حي صيادة.. من أشهر إحياء المدينة المنورة.. لأن بيوته تطل على الحرم النبوي مباشرة.. على ساكنه أفضل الصلاة وأتم التسليم..
من بين بيوت الحي.. بيت الشيخ جعفر.. ولد الشيخ جعفر سنة 1900 م ، كان طويل القامة ممشوقا، حنطي اللون يميل إلى البياض أكثر، حسن الملامح، تزين وجهه لحية بيضاء كاملة ويضع على عينيه نظارة طبية، يتميز بأناقة بادية في ملبسه ومسكنه، يحترم المواعيد والعهود بدقة والتزام متناهيين، يرتدي العباءة العربية والغترة البيضاء التي تميز أهل الحجاز دون عقال.. ربما كان متواضع المال.. ولكنه عظيم الهيبة واسع العلم..
توارث هذا البيت عن أجداده.. بيت بسيط، لكنه شديد النظافة والترتيب كعادة ساكنيه.. البيت مصمم على التراث الحجازي البسيط والجميل.. أول دخولك إلى البيت تجد "المقعد" أو ما يسمونها (الدكّة)، هي ذاتها صالة الاستقبال في بيوتنا الحديثة..
امتاز بيت الشيخ جعفر بوجود حديقة تتوسط أرض الحوش.. تزخر بأشجار النخيل التي تشتهر بها المدينة المنورة.. كانت العائلة كلها مكونة من الأب والأم وأولادهم وأزواج أولادهم وأطفالهم يلتمون حولها وقت الأكل ويستمتعون بجمال منظر النخيل والأزهار والماء الرقراق العذب يتدفق من النافورة التي تتوسط الزرع..
حول "المقعد" تتوزع غرف البيت.. أهم غرفة هي "الديوان" على يمينك مباشرة -وهي غرفة الضيوف في البيت أو ما يُعرف حاليا بمجلس الرجال- تطل على الحديقة الصغيرة بكل زرعها وأشجارها، وعلى يسارك "القاعة".. وهي غرفة التهوية والإنارة، وفي ركن آخر "بيت البير" حيث مكان البئر الذي يمد البيت بالماء..
وفي كل غرفة نافذة كبيرة تطل على شارع الحي، تُسمى هذه النافذة بـ "الروشان" مثله مثل جلسة "البلكونة".. على حافتها توضع القُلل وأحواض الزرع..
كم من قصص وحكايات نُسجت ورويت حول هذه الرواشين الجميلة، وفنجان الشاي بالنعناع المديني المميز يدفيء روحك قبل أناملك التي تمسكه بها.. لتنظر بين الحين والآخر من فتحات الروشانة وتكحل عينيك برؤية الحرم المدني الشريف..
هناك عاش الشيخ جعفر.. وفي المسجد النبوي -الجامعة الإسلامية الكبرى- تلقى كل العلوم الفقهية والدينية، وعلى هذا ربى إخوته الثلاث بعد وفاة والده ومن بعدهم قام بتربية أولاده تربية حازمة صارمة على التدين والعمل والاعتماد على النفس..
كان حب المدينة المنورة يغرق كل كيانه ووجدانه ككل رجال المدينة وأهلها، فوهب عمره لخدمة مسجد رسول الله عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، وقضى عمره في استضافة ضيوف الرحمن من المعتمرين والزائرين لسيد الخلق أجمعين عليه الصلاة والسلام -من مصر ومن تركيا خاصة-، من أجل ذلك كان لا بد من إعداد البيت ليكون سكنًا وراحة لهم، فقام يبني بنفسه غرفة ملحقة بالبيت خاصة بكبار الزوار.. من العلماء والرؤساء وأهل الأدب والدين، وألحق بها مكتبة ضخمة أسماها (مكتبة الإخاء الحجازية)، وكان التعاون قائم بينها وبين مكتبة (البابي الحلبي) الشهيرة بالقاهرة، ومكتبة الشيمي (بالإسكندرية)، في تبادل كتب السيرة والتراجم والأدبيات..
وعندما دخل الملك عبد العزيز آل السعود الحجاز.. كلف الشيخ جعفر وصديقه الشيخ محمد توسعة الحرم المدني الشريف خدمة لحجاج بيت الله الحرام وعونا لهم على قضاء مناسكهم.. في عام 1944 م
كان ذلك أمرًا في غاية الصعوبة.. فهدم أي جزء من الحرم النبوي الشريف لاستبداله بآخر ليس بالأمر السهل.. فمجرد إحداث إزعاج بالطرق والبناء على مسمع من رسول الله وصاحبيه الكريمين أمر يورث الهم والخوف مما يجعل صاحبه عاجزًا عن قبول المهمة..
لم يجد الشيخ جعفر وصديقه الشيخ محمد سوى أن يصليا ركعتي استخارة في روضة الحرم النبوي الشريف ويسألا الله أن يهديهما لما فيه خدمة مسجد رسوله وراحة زواره..
الله أكبر..
وارتفعت الأكف راجفة.. والأعين دامعة.. والأنفاس لاهثة..
اللهم إنا نستخيرك بعلمك ونستقدرك بقدرتك ونسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا نقدر وتعلم ولا نعلم وأنت علام الغيوب.. اللهم إن كان فيما وُكِل إلينا من عمارة وتجديد مسجد رسولك فيه خير لنا وللمسلمين..
وبدون مقدمات.. قطع عليهم الدعاء رجل أبيض البشرة.. سمح الخلقة.. نظيف الملبس..
-الشيخ جعفر..
-نعم..؟؟
-امضي على بركة الله و لا تخف .. ومضى الرجل مدبرًا ..
أكان إنسًا ام ملكا ؟؟ أكان تسخيرًا أم إلهامًا ؟؟..
لم يملك أحد من الشيخين الرد.. وظلا على ذهولهما ولم يفيقا إلا على صوت أذان صلاة العصر..
وبدأ العمل على توسعة الحرم النبوي الشريف.. عام 1950 م، وخلال العمل.. انتبه الشيخ جعفر إلى ما لم ينتبه إليه غيره.. إذ أن أعمال إزالة الأجزاء القديمة من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في إطار التوسعة اقتضى تغيير معالم المسجد القديمة التي عرفه العالم الإسلامي عليها لعقود، وهدم جدران بما تحمله من لوحات و نقوش فنية وآثار بديعة، وكان تداعي السقوف القديمة لتقوم أخرى مكانها سيأتي على ما عليها من الثريات الأثرية الأصيلة الصنع والمعلقات والأسرجة النفيسة التي عمرت مئات الأعوام في المسجد، هذا بالإضافة إلى ما كانت عليه بعض الدور والمواقع حول المسجد من مظاهر معمارية وأثرية، وما احتوته من تصاميم فنية عريقة، والتي تشكل تحفًا وآثارًا تاريخية وإسلامية لا تقدر بثمن.
من أجل كل ذلك و تقديرًا منه لهذه الخصوصية والمكانة لمقتنيات مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.. لم يدخر جهدًا في نسخ صور لكل المعلومات والوثائق والخرائط وكل ما يدخل من باب التاريخ والحفظ، وما دفعه لذلك إلا حاجة الأجيال القادمة للاطلاع على ذلك التاريخ و معرفته من مصادره التي يجب صونها وحفظها لهم كما كتب ذلك في تقديمه لإحدى مؤلفاته عن توسعة الحرم المدني الشريف.. وضم كل ذلك في مكتبته..
و هكذا كان لبيت الشيخ جعفر بجوار مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم.. له من الصيت والشهرة كملتقى أدبي قائم على مدار العام، يشهد ذروته عند مواسم الحج، يرتاده كبار علماء ومفكري المدينة المنورة والعالم العربي والإسلامي من أعيان مصر وبيروت ودمشق واسطنبول.. وانهال طلبة العلم والباحثون في مراحل الدراسات العليا على اتخاذ المكتبة مرجعًا لهم ومصدر توثيق لكثير من بحوثهم.
من أجل ذلك حرص الشيخ جعفر من خلال أسفاره المتعددة على اقتناء لوازم الضيافة المتمثلة بأطقم أواني الطعام والثريات التي كانت تُضاء بالكيروسين، وأطقم من المغاسل و غيرها من المستلزمات المعيشية التي لم تكن متوفرة في أسواق المدينة المنورة وقتها، وبلغ من شأن الديوانية و قاصديها أن اقتنى الشيخ جعفر في إحدى أسفاره عام 1940 م جهاز مذياع، زين به صدر مجلسه ذاك، و قد كان من فرادة ذلك الحدث أن خصص له رجل مسؤول عن تشغيله وتوصيله ببطاريته، وضبطه على قنوات الأنباء و الأخبار، يستمع إليها من يجمعهم المجلس فتُحلى أحاديثهم وتوسع آفاق محاوراتهم، قبل أن يغلق المختص الجهاز لليوم التالي.
وظلت الحياة على هذا المنوال، الضيوف يزدادون، وزرع الحديقة يكبر ويكثر، وكل من يجلس في الديوانية يمتدح جمال الحديقة وتنسيق النخيل بها.. كان من بين الضيوف الذين شرفوا الديوانية ودار الضيافة الملحقة ببيت صيادية: الرئيس محمد نجيب، ومن بعده الرئيس جمال عبد الناصر، رحمهما الله
ومن بين الزرع والشجر الكثير ظهرت نخلة ضخـــــمة.. خرجت في ارتفاعها عن تنسيق كل أشجار الحديقة، والعجيب أنها كانت لا تثمر و لا تنتج بلحًا.. فكان منظرها منفرًا، و كثيرًا ما تسلقت القطط السور من الخارج لتدخل عن طريقها ـ لشدة ارتفاعها ـ إلى حوش المنزل فتتلف الأرض والزرع..
فانزعج الشيخ جعفر من وجودها وكبر حجمها المهول وما تلحقه من أذى.. فقام بنفسه ـ كالعادة ـ دون أن يستعين سوى بأبنائه.. وأحضر ونشًا ضخما محاولا أن يقتلع النخلة من جذورها.. فأبت النخلة أن تتزحزح قيد أنملة، حاول مرة ثانية، ربط النخلة بحبل غليظ بينها وبين الونش وحرك الونش ليقتلع النخلة.. أبدًا.. ولا سعفة واحدة منها .. حاول اليوم الذي يليه.. ولكنها لم تتحرك أيضًا.. النخلة ثابتة في مكانها بوضعها العجيب ومنظرها المشوه للحديقة .. دون أن تضع تمرة أو بلحة واحدة ..
كل من يأتي للديوانية أصبح يعلق على منظر النخلة.. "شيلوها يا شيخ جعفر".. وأخذ كل منهم يقترح طريقة لاستخراجها من مكانها.. وبائت كل المحاولات بالفشل.. والأدهى أنه من جذع النخلة هذه .. خرج جذع آخر .. بمعنى أن نخلة تخرج من جذع نخلة.. والجذور بينهما مشتركة.. مما يزيد من تثبيت النخلة الأساسية في الأرض.. فيأس الشيخ جعفر من إخراج النخلة من مكانها.. ولم يجد بُدًا من إبقائها في مكانها هي والنخلة المُتفرعة منها ..
ومضت السنون.. وظل بيت الشيخ جعفر منارًا للعلم.. وظلت المكتبة حاوية لتراث وعلوم المسجد النبوي الشريف..حتى كان عام 199م.. بلغ الشيخ جعفر عامه التسعين.. محافظًا على صحته ووقاره وهيبة طلته.. دون أن يعاني جسده من كثير من الأمراض التي تغزو جسد من هم في مثل سنه..
ولكن لكل مرحلة ظروفها.. فقل نشاطه العملي كثيرًا عن ذي قبل.. وما عاد قادرًا على الذهاب للصلاة في المسجد النبوي الشريف عند كل فرض.. وظل في بيته قائمًا متعبدًا يلتف من حوله أولاده وأحفاده في مزيج من الحب والإجلال والتوقير والعطف..
وظلت النخلة وجذعها الصغير مٌلحقا بها.. على درجة صلابة و شموخ صاحبها.. لا تقبل أن يقتلع أحدًا شيئًا من جذورها العميقة في الأرض.. حتى اعتاد أهل البيت على منظرها.. بل وأصبحوا يألفون ويحبون وجودها..
وذات يوم.. عادت إحدى بناته من المدرسة التي تعمل بها.. لتجد ورقة صغيرة مٌلقاة أسفل باب المنزل..
كان أمرًا بإخلاء منازل حي صيادة ..
فهي منطقة حيوية.. قريبة من الحرم النبوي الشريف، فكان لابد من الاستفادة من هذه الأرض وإنشاء الفنادق والعمائر الشاهقة.. استقبالاً لزوار مسجد رسول الله..
كان وقع الخبر قاسيا على الشيخ جعفر.. فهذه دار أجداده .. بل هي دار كل ضيف على مدينة رسول الله وكل زائر له عليه الصلاة والسلام.. فأي دار ستحوي ما يحويه بيت صيادة من عبق وذكريات ومقتنيات وآثار؟؟..
ولكن.. كان لابد من الخروج، ومكث الشيخ جعفر في بيت ابنه الكبير لحين بناء بيت جديد لهم.. ولكن في كل مرة يطلب فيها أولاده أن يذهب معهم ليرى بناء المنزل الجديد.. كان يرد قائلا: هو بيتكم يا أولادي وليس بيتي أنا أبدا.. ولطالما ألحت عليه نفسه الذهاب لزيارة موقع بيت صيادة.. و لكنها لم تطاوعه أبدا..
إلى أن جاء يوم .. طلب فيه أبناءه أن يأخذوه إلى هناك.. فذهبوا جميعًا .. وتقدمهم الشيخ جعفر.. ليس إلى البيت .. فما عاد هناك سوى أرض جرداء خالية من أي دار أو حدار .. كل شئ تم هدمه وسحقه بالتراب بعد أن حمل الناس أمتعتهم أغراضهم تاركين دورهم.. ما عدا شيء واحد.. كان هو رمز الحياة الوحيد في تلك البقعة الصامتة.. إنها النخلة الغريبة وجذعها الصغير الخارج منها..
مشى الشيخ جعفر بخطوات بطيئة.. وعيناه تملأهما الدموع نحو النخلة.. وتلمس بيد مرتعشة لساقها الغليظة.. وأحاطها بكلتا ذراعيه.. لتتساقط دموعه عليها.
"يا نخلة، كنا نبغى نقلعك من أرضنا.. رحتي إنتِ سبقتينا، وقلعتينا من جنبك"..
والتفت لأولاده قائلاً: هذه النخلة وفرعها.. هي أمكم وأبوكم.. فارعونا برعايتها..
وظلت النخلة.. حتى عام مضى من كتابة هذه الأسطر.. معلمًا لبيت الشيخ جعفر في حي صيادة.. ولم يمضي شهر على ذلك اليوم.. إلا وكان الأجل المحتوم قد نزل بالشيخ جعفر.. وهو في دار ابنه، قبل أن يرى بيته الجديد.. فكانت كما قال: ليست داره أبدا..
أما مكتبته بمقتنياتها فقد أتم أبناؤه من بعده إعادة تنسيقها وتنظيمها دون صاحبها الذي أقامها..
دفن رحمه الله في بقيع المدينة المنورة 1991.. التي عاش بها وأحبها ومات من أجلها .. ولكن الله أبقى النخلة التي طالما انزعجوا من وجودها لتكون نبراسًا لهذا البيت الذي أفنى صاحبه عمره كله خدمة لدين الله ومسجد رسوله صلى الله عليه وسلم ..
رحم الله الشيخ جعفر رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته ..
واقرأ أيضاً:
نـا حينَ لا تَدُلُ !!/ الفرق !/ تقوى!/ كوفاد/ من قصيدة لبغداد/ الجنون بالكتابة/ جَـوازٌ لا يَـجُـوزُ!/ ذَوَبَـان!/ عبث الفرشاة!/ عَـفْـوُكَ يا ألـلـهْ !/ آخر العمى/ خُـلاصَـةُ!