(رؤية تحليلية لثورة الشباب العربي ضد الهوان)
كان جيل الأجداد يرتعد من العمدة وشيخ الخفراء ويدعو للوالي بطول العمر والبقاء, وكان جيل الآباء يهرب فزعا من أي "بذلة ميري" ويقبل أيدي الحاكم ورأسه وكتفه وربما قدميه ويدعو له بدوام الحكم وتوريثه لأبنائه وأحفاده, وحين ينصرف من حضرته يلعنه في سره فإن لم يستطع ففي منامه. واستقرت هذه الصورة في إدراك أولي الأمر العرب فتعاملوا مع الشعوب العربية على هذا الأساس لسنوات طالت حتى الملل, بعضهم يكتفي بالترهيب وبعضهم يمزج الترهيب الواسع بقليل من الترغيب, وسادت قناعة لدى القاصي والداني بأن الشعوب العربية ليست شعوبا وإنما رعية (مأخوذة من رعي الغنم وليس من الرعاية), وليسوا مواطنين وإنما ضيوف ثقلاء على أولي الأمر إن شاءوا أكرموهم وإن شاءوا صرفوهم أو أهانوهم. واستدعت الذاكرة التحليلية تعرض غالبية الشعوب العربية للإستعمار مرات عديدة من أراذل البشر وبادر المحللون بالقول بأن الشعوب العربية شعوبا قابلة للاستعمار, وحين تحررت تلك الشعوب من الإستعمار الأجنبي وقعت في قبضة بعض أبنائها الذين ألغوا إرادتها وسلبوا خيراتها واستبدوا بها فأصبحت تلك الشعوب توصف بأنها "قابلة للاستحمار".
الآن قد تغير الوضع وظهر جيل جديد لم يفهمه الآباء ولم يفهمه أولي الأمر, جيل لم يتعود تقبيل أيدي أبيه أو عمه أو جده, جيل لا يخشى الكاب أو النجمة أو الدبوره, جيل بدا مستهترا بالضوابط والقوانين فخرج بسيارته يقود بسرعة جنونية ويقطع إشارات المرور, جيل لا يشرب اللبن مساءا ولا ينام مبكرا, جيل تمرد على نظام التعليم وعلى القيم السائدة, جيل دخل على الإنترنت منذ نعوممة أظفاره وتجول في كل المواقع ورأى كل شئ وأي شئ دونما استثناء أو خجل أو استحياء, ورأى وعرف في طفولته المبكرة مالم يره أو يعرفه آباؤه في شيخوختهم المتأخرة, جيل كبرت طموحاته وقصرت إمكانياته, جيل تعرض لإغراءات بالمتعة والرفاهية والصعود ثم اكتشف أن إمكاناته لا تسمح بشئ من ذلك؛
جيل اطلع على أنماط الحياة في دول العالم المتقدم فرأى الحرية والمساواة والعدل وحقوق المواطنة والرفاهية ووسائل المتعة ثم حين أغلق جهاز الكومبيوتر رأى واقعا تعسا في بيته ووطنه, جيل رأى ديموقراطية حقيقية في أكثر دول العالم بينما وطنه مازال يركع للحاكم الأبدي ويدعو له ولأولاده بدوام البقاء, جيل رأى الشفافية في بلاد كثيرة بينما رأى في بلده كل ألوان الفساد, جيل عجز أن تدور أحداث حلمه داخل حدود الوطن فكفر بالوطن وظل ينتظر بلهفة تلك اللحظة التي يعبر فيها الحدود إلى وطن آخر أكثر عدلا وحرية وجمالا وشفافية وديموقراطية وعطاءا, جيل رفض أن يتلوث وعيه بأفكار الآباء الإنهزامية البالية فتمرد على كل شئ حتى على نفسه, جيل وجد بعضه معرضا للإنتحار يأسا وكمدا دون أن تمتد إليه يد المساعدة حتى لو أعذر وأنذر واستغاث وهدد؛
جيل يئس من الكبار الذين تربوا على الكذب والنفاق والفهلوة والغش والخداع والرشوة والمحسوبية والذل والهوان وأخلاق العبيد, جيل يملك الكثير من الإمكانات والمهارات والطموحات ولا يجد لها مكانا في وطنه, جيل عجز عن تحقيق حلمه في زواج من أحبه فتورط في علاقات ألهبت ضميره فاستبدلها بزواج عرفي عله يشعر ببعض الطمأنينة, جيل تلقى تعليما فارغا من المضمون ومتخلفا عن العصر وتسلم في نهاية مشواره المضني ورقة (شهادة) اكتشف أن ليس لها قيمة في سوق العمل أو معترك الحياة, جيل حاول الهروب بالإنغماس في المخدرات أو سماع الأغاني أو مشاهدة الأفلام على الإنترنت ولكنه حين يفيق يشعر بالإنحدار والهوان أكثر فأكثر؛
جيل حاول البحث عن معنى عميق لحياته لدى الدعاة الدينيين فاكتشف أنهم سطحوا فهمه وزيفوا وعيه ودعوه لمزيد من الإستكانة والخضوع لكل كبير واختزلوا قضيته في لحية وثوب وسواك وبعض الطقوس, جيل اكتشف أن حكامه ربضوا على أنفاسه سنوات طوال عجاف وخدروا وعيه بوعود تتجدد مع كل دورة حكم وطالبوه بالصبر حتي تؤتي السياسات نتائجها في المستقبل القريب واكتشف أنه يجري وراء سراب , جيل اكتشف أن ثمة تمثيلية تجري في وطنه يشارك فيها أشخاص يسمون أنفسهم رؤساء أحزاب وقادة معارضة ورموز فكرية وثقافية والجميع في النهاية يسعون لمصالح شخصية ضيقة ويتبنون مواقف براجماتية انتهازية ويعملون على ترسيخ وتثبيت الوضع القائم لأجل غير مسمى.
ربما يشكل "محمد بوعزيزي" في لحظة حرقه لنفسه تجسيدا مكثفا لأزمة هذا الجيل من الشباب العربي, فهذا الشاب قد حصل على مؤهل عال يفترض أن يؤهله لحياة كريمة في وظيفة لائقة, ولكنه لم يجد ذلك وإنما اضطر (كي يعيش) أن يعمل على عربة خضار, ولنا أن نتصور قدر الهوان الذي يشعر به كل يوم وهو يجر أو يدفع عربة الخضار ليعود بقروش قليلة آخر النهار بالكاد تسد رمقه, ولنا أن نتصوره وهو جالس مع نفسه يحلم بشريكة حياته التي حلم بها سنوات طويلة, كيف يتقدم لها ولأهلها بأنه بائع خضار على الرغم من كونه حاصل على مؤهل علمي, وكيف يتخيل حياة أبنائه ونظرتهم إليه وهو يقضي يومه في الشارع على هذه العربة .وللعلم فإن الذين وصفوا محمد بوعزيزي من أهله وجيرانه وأصدقائه ذكروا بأنه كان شابا نشطا واعدا مبدعا ومحبا للحياة, وهذا يجعله أكثر وعيا وألما بما يحدث له.
إذا كنا قد استطعنا أن نستوعب الأزمة التي عاشها بوعزيزي حتى هذه المرحلة فإن بإمكاننا أن نقترب من اللحظة الحرجة التي جعلته يفضل الموت حرقا على تلك الحياة (وهي حالة مرشح لها الكثير من الشباب العربي المحبط), وذلك حين أتت الشرطة لتخطف منه لقمة عيشه الجافة (ممثلة في عربة الخضار) وحين يعترض على ذلك (كأبسط حقوقه الإنسانية) تصفعه امرأة "شرطية" على وجهه فتهين كرامته كرجل وتهين كرامته كمواطن وتهين كرامته كإنسان. وربما يكون في طبقات وعيه إحساس بالهوان والإذلال والغضب من "امرأة" أخرى غير تلك الشرطية, امرأة هي زوجة الحاكم لبلده وهي تتحكم في ثروات البلد وتنتزعها من الشعب وتوزعها على أقربائها, أو يكون في طبقات وعيه امرأة أخرى يذهب ليتقدم لخطبتها فتنظر له باذدراء على أنه بائع خضار في الشوارع, أو امرأة أخرى أحبها وحلم بزوجها ولكنها هجرته نظرا لحاله المتردي.
إنه إحساس الهوان والإذدراء ذلك الإحساس الذي يسيطر على كثير من الشباب العربي وهو يرى نفسه "لاشئ" ولا يعبأ به أحد ولا يهتم به أحد ولا يحترمه أحد. تلك هي اللحظة الفاصلة التي شعر فيها بوعزيزي بمشاعر مركبة ومعقدة منها غضبه الشديد من المرأة التي أهانته وأذلته ومن الحكومة التي أفقرته وسلبته حقوقه وحريته ومن الناس الذين خذلوه ولم يدافعوا عنه في محنته, وربما كره نفسه لأنه رضي بالمهانة والذل والخضوع, ولأنه ضعيف أمام كل هذه القوى المسيطرة عليه فقد توجه بغضبه وعدوانه نحو ذاته فدمرها بأقصي درجات التدمير وهي الحرق, وكانت صورته وهو منحني أو راكع تحت وطأة الألم والشعور بالهوان ملهمة ليس فقط للشعب التونسي كي يهب ويطالب بحقوقه, ولكن للشعوب العربية كلها التي عاشت نفس الظروف بأشكال مختلفة.
وتوالت أحداث الإنتحار حرقا بين أفراد عديدين في أكثر من بلد عربي ربما تقليدا لنموذج بوعزيزي الذي نال شهرة إعلامية واسعة وربما رغبة في أن يتكرر سيناريو التحرر التونسي في بلاد عربية أخرى تهفو نحو التغيير من سنوات طويلة وربما لإثارة الإنتباه نحو معاناة الناس لدى سلطات عربية فقدت القدرة على سماع معاناة الناس مهما ارتفع صوتها, وربما انتقاما من ذات المنتحر وكراهية واحتقارا لها لأنها رضيت بالذل والهوان سنوات طوال, ومن هنا نستطيع القول بأن ظاهرة استشرت في العالم العربي وهي "حرق الذات" أو "الإنتحار الإحتجاجي" أو "البوعزيزية".
واستنفر المستبدون على طول الوطن العربي وعرضه كلهم يرددون عبارة واحدة "نحن لسنا مثل تونس", والجميع يعلم بأنهم "أسوأ من تونس" لأنهم يمارسون القهر السياسي والفساد بطرق ملتوية, وهنا فقط يصدق قولهم. وقد فوجئ هؤلاء الذين حاولوا الإستمرار في الإنكار بموجات الإحتجاج والغضب تجتاح شوارعهم طلبا للخبز والحرية والعدل والمساواة والديموقراطية, حدث هذا في مصر واليمن والجزائر والأردن والسودان ولبنان.
والمراقب للأحدث والتداعيات يدرك بوضوح أننا أمام ثورة شعبية عربية حقيقية لايحركها تجار السياسة ولا يحركها المنظرون والفلاسفة, وإنما يحركها ذلك الشباب الذي وصفناه آنفا بكل مزاياه وعيوبه, وقد نجح فعلا هذا الشباب في تحريك الشارع العربي بقوة وفعالية بعد أن يئس الجميع من إمكانية قيامه من سباته العميق, وكان الرأي السائد هو أن الشعوب العربية شعوبا ليست ثورية بطبيعتها, وأنها شعوبا منقادة قابلة للإستهواء والإستلاب والقهر والإغواء والإحتواء والإستعمار والإستحمار, فإذا بهذا الشباب يغير هذه النظرة ويفعل شيئا مختلفا. ولقد استخدم أدوات جديدة على الجيل القديم, تلك الأدوات التي كان يقضي فيها ومعها ساعات طويلة مثل الإنترنت والموبايل, هاهو الآن يستخدمها للحشد والتنظيم , وينشئ بها غرف عمليات, ويدير بها المظاهرات والإعتصامات بشكل حيّر المراقبين وأدهشهم.
وشعور الهوان لدى الشباب العربي ليس فقط من العوامل والظروف الداخلية وإنما من القهر الخارجي الذي يعانيه حين تتعامل إسرائيل وأمريكا مع بلاده وغيرها من البلاد العربية بقدر هائل من الإستعلاء والإحتقار والإذلال, وحين يحاول أن يأخذ موقفا تجاه كل هذا يفاجأ بموانع وعقبات داخلية, ويفاجأ باستسلام وتسليم أولي الأمر, ويفاجأ بضياع الحقوق العربية وامتهان الكرامة العربية واحتلال الأراضي العربية وسلب الإرادة العربية واحتقار الذات العربية.
وإذا حاولنا قراءة الشعارات المرفوعة في المظاهرات الأخيرة في تونس ومصر والجزائر واليمن والأردن ولبنان وغيرها فهي تتركز حول لقمة العيش والبطالة ورفض الإستبداد والمناداة بالحرية والعدل والمساواة ورفض التمديد والتوريث, ووراء كل هذا تجد محورا هاما وهو الشعور بالهوان, ذلك الشعور الذي أصبح يسيطر على المواطن العربي ويوخز وعيه, ويزداد ذلك الوخز كلما ازدادت مساحة الوعي, ومساحة الوعي تزداد كل يوم خاصة مع الوسائط الإعلامية الحديثة والمتعددة.
والصورة الآن هي كالتالي: أنظمة حكم عربية شاخت على كراسيها وتجاوزها الزمن منذ سنوات بعيدة وهي مصرة على التشبث بكراسيها بأي ثمن وبأية طريقة حتى لو تفتتت أو ضاعت الأوطان, وحتى حين تشعر باستحالة أن تعيش للأبد تسعى لتوريث السلطة للأبناء, وفي حالات الخطر نراهم يركبون طائراتهم ويحملون أموالهم ويتركون الوطن يحترق بأهله ويعيشون في رفاهية في البلد الذي يقبل إقامتهم, وفي المقابل نرى شبابا تفتحت عينه على عوالم وتقنيات حديثة وأفكار جديدة لاتفهمه تلك الأنظمة ولا تتواصل معه ولا تضعه في الإعتبار, وهذا الجيل ليس قابلا للخداع أو للإحتواء أو للإستهواء كما كان الحال مع جيل الآباء والأجداد, فهو أكثر وعيا وأكثر اطلاعا على الثقافات وأكثر تواصلا مع العالم الخارجي المتقدم, وأكثر تمردا, وأكثر معاناة, وأكثر طموحا وأقل إمكانيات وفرص.
ومن هذا الفارق في التوقيت نفهم ثورة الشارع العربي على أيدي هذا الجيل الشاب المختلف الذي لم يفهمه زين العابدين بن علي (على الرغم من ادعائه بالفهم بعد فوات الأوان) ولا يفهمه بقية الحكام العرب الذين ظنوا أن بإمكانهم إيقاف عجلة الزمن أو على الأقل ضبط إيقاعه على إيقاع قلوبهم وأفكارهم البطيئة بحكم الشيخوخة.
واامشكلة لا تنحصر فقط في فارق التوقيت وفارق السرعة وفارق الإيقاع بين هذا الجيل الجديد والجيل الذي يحكم ويتحكم, وإنما تتمثل –كما ذكرنا- في شعور عام بالهوان لدى المواطن العربي شابا كان أو مسنا, فالجميع يشعر بالتهميش والإستبعاد على المستوى السياسي, حيث لا انتخابات ولا مظاهر حياة ديموقراطية في بعض الدول, أو انتخابات مزورة وديموقراطية شكلية خادعة في دول أخرى, والنتيجة النهائية حالة من الإستبداد المتواصل بلا نهاية ينتج عنها حالة من الفساد تجعل السلطة والثروة في أيدي حفنة قليلة من المنتفعين الإنتهازيين بينما غالبية الشعب يعيش على بقاياهم ويفتقد الحياة الكريمة.
وثمة تصرفات كثيرة ترسخ حالة الهوان لدى المواطن العربي, ربما نكتفي بذكر بعضها في الحالة المصرية كمثال, فعلى الرغم من كثرة المعاناة في الحياة اليومية المصرية, ومحاولة الشكوى والإحتجاج, والنوم على الأرصفة لأيام وأسابيع أمام مجلس الشعب ومجلس الوزراء ومجلس الشورى إلا أن الإستجابة لهؤلاء الشاكين والمتوسلين والمتسولين تكون إما منعدمة وإما ضعيفة للغاية, والسمة السائدة هي التجاهل وصم الأذان من المسئولين.
وتستمر المعاناة في التعليم وفي الصحة وفي الشوارع وفي المصالح الحكومية وفي أقسام الشرطة والمحاكم وفي كل مكان دون وجود علامات تغيير حقيقي وكل مايراه أو يسمعه المواطن هو بيانات حكومية متكررة تؤكد أن معدلات النمو الإقتصادي في ارتفاع, ثم يكتشف أنها ارتفعت فعلا ولكن لدى الطبقات الأكثر غنى بينما يزداد هو فقرا وحاجة كل يوم, ويخرج منظرو الحزب الوطني كل يوم يتحدثون عن إنجازات عملاقة ويعدون المواطن أنه يحتاج لبعض الوقت كي يشعر بتلك الإنجازات, وأن المشوار مازال طويلا على طريق التنمية وعليه بالصبر, وكأنه لم يصبر عليهم ثلاثين سنة مضت بلا نتيجة اللهم إلا زيادة المعاناة.
ويحلم الناس بتغير الوجوه والسياسات عن طريق صندوق الإنتخابات, ولكن يفجأ الجميع بتزوير انتخابات المجالس المحلية ومجلس الشورى ومجلس الشعب, فتزداد حالة اليأس ويزداد الغضب ويتراكم خاصة مع خروج أقطاب الحزب الوطني يتباهون بانتصارهم العظيم وسحقهم للمعارضة وإزالتها من الوجود وكأن المعارضة مرض أو فيروس ضار نفخر بإزالته من الحياة السياسية. وحين تنغلق فرصة التغيير عن طريق صندوق الإنتخابات لا يبق إلا التغيير بالإحتجاجات والمظاهرات والضغط الشعبي, وهذا ما حدث في 25 يناير 2010 م ومازال مستمرا.
وحين حدث ماحدث لم ينتبه السئولون في هذا البلد ولم يفيقوا, ولم يتفهموا ثورة هذا الجيل الجديد المختلف, وتعاملوا باستخفاف واستعلاء مع الحدث (وتكررت نفس العبارات التي ذكرت في تونس من أنهم قلة مندسة أو مجموعة تحاول أن تركب الموجة وتهدد الإستقرار), ومرت ثلاث أيام والشوارع مشتعلة في أكثر من مدينة مصرية وسقط ضحايا أعزاء من أبناء مصر من الشباب الثائرين ومن الضباط والجنود, ولم يخرج علينا أحد من كبار المسئولين يطيب الخواطر أو يدعو للهدوء وضبط النفس أو يعد بتلبية بعض المطالب المشروعة (وكلها مشروعة), وإنما هي حالة التجاهل والإستعلاء وحالة الإحتقار للشعب وكأنه لا يستحق أن يخرج عليه مسئول كبير يخاطبه أو يخطب فيه أو يحاوره أو يهدئ من روعه, وإنما تنحصر الإستجابة في تصدير قوات الأمن المركزي تفرق المتظاهرين بالقنابل المسيلة للدموع أو بخراطيم المياه الجبارة أو بالرصاص المطاطي والحي ليموت من يموت ويصاب من يصاب ويشتبك رجال الشرطة (المصريون) مع المتظاهرين الجوعى والمحبطين والمقهورين والغاضبين (المصريين), بينما يجلس الكبار متعالين مترفعين في أبراجهم العالية, وهذا يرسخ الشعور بمزيد من الهوان الذي هو مستقر في النفس منذ سنوات ويكمن وراء ما يحدث وما سوف يحدث.
وللأسف الشديد كان التعامل الأمني هو الأسلوب المتبع في كل الحالات على مدى العقود الثلاثة الماضية, حيث يوكل للأمن التعامل مع الناس مع غياب الحلول السياسية وغياب الحوار بين السلطة والمجتمع, وغياب القدرة على الإنصات لصوت الشارع مباشرة, وقد ألقى هذا أعباءا شديدة على الجهاز الأمني وورطه في مواجهات مع الناس أثرت على إدراك رجل الشارع لذلك الجهاز المهم, وربما نفهم ذلك من اختيار القائمين على المظاهرات ليوم عيد الشرطة ليكون موعدا للإحتجاج.
والسؤال الآن: ماهي التوقعات لتلك الحالة الثورية التي أصابت الشارع العربي, وامتدت من تونس إلى الجزائر إلى مصر إلى الأردن واليمن ولبنان والسودان؟
غالبا ستمتد تلك الحالة وتحدث تغيرات جذرية وتغير التوقعات التقليدية من الشارع العربي, وذلك لأن القائمين بها جيل مختلف شعر بالهوان ولم تعد ترضيه وعودا ببعض الوظائف أو زيادة المرتبات فالأمر تجاوز ذلك بكثير, ومازالت الأنظمة العربية تعيش حالة من الإنكار وضعف الرؤية وضعف السمع واضطراب الإدراك لما يجري في الشارع على أيدي هذا الجيل الجديد المختلف.
واقرأ أيضاً:
ساخن من مصر: أيام الغضب الثلاثاء/ حكاوي القهاوي (21)/ الأخ المدني وأخية المـيري