دائما ما لفتت نظري ظاهرة بائعي الجرائد على الأرصفة في مصر. يفرش الواحد منهم الأرض بالصحف والمجلات العربية والأجنبية، وينتهز فرصة ظهور إشارة المرور الحمراء المجاورة له، وعندها تتوقف السيارات بكل أنواعها. ويبدأ في تسويق صحف الصباح لسائقي السيارات الخاصة وركاب سيارات الأجرة حتى تضيء الإشارة الخضراء، ويعود إلى صحفه ومجلاته وكتبه على الرصيف ليبيع الثقافة للناس.
استغربت التناقض بين إقبال الناس الشديد على قراءة الصحف وحتى المجلات التي قد نعتبرها تافهة، وبين ارتفاع نسبة الأمية والجهل والسلوك غير المتحضر وعدم الإلمام بالأحداث هامها وتافهها...
أمام مقر عملي بائع صحف وكتب افترش زاوية من الرصيف منذ سنين... كنز صغير ملقى على الرصيف من الصحف العربية والأجنبية والكتب والمجلات.. تعودت أن أبدأ الأسبوع بالمرور عليه لأتصفح الصحف والمجلات العربية والكتب الجديدة، وأنتقي منها ما أريد، وفي النهاية أقوم بحساب ثمنها، وأدفع له الثمن وأنصرف. ولم يكن لديه متسع من الوقت ليناقشني في ما أدفع أو فيما أشتري، فهو - كما قال لي فيما بعد – "يعرف الزبون الجاد من وجهه"، و"يثق في المثقفين ثقة عمياء".
وعندما أصبحت "زبونة دائمة" عنده، بدأ الرجل يجرُّ معي أطراف الحديث في موضوعات شتى... كنت أطلب إليه أن يحضر لي بعض الصحف والمجلات الأجنبية والمجلات العربية غير المصرية. ولم يخطر لي قط على بال لماذا كان يطلب إلي أن أكتب أسماء الصحف والمجلات الأجنبية التي أريدها لكي يحضرها في اليوم التالي. كنت أعتقد أنه ربما كان مشغولا مع الزبائن الآخرين، أو ربما كانت الذاكرة تخونه، مع أنه لم يتجاوز العقد الثالث من عمره...
وتمر أشهر عديدة قبل أن أكتشف فيه الحقيقة المرة: إن "بائع الثقافة، أمي لا يعرف القراءة ولا الكتابة. وأعترف بأنني صُعقت، ولم أصدق ما قاله لي... يا لها من مفارقة صارخة: بائع الثقافة للناس لا يذوقها ولا يتذوقها... كيف؟!لا أدري...!!
ومع إقراري بحقيقة حجم الأمية في العالم العربي (تشير "المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة" التابعة لجامعة الدول العربية، في تقريرها السنوي للعام 2005، إلى أن عدد الأميين لدى الفئات العمرية التي تزيد عن 15 عاما، يبلغ 70 مليونا أمّي فقط!!...) فإنني لا أتخيل، بأي شكل من الأشكال، أن يكون "بائع الثقافة" أمّيا..!!
إن جهل هذا الرجل بالقراءة والكتابة يمثل -بحق- قاع الأمية العميق جدا في العالم العربي.
بالطبع لا أحتاج أن أؤكد أن مسؤولية محو أمية إبراهيم هي مسؤوليته أولاً... ولكنها ، في الوقت نفسه، مسؤولية كل نظام عربي. ومما يحزُّ في النفس أنه ليس ثمة مؤسسة عربية واحدة، بما في ذلك جامعة الدول العربية (أطال الله بقاءها!!) ومنظماتها المتخصصة استطاعت أن تقيم الدليل على أنها مؤهلة لمواجهة هذا الواقع العربي المحزن.
فإذا كان يحق للعرب أن يختلفوا في الشؤون السياسية، فبأي حق يختلفون على محو الأمية؟!
الاستثمار العربي، هنا، هو الأفضل؛ لأنه الأقل كلفة والأوفر مردوداً... إنه استثمار يحول قنديل الزيت الشاحب إلى مصباح مشع...
وما الذي يحول دون تجنيد "جامعة الدول العربية" أو "المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة" لهذه المهمة ما دامت التجارب العربية في التنمية قد منيت بالفشل الذريع في معظمها، وما دامت الجامعة العربية (بكل أجهزتها) عاطلة عن العمل؟! لماذا لا تتحمل الجامعة العربية عبء هذا المشروع العربي المتواضع، رغم أنه -في تقديري- لا يليق كثيراً بهيبتها التاريخية!!
"جمعية الصداقة الباكستانية - السويدية" تتقاضى من العامل الباكستاني المهاجر إلى السويد أربعين كراونا سويدياً (خمسة دولارات أمريكية) في الشهر لتعلمه القراءة والكتابة باللغتين الأوردو والسويدية.... أي أن تكلفة محو الأمية هنا لا تزيد عن ثمن فنجان قهوة (كي لا أقول كأس ويسكي!!) في أي مقهى يرتاده السياح العرب في أوروبا. ولا أريد هنا أن أتحدث عن الأموال التي يبذرها بعض السفهاء العرب في سهرات حمراء في حانات أوروبا ومواخيرها.
إن هذا الأموال تكفي لمحو الأمية في العالم العربي في المشرق والمغرب. أن القنديل الشاحب، الذي يصير مصباحا مشعا، لن يضيء نفسه فقط، وإنما ينير ويستنير... إلا إذا أصرَّ الزعماء العرب على أن حكم الأمة العربية، بملايينها ال 300 أسهل إذا كان 25% منهم أميين!!
واقرأ أيضًا:
لغة الحرب وحرب اللغة/ كيف تصبح مثقفاً؟!