناً بحضور والدها وعدداً من أفراد من كلا القبيلتين وقبائل أخرى.
ويشرح موقع سي أن أن الإخباري العربي الجريمة تفصيلياً:
"واشترك في الاغتصاب الجماعي أربعة رجال من أعضاء المحكمة القبلية التي ينتمي إليها والد وعم الفتاة، وعند تنفيذ الحكم قال شهود عيان من الحاضرين بأن الفتاة وضعت على منصة في وسط حشد من الناس يزيد عددهم عن الألف شخص وأُجبر والدها على الجلوس في الصف الأمامي حتى يشاهد عملية الاغتصاب بعينه، وبعد أن تمت الاستعدادات لتنفيذ الجريمة، حضر أربعة رجال واقتربوا من الفتاة التي كانت ترتجف خوفاً وخجلاً.
الشخص الأول والثاني قاما بتمزيق ملابس الفتاة حتى أصبحت عارية تماماً.. ثم بدأت عملية الاغتصاب التي لم تستغرق أكثر من نصف ساعة، وتناوب على اغتصاب الفتاة الرجال الأربعة واحداً تلو الآخر، ولم يتوقف الأمر على الاغتصاب فقط فقد تركوا الضحية ترجع إلى بيتها عارية أمام حشد من الناس.
وقد ناشد والد الفتاة أفراد قبيلة ماستوي بالعفو عن ابنه بحجة أنه صغير السن وتجنيب ابنته هذا العقاب القاسي ولكنهم أصروا على اغتصاب ابنته وفقاً لعاداتهم القبلية فيما يتعلق بالشرف. وتشتهر باكستان بنظام القبائل التي تحاكم أفرادها على جرائمهم خارج سلطة القانون الباكستان". من موقع سي أن أن/العربية.
إذا كان المتلقي لهذا الخبر يحاول جاهداً أن يداري الصعقة والدهشة لفظاعة ما يجري في بلد إسلامي -ومحل فخر الكثير من المتشددين الإسلاميين الأصوليين بإسلامه- فإن الخبر التالي قد يزيد من حالة الصدمة هذه، أو أنه سيأخذ بصاحبه نحو حالة دفاعية تبريرية قد لا تختلف عن تبريرات مغتصبي "بيبي غلام فريد".
ففي عام 2006 قامت محكمة سعودية شرعية بتطليق المواطن السعودي "خالد التيماني" عن زوجته ومواطنته "فاطمة العزاز"، وذلك بناءً على طلب أسرتها بدعوى أن نسبها العشائري يفوق نسب زوج فاطمة.
وما يثير الدهشة أن القضاة قد استجابوا لدعوة الأسرة وتمت عملية التطليق دون الرجوع لصاحبي الشأن، وهو أمر لا يظهر تدني حقوق الإنسان بدولة ومجتمع فحسب، بل وعلى خلاف صريح وصارخ ضد القوانين الإسلامية. تقول السيدة يقين أرتوك (هيئة العنف ضد المرأة/ الأمم المتحدة) التركية معلقة على ما جرى:
"هذا ليس من الإسلام.. هذا مؤكد.. فالبشر سواسية في الإسلام". وهو أمر سننه الإسلام -المساواة- قبل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (المتبنى بعام 1948) بألف وثلاثمئة وثمان وثلاثين سنة، ومع هذا يُخالف في الأرض التي بعث منها الإسلام. وهي مفارقة حزينة توضح التقهقر الثقافي الذي يفتك بالمتجمع السعودي الخالي من دستور أو من قوانين الأحوال المدنية، وإنما يتم كل شيء من خلال الاحتكام لمحاكم دينية متشددة.
ورغم هذه المأساة، لا يجد أغلب السعوديون مشكلة مع حقيقتها، رغم أنها أعيدت مع تطليق المواطن السعودي "سعود الخالدي" عن زوجته ومواطنته "رانيا البوعينين" وذلك بناءً على طلب من والد الزوجة، الذي يعتبر ولياً لأمرها، ولا يشمل القانون أو المجتمع السعودي أي إثبات قانوني أو تداولي يعطي المرأة حرية أن تكون وليّة أمر ذاتها كأي إنسان سوي.
وتستمر الملفات بالظهور، والمجتمع يجد التبرير تلو الآخر، مدعين أن التفريق بين إنسانين متزوجين وسعيدين وعائلة كاملة صحية إنما هو عمل مقبول، ما دامت هذه هي عادات الأجداد (كما يصرح البعض)، بينما يسعى آخر لتتبيل القضية بتعديات من عنده ليثبت أن الزوج كان ذو خلق سيء، وأن الطلاق لم يتم للنسب وعدم تكافئه "رغم أهمية هذا" كما يصرح! إذن، لماذا نرى هذه الحالات وتلك التعليلات بمجتمع خليجي، ولا نراها بمجتمعات عربية أخرى كالعراق أو الأردن أو لبنان أو سوريا أو مصر أو المغرب.. إلخ؟
السبب قد يكون مدهشاً لبساطته، وهو أن تلك البلدان عربية متجانسة، ولم تتعرض لهجرات كثيرة كما تعرض الخليج العربي في سنوات تأسيس تلك البلدان (أو بفترة كسبها أهمية ساحلية في القرن التاسع عشر) وتشجيعها على عمالة مسلمة من الهند وباكستان وبعض الدول الآسيوية. وهؤلاء هم ذاتهم من نقل تلك النزعة الطبقية العدوانية لمجتمعات عربية كانت لا تعاني من هذه المشكلة حتى قرن مضى أو أكثر قليلا. ولا يشمل هذا التغيير الطبقي نظام الزواج، بل يمتد ليشمل الصداقات والعلاقات الاجتماعية في المجتمع ذاته، ومع باقي العرب من دول محيطة.
وما يزيد الطين بلّة هو أن النظام السعودي يعاني من مشكلة اللانظام، فلا يوجد دستور معتمد، وإنما آراء شخصية يمارسها رجال دين يعملون كقضاة في الآن معاً. وكذلك، لا يوجد أي تسامح اجتماعي أو مجال للتجديد، في مجتمع قد أُقنع أو لعله أقنع ذاته من كونه المجتمع الإسلامي المثالي، وأنه بلا نواقص من أي نوع أو صنف.
وبالتالي يرفض أي نقد أو محاولة للإصلاح، ويعامل الناقد أو المصلح بعدوانية فائضة وهجوم سريع على شخصه، لضمان تشتيت هدف النقد وإشغال الناقد بحالة من الدفاع عن التهم الملحقة به، والتي يتحول بعضها لملاحقة قانونية أو فضيحة إجتماعية كما حصل مع الدكتورة عالية الشعيب، التي اتهمت بما انتقدت، وهي العلاقات النسائية الشاذة في المجتمعات الخليجية التي تعاني من كبت شديد وجهل جنسي وعاطفي كبيرين. وتستمر المشكلة، وتتجاوز الحلبة الخليجية لتقفز لباقي الدول العربية، خصوصاً في أسر ذات توجهات أصولية دينية (متشددة) تشابه أو تكون ذات التوجهات التي يؤمن بها ويحافظ عليها المجتمع السعودي خاصة والمجتمعات الخليجية عامة.
هل هذه محاولة تشويه للمجتمعات الخليجية كما سيتهمها البعض؟ كلا، وهي مجرد نظرة مراقب يؤكد أن التغيير قادم لمجتمعات الخليج التي تضيق ذرعاً بالجهل المحتمي بالتشدد الديني، المسيء للدين قبل أي شيء آخر.
واقرأ أيضاً:
دوافع الموقف العربي من صدام حسين/ العَلمانيّة من جديد/ ما الذي يجعل مكانا ما كُرديّا؟